بين التكريم والتكليف – بنداوود رضواني

“ولقد كرمنا بني آدم ” (سورة الاسراء)

رضواني بنداوود

تباينت تعليلات أهل التفسير وتعليقاتهم حول مناط التكريم والتفضيل الذين خص الله بهما الإنسان دون سائر البريئة، والمبثوت في قول الله تعالى (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ). فتعليلات قد أناطت هذا التكريم والتفضيل بخاصية العقل في الإنسان، وبعضها ردته إلى ميزة التمييز وسمة الإختيار لديه، وأخرى ربطته بصورة البدن وهيئته،… والحاصل أن هذه الآراء – في الغالب – لا تحكى إلا طرفا من مظاهر تكريم الإنسان وتجلياته، ولا تبرز العلة التي تقف خلفه، ولا السبب المباشر الذي وراءه. فهذا التغليب – ومع ذلك – لا يعطل إدراك العلة الأساس إزاء هذا التكريم، كما الحال مع إبن قيم الجوزية رحمه الله في كتاب زاد المعاد40/1، إذ سطر كلاما نفيسا رد فيه الأمور كلها إلى انفراد الله بالخلق والإختيار قال : ” فإن الله سبحانه وتعالى هو المنفرد بالخلق والإختيار من المخلوقات، قال الله تعالى (وربك يخلق ما يشاء ويختار) القصص 68 .. فكما أنه المنفرد بالخلق، فهو المنفرد بالإختيار منه، فليس لأحد أن يخلق، ولا أن يختار سواه..”

ويضيف رحمه الله إغناء للبيان، وزيادة في التوضيح، قائلا : ” فإنه سبحانه أعلم بمواقع اختياره، ومحل رضاه، وما يصلح للإختيار مما لا يصلح له، وغيره لا يشاركه في ذلك بوجه..”.

ومادام الأمر كله لله سبحانه، فاصطفاء الإنسان بالتكريم، وتفضيله على كثير من الموجودات -إذن – هو اختيار إلهي، ومراد رباني، فحكمة الحكيم سبحانه اقتضت ألا صلاح للكون وللإنسان إلا بتكريم هذا الأخير، تكريم عدل كله، ورحمة كله، ومصالح كله، وحكمة كله. أما وحين يؤثر ابن آدم مسلك الشهوات ويتعلق بالشبهات، ويستبدل العدل بالجور، والرحمة بالقسوة، والمصلحة بالمفسدة، والحكمة بالعبث، فسلبه التكريم والتفضيل واقع لا محالة، فيضحى إثر ذلك نظيرا للأنعام، بل يصير أضل منها وأعمى.

إن السر في قول الله تعالى في آية التكريم ( وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا )، يكمن في أفضلية البشر على كثير من الموجودات ،وليس على جميعها، فالملحدون والمشركون والمنافقون وغيرهم…، ممن ضلوا طريق العبودية، فعلى الرغم من إنسانيتهم، ليسوا أفضل في ميزان التكريم الإلهي من الملائكة الأخيار ولا المؤمنين من الجان، فالعبرة بمدى وفاء ابن آدم بمقومات التفضيل والتكريم الإلهي له، لا بسبب انتماءه للجنس الإنساني.!!.

ثانيا: تكريم وتكريم.

تجلي آية التكربم والتفضيل من سورة الإسراء نوعان من التكريم الإلهي للإنسان: تكريم النوع، وتكريم العبودية.

1 – تكريم النوع أو تكريم العموم: وهو يهم جميع بني آدم، فالباري جل جلاله كرم الإنسان وفضله ابتداء، دونما التحقيق في أمره أو النظر في شأنه، لقد خلقه سبحانه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وسيده على العالم بدقيقه وجليله، وأوجد له الكون قبل أن يوجد، وأسبغ عليه نعمه وآلاءه، الظاهرة منها والباطنة، وخصه بالعقل والإختيار….( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات )، فهذه الصورة من التكريم تستغرق الناس جميعا دون استثناء أو تمييز.

2 – وأما تكريم العبودية أو تكريم الخاصة، فهو من نصيب صنف من بني آدم، صنف قد تعرف – أولا – على ذاته وهويته في أنه عبد مملوك لله عز وجل، و – ثانيا – نهض بوظيفته في هذا الكون، ممثلة في حب الله تعالى والخضوع له، فإذا وقع التسليم بهذه الحقيقة كانت جميع صور الأحكام الشرعية، والمطالب الدينية، في جوهرها تشريف وتكريم لابن آدم، لا كما تبدو للبعض في الظاهر، إثقالا للكاهل، وسلبا للحرية…. فالعبودية لله تعالى تزيد العبد المؤمن تكريما إلى تكريم، وتفضيلا إلى تفضيل، وذلك حاله دون غيره من بني جنسه.

رضواني بنداوود

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى