خالد التواج يكتب: رَمَضَانُ شَهْرُ الدُّعَاء

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. وبعد إن شهر رمضانَ هو شهر الدعاء، وإذا شئت قلت هو شهر إجابة الدعاء، ولذلك سمي بشهر الاستجابة؛ ذلكم أنَّ مواطنَ الدعاءِ ومظانَّ الإجابةِ تكثرُ في هذا الشهر الكريم.

وهناك شَرفان يجتمعان ويُوجبان إجابةَ الدعاء: شرفُ الزمان وشرفُ الحال، أما شرف الزمان فهو رمضان أعظم الشهور قدرا وفضلا. ومن فضائله فتح أبواب للدعاء ، «إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ»[1] وفُسِّرَ فتحُ أبوابِ السماء بإجابة الدعاء.

 وأما شرف الحال: فهو عبودية الصيام التي يتقرب بها الصائم إلى الله تعالى، والصوم يمثل أفضل الحالات الإيمانية للعبد، كيف لا وهو الحالة التي كان يحب رسول الله أن يرفع عمله عليها “فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ”[2]. فالصيام لا يعدله شيء ولا يماثله شيء، «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»[3]

وباجتماع هذين الشَّرَفَيْن العظيمين فإن الدعوات لا ترد بل تكون مستجابات.

ومن الآيات التي تستوقفنا في هذا الباب، قول الله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} البقرة.

فهذه الآيةُ وردت في وسط آيات الصيام، مع أنه ليس فيها نص يتعلق بأحكام الصوم أو رمضان، وفي ذلك إيماءٌ إلى أن رمضانَ من أعظم أوقات الدعاء قدرا، ومن أرجاها إجابة، وكأنها تشير إلى أن رمضان من أعظم مواسم الدعاء لفضيلته ولحال الداعي فيه.

قال ابن كثير رحمه الله  “وَفِي ذِكْرِهِ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ الْبَاعِثَةَ عَلَى الدُّعَاءِ، مُتَخَلِّلَةً بَيْنَ أَحْكَامِ الصِّيَامِ، إِرْشَادٌ إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي الدُّعَاءِ عِنْدَ إِكْمَالِ العِدّة، بَلْ وعندَ كُلِّ فِطْرٍ”[4]

وقال الشيخ الطاهر بن عاشور: “وفي هذه الآيةِ إيماءٌ إلى أن الصائمَ مَرجُوُّ الإجابة، وإلى أن شهرَ رمضانَ مرجُوةٌ دعواتُه، وإلى مشروعيةِ الدعاء عند انتهاء كل يوم من رمضان.”[5]

وقال الشيخ محمد أبو زهرة: “كانت آيةُ الدعاءِ وقُربِ الله تعالى لمن يدعوه واستجابتِه له، كان ذلك إشارةً إلى صفاءِ النفسِ الذي يكونُ للصائمِ إذا قام بحَقِّ الصيام، وقرب من الله تعالى، ولقد كان ابن عمرُ – وغيره من الصحابة المقربين – كثيرَ الدعاءِ في رمضان، وسماه (أي رمضان) بعضُ العبادِ شهرَ الاستجابة.”[6]

وبيانُ الارتباطِ بين هذه الآيةِ وبين الصيام من ثلاث أوجه:
الوجه الأول: أنها تُلْفِتُ نظرَ الصائمِ إلى مِنَّةٍ عظيمةٍ من الله تعالى عليه، وهي مَنْحُه دعوةً مضمونةَ الاستجابةِ في أثناءِ صومه.
 الوجه الثاني: استجابةُ العبدِ لربه على مشقة التكليف بالصيام والعبادة هي من شروطِ استجابةِ الربِّ سبحانه، لذلك قال الله تعالى: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}
 الوجه الثالث: لَفتُ نظرِ المسلمِ إلى بيانِ أهميةِ الدعاء والتذلل بين يدي الله تعالى ليقبل منه صالح عمله، خاصة صومُه لما فيه من مشقة.

وفي شهر رمضان هناك أوقاتٌ تفتح فيها أبواب السماء أو تتاح فيها فرص أكثر للمؤمن ليدعو، ويستجاب فيها الدعاء وهي:

  • الدعاء خلال مدة الصيام: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ لَا تُرَدُّ، دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الصَّائِمِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ “[7]

ويفيد الحديثُ أنه يستجابُ للصائم في دعائه طيلةَ يومه، قَالَ النووي: “هذا الحديث يَقْتَضِي اسْتِحْبَاب دُعَاءِ الصَّائِمِ مِنْ أَوَّلِ الْيَوْمِ إلَى آخِرِهِ، لِأَنَّهُ يُسَمَّى صَائِمًا فِي كُلِّ ذَلِكَ “.[8]

وعن مضمون الدعاء قال النووي: “يُسْتَحَبُّ لِلصَّائِمِ أَنْ يَدْعُوَ فِي حَالِ صَوْمِهِ بِمُهِمَّاتِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، لَهُ وَلِمَنْ يُحِبُّ وَلِلْمُسْلِمِينَ؛”[9]

  • الدعاء عند الافطار:

وفيه حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- يرفعه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إن للصائم عند فِطره لدعوةً ما تُرد”. وكان عبدالله بن عمر إذا أفْطَر، دعا أهله وولده ودعا.”[10]

ووقت الدعاء يكون قبل الإفطار وبعده؛ لأن كلمة: (عند) تشمل الحالتين.

والخلاصة أن دعوةَ الصائم مستجابةٌ إذا وقعت وقت صيامه، ولا يزال يستجاب له حتى يفطر، وعبارة “دعوة” هنا لا تقتضي أنها دعوةٌ واحدةٌ ولا أنها بشيء واحد، بل المراد بها دعاؤه، فعلى المسلم أن يجتهد في الدعاء حال صيامه وعند إفطاره ويدعو بما شاء من أمور الدنيا والآخرة، وليطل في دعائه وليكثر  منه فإن فضل الكريم واسع، وعطاؤه عميم.

عن عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا عَلَى الأَرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ إِلَّا آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا أَوْ صَرَفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ»، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ: «اللَّهُ أَكْثَرُ»[11]

فمهما أكثَرَ العِبادُ مِنَ الدُّعاءِ فعَطاؤُه سبحانه لا ينقضي، وخزائنه لا تنفَدُ، بل هو عَطاءٌ كَثيرٌ غَيرُ مَحدودٍ.

3- الدعاء في الثلث الأخير من الليل: وهو ليس خاصا برمضان فحسب، ولكنه في رمضان يتاح لعموم الناس أكثر، ويزيد في الحرص عليه إقامة صلاة التهجد.

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي، فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ. “[12]

وفي رواية أخرى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ” تُفْتَحُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ نِصْفَ اللَّيْلِ فَيُنَادِي مُنَادٍ: هَلْ مِنْ دَاعٍ فَيُسْتَجَابُ لَهُ، هَلْ مِنْ سَائِلٍ فيَعُطَى، هَلْ مِنْ مَكْرُوبٍ فَيُفَرَّجَ عَنْهُ، فَلَا يَبْقَى مُسْلِمٌ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ.”[13]

  • الدعاء ليلة القدر

الدعاء من العبادات المشروعة في ليلة القدر، ومما يدل عليه حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، مَا أَدْعُو؟ قَالَ: “تَقُولِينَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي”[14]

وهذا الدعاءُ المباركُ عظيمُ المعنى عميقُ الدِّلالةِ كبيرُ النفع والأثر، وهو مناسب لهذه الليلة، فمن رُزق في تلك الليلةِ العافيةَ وعفا عنه ربُّه فقد أفلح وفاز وربح أعظم الرِّبح. قال سفيان الثوري: “الدعاءُ في تلك الليلةِ أحبُّ إليّ من الصلاة.”[15]

  • الدعاء في العشر الأواخر من رمضان

هي أفضل الليالي، ليالٍ تَعْظُم فيها الهبات، وتتنزل فيها الرحمات، وتقال فيها العثرات، وترفع فيها الدرجات . ليالٍ ترتجى فيها ليلةُ القدر، فيكون الدعاء فيها مشروعًا، ومرجوَ الإجابة.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتهجد في ليالي رمضان، ويقرأ قراءة مرتلة: لا يمر بآية فيها رحمةٌ إلا سأل، ولا بآية فيها عذابٌ إلا تعوذ، فيجمع بين الصلاة، والقراءة، والدعاء، والتفكر، وهذا أفضل الأعمال، وأكملها في ليالي العشر وغيرها.

6- القنوت في قيام رمضان وفي النوازل:

أما قنوت رمضـان: فهو في الركعة الأخيرة من صلاة الوتر في قيام رمضان، يقنت الإمام في رمضان في النصف الثاني منه لثبوت ذلك عن الصحابة في عهد عمر.

وثبت قنوت رمضان في النصف الثاني منه عن طائفةٍ من أئمةِ التابعين كالحسن والزهري وابن سيرين وغيرهم وهو مذهب مالك.[16]

أما القنوت في النوازل فالأصل فيه حديث عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعِينَ رَجُلًا لِحَاجَةٍ، يُقَالُ لَهُمْ القُرَّاءُ، فَعَرَضَ لَهُمْ حَيَّانِ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، رِعْلٌ، وَذَكْوَانُ، عِنْدَ بِئْرٍ يُقَالُ لَهَا بِئْرُ مَعُونَةَ، فَقَالَ القَوْمُ: وَاللَّهِ مَا إِيَّاكُمْ أَرَدْنَا، إِنَّمَا نَحْنُ مُجْتَازُونَ فِي حَاجَةٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَتَلُوهُمْ «فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ شَهْرًا فِي صَلاَةِ الغَدَاةِ، وَذَلِكَ بَدْءُ القُنُوتِ، وَمَا كُنَّا نَقْنُتُ»[17]

ويشمل القنوت أيضا الدعاء بالتوفيق والسداد لطائفة من المسلمين واقفة على ثغر أو مكلفة بمهمة للمسلمين، ودليله حديث أبي هريرة أن رسول الله كان إذا أرادَ أن يَدعُوَ على أحدٍ أو يَدعُوَ لأَحدٍ قَنَتَ بَعدَ الرُّكوعِ”[18]

قال الإمام النووي رحمه الله: “الصحيح المشهور أنه إن نزلت بالمسلمين نازلةٌ كعدو وقحط ووباء وعطَش وضرر ظاهر في المسلمين ونحو ذلك، قنتوا في جميع الصلوات المكتوبة وإلا فلا”[19]

لا تكاد تخلو حياة المؤمن اليومية من الدعاء، فهناك أدعية المناسبات، وهناك أيضا أدعية أذكار الصباح والمساء، لكنها في الغالب تجري على لسان الناس بطريقة باردة روتينية، تفقد فيها عبادة الدعاء جلالها وروحها. مع أن النبي صلى الله عليه وسلم بين حقيقة الدعاء فقال : “الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ”[20] ومعناه أَيْ: العِبَادَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي تَسْتَحق أَنْ تُسَمَّى عِبَادَةً؛ لِدَلَالَتِهَا عَلَى الْإِقْبَالِ عَلَى اللهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا سِوَاهُ؛ لذلك كان لزاما أن يتعرف المؤمنُ المقاصدَ التربويةَ للدعاء: وقد سبق أن كتب فيها شيخنا د. أحمد الريسوني.[21] وهذه المقاصد هي:

  • المساعدة على الطاعة والامتثال

قال أبو بكر الطرطوشي: “إن الدعاءَ إشغالُ الهمةِ بذكرِ الحق سبحانه و تعالى، وذلك يوجبُ قيامَ الهَيْبَةِ للحق عز وجل في القلوب، والزيادات في الطاعات، والانقطاع عن المعاصي .” [22]

فمن تعلق فكره وقلبه بربه داعيا مبتهلا كان أقربَ إلى طاعةِ الله وأبعدَ عن معاصيه، وبعض الأدعية فيها تذكير  للداعي بطاعةِ الله وترغيبِه فيها. مثاله:

دعاء سيد الاستغفار: ” اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ.”[23]

ودعاء “اللَّهُمَّ أعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ”[24]…من الأذكار التي تقال في الباقيات الصالحات.

  • توجيه العناية إلى الذات

جاءت الأدعيةُ النبويةُ تُوجهُ عنايةَ الداعين إلى ذواتهم وإلى مكامن الداء في أنفسهم، حتى لا يكون الدعاء الذي -هو تعلق بقدرة الله وإرادته- صارفا لهم عن الشعور بواجبهم والعمل على إصلاح ما أعوج من أخلاقهم،

ففِي حَدِيثِ شَكَلِ بْنِ حُمَيْدٍ ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ، عَلِّمْنِي دُعَاءً، قَالَ: ” قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ سَمْعِي، وَمِنْ شَرِّ بَصَرِي، وَمِنْ شَرِّ لِسَانِي، وَمِنْ شَرِّ قَلْبِي، وَمِنْ شَرِّ مَنِيِّي “[25] ففي هذا الدعاء تنبيه للداعي إلى ضرورة حفظ جوارحه وتجنب الشرور التي قد تأتي من جهتها.

  • التنفير من الآفات

بعض الأدعيةِ النبويةِ تركزُ على التنفيرِ من بعض الآفات التي يتصف بها بعض الناس، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو: «اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ، وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ، وَالْهَرَمِ، وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ»[26]

وهذه الآفاتُ كلها تدفع من اتصف بها إلى الشلل في الإرادة والمبادرة والفعل، وتجعله عاجزا كَلاً لا يقدر على فعل أي شيء.

  • الحث على العمل

كثير من الناس يتصورون أن الدعاء يقوم مقام العمل ويغني عنه، وهذا اعتقاد فاسد لا أصله في الشرع، لأن التعبد الصحيح بالدعاء هو الذي يكون مسبوقا بالعمل ومصحوبا به وملحوقا به، فيكون الدعاء نفسه شكلا من أشكال العمل.

قال أبو بكر الطرطوسي في قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}: “دلت الآيةُ بظاهرها أنه إذا لم يَقترنْ بالدعاء عملٌ لا يُستجب”[27]

ودليله كذلك قصة أصحاب الغار الثلاثة، فقد توسل كل واحد منهم في دعائه بأخلص عمل عمله، الأول ببره بوالديه، والثاني بعفته عن الفاحشة، والثالث بحفظه حق الأجير الذي كان يعمل عنده.

عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ: ” خَرَجَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ يَمْشُونَ فَأَصَابَهُمُ المَطَرُ، فَدَخَلُوا فِي غَارٍ فِي جَبَلٍ، فَانْحَطَّتْ عَلَيْهِمْ صَخْرَةٌ، قَالَ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ادْعُوا اللَّهَ بِأَفْضَلِ عَمَلٍ عَمِلْتُمُوهُ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إِنِّي كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَرْعَى، ثُمَّ أَجِيءُ فَأَحْلُبُ فَأَجِيءُ بِالحِلاَبِ، فَآتِي بِهِ أَبَوَيَّ فَيَشْرَبَانِ، ثُمَّ أَسْقِي الصِّبْيَةَ وَأَهْلِي وَامْرَأَتِي، فَاحْتَبَسْتُ لَيْلَةً، فَجِئْتُ فَإِذَا هُمَا نَائِمَانِ، قَالَ: فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُمَا، وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمَا، حَتَّى طَلَعَ الفَجْرُ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ، قَالَ: فَفُرِجَ عَنْهُمْ، وَقَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أُحِبُّ امْرَأَةً مِنْ بَنَاتِ عَمِّي كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرَّجُلُ النِّسَاءَ، فَقَالَتْ: لاَ تَنَالُ ذَلِكَ مِنْهَا حَتَّى تُعْطِيَهَا مِائَةَ دِينَارٍ، فَسَعَيْتُ فِيهَا حَتَّى جَمَعْتُهَا، فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ: اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَفُضَّ الخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَقُمْتُ وَتَرَكْتُهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا فُرْجَةً، قَالَ: فَفَرَجَ عَنْهُمُ الثُّلُثَيْنِ، وَقَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقٍ مِنْ ذُرَةٍ فَأَعْطَيْتُهُ، وَأَبَى ذَاكَ أَنْ يَأْخُذَ، فَعَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ، حَتَّى اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَعْطِنِي حَقِّي، فَقُلْتُ: انْطَلِقْ إِلَى تِلْكَ البَقَرِ وَرَاعِيهَا فَإِنَّهَا لَكَ، فَقَالَ: أَتَسْتَهْزِئُ بِي؟ قَالَ: فَقُلْتُ: مَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ وَلَكِنَّهَا لَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا فَكُشِفَ عَنْهُمْ”[28]

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

[1] – صحيح البخاري، باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان؟

[2] – سنن النسائي، باب صَوْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

[3] – صحيح البخاري، بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي المِسْكِ.

[4] – تفسير ابن كثير،1/ 509.

[5] – التحرير والتنوير. 2/179

[6] – زهرة التفاسير، 2/ 564

[7] – صحيح الجامع  الصغيرحديث رقم: 3032

[8] – المجموع شرح المهذب، 6 / 375.

[9] – المجموع شرح المهذب ، 6/375.

[10] – سنن ابن ماجه. قال في (الزوائد) : إسناده صحيح. وحسنه الألباني.

[11] – سنن الترمذي، بَاب فِي انْتِظَارِ الفَرَجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

[12] – صحيح البخاري، كتاب التهجد، بَابُ الدُّعَاءِ فِي الصَّلاَةِ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ.

[13] – رواه الطبراني فِي «الأوسط»، وصححه الألبانيُّ فِي «صحيح الجامع»

[14] – ابن ماجه، كتاب الدعاء، باب الدعاء بالعفو والعافية.

[15] – لطائف المعارف،ص:204.

[16] – رواية أهل المدينة. ينظر: ابن عبد البر، الاستذكار، 5/55.

[17] – صحيح البخاري، بَابُ غَزْوَةِ الرَّجِيعِ، وَرِعْلٍ، وَذَكْوَانَ، وَبِئْرِ مَعُونَةَ.

[18] – صحيح البخاري، بَابُ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128

[19] – شرح مسلم، 5/176. باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة.

[20] – سنن أبي داود، باب الدعاء.

[21] – الدعاء بين التعبد والتعليل. مقال في موقع الشيخ حفظه الله.

[22] – الدعاء المأثور وآدابه وما يجب على الداعي إتيانه واجتنابه، ص: 74.

[23] – صحيح البخاري، بَابُ مَا يَقُولُ إِذَا أَصْبَحَ.

[24] – سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب في الاستغفار.

[25] – سنن أبي داود، باب في الاستعاذة. 

[26] – صحيح مسلم، بابُ التَّعَوُّذِ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَغَيْرِهِ.

[27] – الدعاء المأثور وآدابه وما يجب على الداعي إتيانه واجتنابه،ص:68..

[28] – صحيح البخاري، بَابُ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَرَضِيَ.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى