شيخي يكتب: كي لا نخطئ السبيل لمقاومة الانعزالية والتطرف
تحدث الرئيس الفرنسي السيد إيمانويل ماكرون في خطاب له بتاريخ الجمعة 02 أكتوبر 2020م، عما أسماه “الانعزالية الإسلامية” أو “الإسلام الراديكالي”، وتطرق فيه لعدد من الإجراءات والتدابير المنتظر تقديمها في إطار مشروع قانون شهر دجنبر المقبل، لتنظيم أو ضبط عدد من القضايا المتعلقة بالمسلمين في فرنسا (كالمساجد، والأئمة، وتمويل الجمعيات، وتدريس الدين واللغة العربية، وكيفية الحضور في الفضاء العام…).
في مقدمة كلمته أخبرنا الرئيس الفرنسي أن ما هو بصدد عرضه جهدٌ استغرق ثلاث سنوات من الدراسة والمشاورات وأن “المشكل” تم تحديده بدقة ولا يجب تجاوزه باستسهال أو بمهاترات (بولميك) فارغة، وأنه يجب عزلُهُ عن باقي ما يمكن أن يشوش عليه…
خلال الدقائق العشر الأولى من خطابه يعطيك الرئيس الفرنسي انطباعا بأنه متمكن من موضوعه وأن خبراءه ومساعديه سواء في قضايا الإسلام والمسلمين في فرنسا أو في مجال التواصل ضبطوا ودققوا في الخطاب كي لا ينحرف عن مساره.
لكنك ستُفاجأ بالرئيس وهو يتواضع لكونه لن يدعي أنه متخصص في الموضوع لكنه يريد مشاركتنا الأمور كما يراها فانطلق، يهدم ما بناه من تسييج وعزل لموضوعه، في وصف “الإسلام كدين” بأنه يعيش اليوم أزمة في كافة أنحاء العالم، أزمة عميقة مرتبطة بالتوترات الحاصلة بين أصوليات مشاريع دينية وسياسية تؤدي إلى تصلب قوي بما فيها داخل الدول ذات الأغلبية المسلمة….
وقد كان بالإمكان أن نَحْمل هذا الوصف على المحمل الحسن من كونه ينبهنا إلى أن الإسلام يعيش أزمة لأن بعض أبنائه لا يتمثلون قيمه الحقيقية أحسن تمثل، وأنهم متخلفون في فهمهم وسلوكهم عما يدعو إليه من مبادئ وقيم وأخلاق، لكن استفاضته في إيراد الأمثلة وتعميمها وتعديد مظاهر هذه الأزمة ونسبتها مرة ثانية للإسلام يجعلك تنصرف أو ترجح محْمل الاستهداف والاتهام المقصود للإسلام كدين بأنه هو “المشكل” وأن هؤلاء الانعزاليين والمتطرفين ليسوا سوى نتيجة لهذا الدين وما يحمله في جوهره وليس في فهمهم أو ممارستهم.
هنا نقدر بأن الرئيس الفرنسي جانب الصواب وسعى إلى استفزاز المسلمين ليس من مواطنيه الفرنسيين فحسب وإنما في العالم. وهو أمر غير مقبول من رجل دولة كفرنسا لها تاريخ طويل في العلاقة بالإسلام واحتكاك غير يسير بالمسلمين ولأكاديمييها وخبرائها معرفة معتبرة بالإسلام وأوضاع المسلمين خاصة في الدول التي احتلتها فرنسا. ولذا قد تتعدد أسباب هذا الهجوم المفاجئ من رئيس دولة كان يظهر إلى عهد غير بعيد أنه قريب إلى التوازن في النظرة للإسلام وإنصاف أهله بدل الانسياق لخطاب “الإسلاموفوبيا” الذي ملأ فضاء الإعلام والسياسة في فرنسا، وأصبح مشجبا تعلق عليه الإخفاقات، وبرنامجا سياسيا يعرض في الساحة لاستمالة أصوات اليمين المتطرف الذي أصبح يحتل بعد كل استحقاق انتخابي مساحات جديدة بحكم ما يثيره رموزه من ترهات إسلاموفوبية وعجزهم عن مواجهة المشاكل والأزمات الكبرى الحقيقية التي أصبحت تعيشها بلادهم داخليا وخارجيا …
وفي تقديري فإن ما تلفظ به الرئيس الفرنسي – رغم خطورته- لن يكون له أثر سلبي على إيمان المسلمين بدينهم وعلى ثقتهم فيما يحمله من خير للإنسانية، بل على العكس من ذلك سينبه الغافلين من المسلمين وغيرهم من الخيرين للبحث فيه والسؤال عنه وهو ما تظهره معطيات المواطنين الأوربيين الذين يعلنون إسلامهم يوميا والذين يشكل الفرنسيون منهم نسبة كبيرة.
إن الأخطر في حديث الرئيس، هو ما قدمه من فهم “فرنسي” للعلمانية وتنزيل لها على المسلمين الفرنسيين … علما أن لفرنسا وسياستها الداخلية والخارجية، ولفهم نخبتها الخاص للعلمانية دورا كبيرا في صنع نسبة كبيرة من هذا التشدد والتطرف ودفع عدد كبير من مسلميها إلى الانعزالية المشار إليها …
وبالوقوف على أهم ما جاء في خطاب الرئيس الفرنسي، حسب ما هو مبثوث ومنشور بموقع الرئاسة الفرنسية، نجد أن القاسم المشترك بين القرارات والتدابير المتعلقة بمختلف محاور الموضوع، هو السعي للتضييق والضبط والمنع الذي أصبح هو الأصل خلافا لمبدأ الحرية والتحرير. وهكذا حسب الرئيس:
- فكل ما هو مخالف لمبادئ العلمانية والمساواة ممنوع.
- وكل ما يخدش واجب الحياد (Neutralité) المنوط بالموظفين العموميين ممنوع وسيتم توسيعه ليشمل مستخدمي الشركات المفوضة (والمقصود هنا: مظاهر التدين في اللباس وحتى السلام والمصافحة…).
- التوسع في حل الجمعيات ليشمل المساس بكرامة الأشخاص والتهديد البدني والنفسي، إضافة إلى اشتراط توقيع عقد باحترام قيم الجمهورية عند الاستفادة من دعم الدولة…
- وضع حد لتدريس اللغات والثقافة الأصلية للمهاجرين فالمدرسة يجب أن تقتصر على تلقين مبادئ الجمهورية وليس مبادئ ديانة معينة.
وغير ذلك من الأمور التي تم التفصيل فيها والتدقيق تحت قاعدة: “إننا قررنا أن نذهب بعيدا، وبقوة”.
في مقابل هذه الترسانة التشريعية والتنظيمية التي تسعى للتضييق على الهويات وخاصة الإسلامية خصص الرئيس مقتطفات من كلامه لتبشير المواطنين الفرنسيين ومن بينهم المسلمين بوعود يتم من خلالها الشروع في تحديد سبل ومسارات كفيلة بتحقيق تكافؤ الفرص، ومكافحة التمييز والفوارق، والعمل من أجل تمكين الجميع بغض النظر عن لون بشرتهم وأصلهم ودينهم من أن يجدوا مكانهم، وذلك في إطار السعي لتحبيب الجمهورية، الذي يمر عبر حفظ وعد التحرر والتمكين المتأصل فيها أو الذي يعد جوهرها.
والمتأمل في ما سبق يجد أن الرئيس الفرنسي لم يكن منصفا في معالجة الإشكالية المطروحة، فما تحدث عنه في الأخير واكتفى فيه بوعود عامة نجده سببا رئيسيا في دفع بعض المسلمين الفرنسيين وأبنائهم إلى الانعزالية وكره الجمهورية التي تعمل مؤسساتها التشريعية ويعمل عدد من مسؤوليها كما يركز إعلامها على كل ما من شأنه أن يكرس التمييز وعدم تكافؤ الفرص وغياب المساواة. وهو ما كان يقتضي معالجة أدق وأشمل وأن يتم الذهاب فيه “بعيدا وبقوة”…
فكيف سيصدق الشباب هذا الخطاب وعدد كبير منهم لا يتمكن من الحصول على فرصة “تدريب” فكيف ب”منصب شغل” لأن اسمه “محمد” أو “مبارك” أو “بوعزة” أو “الطاهر” أو ” ابراهيم” وغيرها من الأسماء التي تحيل على أصولهم ودياناتهم أما الشابة التي تختار أن تغطي رأسها فأنتم أعلم بما تلاقيه… وكيف سيحبون الجمهورية التي يصعب عليهم إيجاد سكن لائق في عدد من مدنها رغم توفرهم على الإمكانيات المادية لذلك، أليس لأن الثقافة التي يشيعها الإعلام واليمين المتطرف تتحدث عن الإسلام وليس عن فئة من المسلمين، وبالتالي فليس “في المسلمين معتدل” أو “محب للجمهورية” أو ” غير انعزالي”.
ورفعا لأي لبس، فلست من الذين يذهبون إلى تخطيء كل هذه القرارات والإجراءات التي تم التشاور فيها مع ممثلي الديانة الإسلامية في فرنسا وخاصة ما يتعلق بشفافية مالية الجمعيات، وتأطير الأئمة ومنع التدخلات الخارجية في المساجد والمؤسسات وغيرها من الإجراءات التي إذا أحسن تطبيقها ستكون في صالح المسلمين الفرنسيين، وإنما قصدي أن الإنصاف كان يقتضي حديثا متوازنا غير مستفز وعلميا غير عاطفي.
وإذ لا أتفق مع السيد ماكرون – كغيري من الفعاليات الإسلامية- فيما ذهب إليه من أن “الإسلام يعيش أزمة” فإنني من جهة أخرى قد أتفق معه في أن “العلمانية ليست هي المشكل” بدليل اندماج كثير من أبناء الجاليات المسلمة في عدة دول غربية علمانية، وتفاعلهم الإيجابي مع مبادئها مع حرصهم على خصوصياتهم الدينية والثقافية التي تكفلها لهم الدولة. لقد سمعت من عدد من المسلمين الفرنسيين أنهم مؤمنون بالعلمانية ويدافعون عنها، وإن العديد منهم شكلت العلمانية ملجأ وحماية لهم من بطش “أنظمة دول إسلامية” ضاقت بهم وضيقت عليهم خلال الثلاثين سنة التي فضل السيد الرئيس أن يتجاوزها من تاريخ تونس مثلا. تونس في عهد بنعلي، المدعوم فرنسيا، والذي مدّ قبضته الأمنية على المعارضين الطامحين للحرية والانعتاق وغيرهم من المتدينين العاديين أقوى مما يمكن أن تصله فرنسا بسبب ما كانت عليه من فهم وتنزيل لمبادئ الحرية والمساواة والإخاء التي هي بالمناسبة مبادئ وقيم إنسانية تدعو إليها الديانات السماوية وعقلاء الإنسانية…
صحيح أن “العلمانية ليست هي المشكل” ولا قيم الجمهورية، وإنما المشكل في نخبة من العلمانيين الموجودين في مؤسسات السلطة التنفيذية والتشريعية وأولئك الذين يقدمون كمتخصصين في الإسلام في وسائل الإعلام الفرنسية، من أصحاب الفهم غير السليم والمتطرف للعلمانية والسعي لتطبيق نموذج خاص ضيق ومضيق لها. فمثلا أي تهديد سيمثله غطاء الرأس الذي تضعه النساء المسلمات الراشدات عن وعي واختيار، لقيم الحرية والتحرر وباقي قيم العلمانية والجمهورية، وهل أصبح للعلمانية مواصفات للباس شرعي خاص بها على غرار الأديان، أم أنها وجب أن تقف على “الحياد” من مختلف أشكال وأنواع اللباس المنبثقة أصلا عن قيمة سامية كبرى وهي حرية المعتقد. وهل سيقف الأمر عند غطاء الرأس أم سيمتد لباقي أنواع اللباس كالجلباب والطاقية والألبسة الفضفاضة الساترة.
أعتقد أن هذه الفئة من العلمانيين هي المشكل وتحتاج إلى الانفتاح على ما عرفه ويعرفه العالم حولها من تحولات وما يكتنزه من ثقافات يصعب اليوم مواجهتها فقط بإجراءات الضبط والتحجيم والاتهام والإقصاء.
وعوض أن يطلب من المسلمين الفرنسيين تبني فهم خاص للعلمانية والخضوع له ولمقتضياته، فإن الأولى والأنجع هو بذل الجهد لفهم سليم وحوار صريح يفضي لتعميق التعارف والتعاون والاحترام تجاه مختلف الأديان ويؤدي إلى الاندماج الوطني والتماسك الاجتماعي، ويفضي أيضا لتطوير الاجتهاد الذاتي للمسلمين من خلال مؤسساتهم وعلمائهم التي لها مصداقية وتحظى بثقتهم، ويعرف الفضاء الأوربي مؤسسات للاجتهاد العلمي وللإفتاء بذلت جهودا مقدرة وقدمت اجتهادات معاصرة مناسبة لواقع مجتمعاتها استقبلها المسلمون استقبالا حسنا ويسرت اندماجهم في أوطانهم. وبهذه المنهجية يمكن مقاومة التشدد والتشدد المضاد، والانعزال والانعزال المضاد.
وأخيرا أقول إنه قد يتم تحقيق مكاسب انتخابية آنية واستمالة أصوات عدد من الناخبين الفرنسيين عبر الاستفزاز المجاني لمشاعر ملايين المسلمين، لكن كسب ملايين المسلمين الفرنسيين الذين يشكلون ثروة كبرى لمستقبل فرنسا لن يتم إلا عبر إنصات وإصغاء لأصواتهم وإحساس بآلامهم وفهم لآمالهم تمكن من تقديم إجابات حقيقية مراعية للتحولات الثقافية والاجتماعية والديمغرافية الجارية وتستوعب التعدد والتنوع الذي أصبحت تعرفه مجتمعات اليوم عبر العالم.
عبد الرحيم شيخي
رئيس حركة التوحيد والإصلاح
اطلع أيضا على: