العمل (الجمعوي) بين البذل والاسترزاق

عبد الواحد رزاقي

العمل شرف ومكانة وعزة وسيادة، وهو في الإسلام يوزن بالذرة :”فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره”(الزلزلة)، وإذا أضفنا إليه كلمة الجمعوي صار أداء جماعيا تقوم به جنبا إلى جنب مع أفراد آخرين تقتسم معهم الفكرة ذاتها أو المشروع نفسه. والثقافة الجمعوية راسخة في حضارتنا لا تحتاج إلى كثير من البراهين والبيان فديننا والحمد لله دين الجماعة بامتياز، فأعظم فريضة فرضت من فوق سبع سماوات تؤدى في أحسن مظهر لها أجرا ونفعا وعمقا، جماعة .

وهناك مصطلحات كثيرة وردت في تراثنا من قبيل :”الجماعة” “التويزة” “أدوال” تدل على نفس المعنى.

هذا المفهوم ظهر في الغرب متأخرا بشكل مؤسسي وسمي بالمجتمع المدني civil society ليشمل الجمعيات الأهلية والشعبية مقابل المؤسسات الرسمية .

” ظهر مُصطلَح المجتمَع المدنيّ في قديم الزمان لدى الرومان، إلى أن اختفى، ليعود إلى الظُّهور في القرنَين: السابع عشر، والثامن عشر الميلاديَّين، ويُعتقَد بأنّ جون لوك هو من أعاد استخدام ذلك المُصطلَح، من خلال ذِكْره في رسالة التسامُح الخاصّة به، وذلك في الفترة التي تلَت اندلاع الثورة الإنجليزيّة في عام 1688م، وقد دُرِس المُصطلَح المدنيّ على يد عدد من العلماء، والفلاسفة المُتخصِّصين في عِلم الاجتماع، أمثال: هيغل، وروسو، حيث عُرِف ذلك المُصطلَح خلال الفترة التي انتقلَت فيها أوروبا من مرحلة العصر المُظلِم إلى مرحلة الدولة الحديثة، ثمّ عاد للظُّهور مُجدَّداً عام 1982م في بولندا، خلال مرحلة تحوُّل أوروبا الشرقيّة.(1)

ليس غرضي من هذا العرض هو التأصيل للمجتمع المدني وذكر مراحل تطوره، وإنما ذكر الشوائب التي لصقت به والتنبيه على الاختلالات التي أصابته في مقتل فبات عنوانا للإثراء بلا سبب، ووسيلة اغتناء لمنعدمي الضمير.

لقد أتى على العمل الجمعي حين من الدهر كان مجالا لتنافس الخيرين وميدانا خصبا لعطاء المحسنين، يبذلون فيه الغالي والنفيس من جهودهم وأموالهم، ويؤطرون شرائح المجتمع ثقافيا وتربويا ويغرسون فيه مبادئ التضحية والبذل والسخاء، يخدمون وطنهم بكل تفان ينفقون من أموالهم في سبيل أبناء أمتهم لا يريدون جزاء ولا شكورا، يؤثرون عدم الظهور ويتوارون خلف الصفوف، تعففا وزهدا في الشهرة وبعدا عن الأضواء، ولا يقتصر الأمر على الأغنياء بل تجد من ليس في رأسمالهم إلا الكفاف لكن لم يخطر ببالهم قط أن تمتد أيديهم لمال ليس من عرق جبينهم، يعملون ويجدون، راضية بذلك نفوسهم، يشعرون بسعادة غامرة في خدمة غيرهم .

استمر الوضع على هذا الحال من العمل الطوعي التلقائي، إلى أن طفت على السطح شرذمة اكتسحت هذا المجال الذي كان حكرا على المحسنين فعاثت فيه فسادا فتم تأسيس الجمعيات من قبل المقربين: ورفعوا شعار:” خيرنا لا يأخذه غيرنا” في تواطِؤ مكشوف لنهب الأموال العمومية المعدة لدعم المشاريع سواء داخل الوطن أو خارجه، فقد تجد الزوج رئيسا والزوجة أمين المال وأخ الزوج كاتبا وأخ الزوجة المستشار المكلف بمهمة أو مهام… فيتم إبعاد الغرباء حتى لا يطلعوا على القدر ومحتوياته فيقع التلاعب في صرف الأموال وصناعة الفواتير، بل وصل الأمر بهؤلاء المرتزقة إلى السطو على الأنشطة التي يقوم بها الغير من خلال الصور التي يتم إرسالها للجهات المانحة قصد استدرار الدعم وتبرير الاسترزاق، والغريب في الأمر أن مثل هؤلاء اللئام يتشوقون للوصول إلى مركز القرار من خلال الانتخابات، مساهمة في تدبير الشأن المحلي. فبماذا سيبشرون به الساكنة سوى المزيد من النهب وابتكار وسائل جديدة لالتهام الميزانيات الضخمة عبر الصفقات وسندات الطلب؟

ولكن الذي ليس غريبا أن تجد شخصا معدما يعيش على الفتات، أصبح  كائنا جمعويا سمينا، يختال على الأقران بفاخر السيارات ووثير البيوت، وأرصدة محترمة في البنوك، ولأموال الدعم السخي القادم من مؤسسات تكتفي بالحجج الشكلية لتبرير المصاريف ولا تقوم بدورها في المراقبة الميدانية للمشاريع الوهمية ، لهذه الأموال جاذبية خاصة تستهوي القائمين على الاسترزاق بمزيد من تأسيس الجمعيات عبر تلقين خطط النهب وأساليب التدليس للموالين والأصحاب، ويصبح التنافس بين منعدمي الضمير في من يسرق أكثر أو يبرر المصاريف أكثر.

هذا الأسلوب الجديد في التعاطي مع العمل الجمعوي أصاب المجال الاجتماعي الطوعي في مقتل، حيث فقد فيه الثقة  الكثيرون من الخيرين وذوي النيات الحسنة وبذلك يتحمل المرتزقة وزر أي تراجع في مجال التطوع والإنفاق .

عبد الواحد رزاقي

 

الهوامش:                                        

1 – أ.د ليلى عبد الوهاب، منظمات المجتمع المدني، جمهورية مصر العربية: كلية الآداب -جامعة بنها، صفحة 7-12. بتصرّف.

https://mawdoo3.com/%D8%AA%D8%B9%D8%B1%D9%8A%D9%81_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D9%86%D9%8A

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى