في مقال رأي، عوام يكتب: الموازنة في التصويت الانتخابي واجب شرعي ومبدأ عقلي

من تأمل القرآن الكريم، وتدبره حق التدبر، وجده في كثير من الآيات الكريمات يشير إلى مبدأ أصيل، وقاعدة نفيسة، مبدأ الموازنة، وقاعدة الأولويات، والترجيح بين المفاسد والمصالح، وكل ذلك ينصب في بناء التفكير الإنساني، بناء محكما وفعالا ومتفاعلا مع واقعه وقضاياه، لا مجرد تفكير سلبي، يركن إلى الجمود، ويستمرئ السلبية والغوغائية، ويتأثر بالإشعات، ويصدق الأراجيف من غير بينة واضحة، ولا برهان لا ئح.
من الآيات الدالة على الموازنة والأولويات:
قوله سبحانه وتعالى: “أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا.” (الكهف: 79)
فالمتأمل والمتدبر في حال السفينة وما ستؤول إليه، لا ريب أنه سيجد ضرر الخرق أقل من ضرر الغصب، وهذا لا يدرك إلا بالموازنة. لأجل ذلك تصرف الخضر عليه السلام بما تقتضيه الحكمة والمصلحة الراجحة، التي تكمن في المحافظة على سفينة المساكين، ولم يكن ذلك إلا بتحمل ضرر الخرق. قال الإمام القرطبي رحمه الله: “ففي هذا من الفقه العمل بالمصالح إذا تحقق وجهها، وجواز إصلاح كل المال بإفساد بعضه.” (الجامع لأحكام القرآن 11/25) وهذا من باب “دفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما” و”حفظ الأكثر بتفويت الأقل” وهو من أحسن التصرفات كما نص عليه العز بن عبد السلام في قواعده. (2/108، 158)

ومما ألمع إليه ابن عاشور في شأن تصرف الخضر عليه السلام المصلحي قوله رحمه الله: “وتصرف الخضر في أمر السفينة تصرف برعي المصلحة الخاصة عن إذن من الله بالتصرف في مصالح الضعفاء، إذ كان الخضر عالمًا بحال الملك، أو كان الله أعلمه بوجوده حينئذ، فتصرف الخضر قائم مقام تصرف المرء في ماله بإتلاف بعضه لسلامة الباقي، فتصرفه الظاهر إفساد وفي الواقع إصلاح لأنه من ارتكاب أخف الضرين.” (التحرير والتنوير 16/12).
وقوله عز وجل على لسان موسى عليه السلام: “قال يبنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي.” (طه: 94)

وهذا ضرب آخر من الموازنة لا يلتفت إليه المتسرعون، ولا يدركه من لهم بصر كليل، يبصر به فقط لونين، أبيض وأسود، بالرغم من وجود طيف من الألوان، يمكن أن يختار منها المناسب من غير عناء ولا مشقة. فالآية الكريمة تنص على أن هارون عليه الصلاة والسلام وازن بين الإبقاء على وحدة بني إسرائيل، وجمع صفهم إلى أن يأتي موسى عليه الصلاة والسلام، وبين تفريقهم جماعات، مما قد ينجم عنه اقتتالهم، واشتداد خصوماتهم. فترجح عنده الحرص على إبقاء كلمتهم ووحدة صفهم، وإن كانوا ما عليه مخالفًا للعقيدة الصحيحة، وهي من غير شك مفسدة. وهذا من باب رعاية المصالح وتقديم أعلاها مرتبة. وعلى هذا أكد نجم الدين الطوفي حينما طفق يبين ما انطوت عليه الآية من الإشارات الأصولية والدلالات المصلحية والمقاصدية فقال: “فيه جواز التصرف في الأحكام والسياسات بحسن رعاية المصالح، لأن هارون حصل أعلى المصلحتين عنده، وهو جمع بني إسرائيل وتأليفهم، ودفع أعظم المفسدتين، وهو التفريق بينهم، وإن استلزم ذلك مخالفة أمر أو ارتكاب نهي، وأن المتصرف بحسب المصلحة مؤديًا للنصيحة معذور.” (الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية 430).

وقد نص على مثله ابن عاشور حين اعتبر صنيع هارون عليه السلام من باب تقديم مصلحة تقديم الجامعة من الهرج على تقديم العقيدة إذا تعارضتا، فقال رحمه الله فيما نصه : “وهذا اجتهاد منه في سياسة الأمة إذ تعارضت عنده مصلحتان؛ مصلحة حفظ العقيدة ومصلحة حفظ الجامعة من الهرج، وفي أثنائها حفظ الأنفس والأموال والأخوة بين الأمة فرجح الثانية. وإنما رجحها لأنه رآها أدوم فإن مصلحة حفظ العقيدة يستدرك فواتها الوقتي برجوع موسى وإبطاله عبادة العجل حيث غيوا عكوفهم على العجل برجوع موسى. بخلاف مصلحة حفظ الأنفس والأموال واجتماع الكلمة إذا انثلمت عسر تداركها.” (التحرير والتنوير 16/293).
وهذا النوع من الموازنة كثير في القرآن الكريم وفي السنة النبوية الشريفة، ومنها تصرفاته عليه الصلاة والسلام في تدبير شؤون دولته وأمته، لا يتسع المجال للإفاضة في ذكرها وتقصيها. فما على المصوت في الانتخابات إلا أن يدرك هذا المنحى التأصيلي الشرعي، لأن تصرفات المكلف يجب أن تخضع للشرع، لا لداعي الهوى وحظوظ النفس.

أما عن المبدأ العقلي فتحكمه قاعدة نفيسة، وهي أن تصرفات العقلاء منزهة عن العبث، لأنها مبنية على الرشد وتحمل الأمانة والمسؤولية، والتصويت الراشد من هذا القبيل، إذ هو تصرف عقلاني راشد، يعي ما يصنع، ويدرك ما يفعل، بعيدا عن الانفعالات.
وتحضرني هنا جملة من النصوص المفيدة لأئمة كبار. فقد نقل ابن عبد البر عن الشافعي أنه قال: “ليس العاقل الذي يقع بين الخير والشر، إنما العاقل الذي يقع بين الشرين فيختار أيسرهما.” (الانتقاء 157).
وقال ابن تيمية: “العاقل يزن الأمور جميعًا هذا وهذا.” (منهاج السنة النبوية). ويقول –كذلك- في معرض حديثه عن اجتماع الحسنات والسيئات في الشخص الواحد أو الفعل الواحد، داعيًا إلى إعمال الموازنة بين الأمرين: “فهذا طريق الموازنة والمعادلة، ومن سلكه كان قائمًا بالقسط الذي أنـزل الله له الكتاب والميزان.” (الفتاوى 10/366).
وينقل ابن تيمية عن العلماء قولهم: “ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين، وينشد:

إن اللبيب إذا بدى من جسمه
مرضان مختلفان داوى الأخطرا” (الفتاوى 20/54).

وهنا على المصوت أن يوازن بين الأطياف والأحزاب السياسية المتنافسة، يوازن بين برامجها، ومرجعياتها المعبرة عن خلفياتها الفكرية، لأن الفعل السياسي ليس فعلا لا تحكمه خلفيته ومرجعيته، ويوازن أيضا بين المرشحين الفاعلين السياسيين، أخلاقا ووفاء وحرصا على الأمانة، ويوازن بين ما استطاعوا إنجازه، وما هم معذورون فيه، وما يمكن أن يقع أو وقع منهم خطأ. أو ترجيحا، أو لضغوطات سياسية وطنية أو دولية، وهكذا.
أما الرجوع إلى الوراء، والإكثار من العويل، واتباع كل ناهق وناعب ومشوش حقود، فهذا لا يقبله دين ولا عقل ولا واقع. وبما أن الواقع المغربي يعج بكثير من الأحزاب السياسية، لها خلفيات متعددة، فبناء على المعايير التي ذكرتها، معيار الموازنة الشرعية تأصيلا وواجبا، ومعيار العقل الراشد مبدأ، فعلى المصوت أن يختار بصدق وأمانة وتجرد من يصلح، فالتصويت واختيار المرشحين أمانة شرعية، ومسؤولية أخلاقية، وواجب وطني، وفي الأخير هناك من سيهاجر إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهناك من سيهاجر من أجل أم قيس، وشتان بينهما. والعاقبة للمتقين.

بقلم د.محمد عوام

****

اطلع أيضا على:

عوام يكتب: ولا تؤتوا السفهاء “أصواتكم”

 

ملحوظة: مقالات رأي لا تعبر بالضرورة عن رأي الهيئة الناشرة 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى