الريسوني: رمضان بين الجود والإسراف

ارتقِ في رمضان وبعد رمضان، خلاصة القول في فضائل شهر رمضان المبارك: أن الله تعالى جعله لنا لنرتقي فيه، ونرتقي به.

فأما الارتقاء فيه، فلأن في الشهر الكريم ما لا يحصى من الفضائل والمغانم الدنيوية والأخروية.. ففيه من فرص الترقي وأسبابه، ومن الأجواء المساعدة عليه، ما لا يتاح مثله على مدار السنة كلها وبمجموعها. فمن هنا يأتي الترقي في رمضان.

وأما الارتقاء به، فمعناه أن الارتقاء الذي يحصل في رمضان، تستمر آثاره وبركاته بعد رمضان، إلا إذا كان ذلك مجردَ تظاهر زائف، أو مجرد تدين سطحي.

وفي مثل هذا التدين جاء قوله صلى الله عليه وسلم: (رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع. ورُبَّ قائم ليس له من قيامه إلا السهر) (1).

وفي الحديث أيضا: (صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فقال: آمين، آمين، آمين. فلما نزل سئل عن ذلك فقال: أتاني جبريل فقال: رغِمَ أنفُ من أدرك رمضانَ فلم يغفر له، قل آمين، قلت آمين. ورَغِمَ أنفُ رجل ذكرتَ عنده فلم يصل عليك، قل آمين، فقلت آمين. ورَغِمَ أنفُ رجل أدرك والديه أو أحدَهما فلم يغفر له، أو لا يدخلانه الجنة آمين، قلت آمين).

وهذه الرسالة الرمضانية المختصرة، تتناول جانبا واحدا من حياتنا وسلوكنا، وكيف نُرقيه في شهر رمضان، وهو جانب الإنفاق والاستهلاك.

وهذا لا يعني أن مضمون هذه الرسالة خاص برمضان، بل هو لكل وقت وحين، فليس في رمضان عمل ينحصر فيه ويختص به، إلا صيام الشهر كاملا، ولكن شهر رمضان يُضْفي على الفضائل والطاعات مزيدَ فضل وثواب، ويضفي على الرذائل والمعاصي مزيدَ قبح وإثم. ولذلك في رمضان ينبغي أن يكون حرصنا على فعل الخيرات واجتناب المنكرات أشد مما نفعل في غيره.

وبالله تعالى السداد والرشاد والتوفيق

الاستهلاك في رمضان

يراد بالاستهلاك: استعمال الأشياء والمواد المتاحة استعمالا يتضمن هلاكها وانقضاءها، أو يؤدي إليه، سواء بشكل فوري ومباشر، كالمأكولات والمشروبات ومواد التنظيف، أو بشكل متدرج متراخٍ، كالألبسة والأقلام والآلات وعامةِ الوسائل التي تستعمل مرات عديدة، ولفترات ممتدة، تطول أو تقصر.

غير أن الاستهلاك المربوط برمضان يُقصد به عادة استهلاكُ المواد الغذائية على الخصوص. وهذا ما أعنيه الآن.

من المفارقات الغريبة التي تشتهر عن هذا الشهر الكريم أن الاستهلاك الغذائي يرتفع فيه، مع أنه شهر صيام. وهذا -إذا ثبت- يعني أن الناس عموما يأكلون ويشربون في رمضان أكثر مما يفعلون في غير رمضان. وقد يكون جزءٌ من المواد الغذائية المستهلكة ليس مما يؤكل ويشرب فعلا، وإنما يهدر ويذهب سدى مع ما يرمى من القمامة، وهذا مؤسف وسيئ للغاية. وفي جميع الحالات، فإن زيادة الأكل والشرب، أو زيادة الاستهلاك للمواد الغذائية، يعتبر خروجا عن مقاصد الصيام ومعاكسة لها.

فالصيام -كما هو واضح للعيان- أول معانيه وأبرز مقتضياته ومقاصده تقليل الأكل والشرب وكبح شهوات البطن. قال الفقيه المالكي ابن راشد القفصي “حكمة مشروعيته: كسر النفس عن الشهوات، والتشبه بسكان السماوات، وتصفية مرآة العقل“[2].

وأكثر الشهوات التي تشغل الناس وتستبد بهم هي شهوةُ الطعام والشراب، وأكثر عناء الناس ومعاناتهم إنما يكونان بسبب الأكل والشرب وما لهما من متطلبات، وما لهما من آثار ومخلفات. فجُعل الصيام بالدرجة الأولى فرصة لكبح هذه الشهوة وتعديلها وترشيدها. ولكن بعض الصائمين لا يفعلون وقت صومهم سوى استجماع شهوة الأكل والشرب وتحفيزها وشحذها بالمشتريات والإعدادات، ثم إرسالها وإشباعها بما لذ وطاب طيلة وقت الإفطار. فمن هنا يصبح استهلاكهم في رمضان أكبر حجما وأغلى كلفة مما هو في غير رمضان. وهذا إفساد وتشويه لمقاصد الشرع وحقائقه.

وفضلا عن ذلك، فإن الإفراط في الأكل والشرب كما وكيفا، يُدخل صاحبه ويأخذه في طريق الإسراف والتبذير، وذلك بقدر ما يُكَــثِّـر من أنواعه ومقاديره والزيادةِ فيه على ما ينفع. ثم يبلغ أسوأ درجات الإسراف والتبذير بتركه يَفسُد ويُرمى به.

وقد وردت نصوص كثيرة في القرآن والسنة، تَنهَى عن الإسراف وتحذر منه بصفة عامة، ثم ورد النهي خاصة عن الإسراف في الأكل والشرب. قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31].

وفي كتاب اللباس من صحيح البخاري: “قال النبي صلى الله عليه وسلم: كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا، في غير إسراف ولا مَـخِيلة. وقال ابن عباس: كلْ ما شئت والبسْ ما شئت ما أخطأتك اثنتان: سَرَف أو مَخيلة”.

وفي حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثُلثٌ لطعامه وثلثٌ لنفَسه). قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وقال الشيخ الألباني: صحيح.

وروي أيضا: “إن من السَّرَفِ أن تأكل كل ما اشتهيت”.

فالإسراف في الأكل والشرب ضرر محقق على الصحة والسلامة البدنية، ثم هو ينمي الشَّرَهَ وسوءَ الخلق. ففي اجتنابه صحة بدنية وخُلقية.

وقد قال بعض السلف: إن قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا}جمعَ الطب كله؛ وذلك أن السبب الأول للصحة يكمن في التغذية أكلا وشربا، والسبب الأول للأمراض والعلل يكمن في الإسراف في الأكل والشرب. والآية أمرت بالأول، ونهت عن الثاني.

ثم إن الإسراف والتبذير عموما فيهما ما لا يخفى من إتلافٍ وتضييع للنِّعَم والأموال. ومعلوم أن كل واحد سيُسأل أمام الله سبحانه عن النِّعَم التي وصلت إليه، وكيف تصرف فيها وما ذا عمل بها. قال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [سورة التكاثر].

ومما هو جدير بالانتباه والتدبر أن القرآن الكريم يربط بين الإنفاق على المحتاجين وأداء حقوقهم من جهة، والنهيِ عن الإسراف والتبذير من جهة أخرى، مما يشير إلى أن الإسراف والتبذير إنما يقعان على حساب الإنفاق الواجب، وعلى حساب المحتاجين المستحقين للعطاء، وأن التبذير والإسراف من أسباب تضييع حقوق المساكين والمحتاجين.

قال الله جل جلاله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 26، 27]. فالمعادلة هي: آتوا ذوي الحقوق حقوقهم، ولا تضيعوها بالتبذير

وفي قوله تعالى:{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين} [الأنعام: 141]، نجد قولين للمفسرين في فحوى الإسراف المنهي عنه في هذه الآية. فمنهم من قال: إنه معطوف على (وَآتُوا حَقَّهُ)، بمعنى آتوا حقه دون إسراف في ذلك. ومنهم من قال: إنه معطوف على (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ)، بمعنى لا تسرفوا في الأكل والاستهلاك، حفظا لحق أصحاب الحق معكم فيه.

وهذا المعنى الأخير مطابق لما تضمنته الآية السابقة {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا}.

وهو الذي ذهب إليه العلامة ابن عاشور، وخطَّأ الرأي الأول، فقال: “(ولا تسرفوا): عطف على (كلوا)، أي: كلوا غير مسرفين. والإسراف إذا اعتاده المرء حمله على التوسع في تحصيل المرغوبات، فيرتكب لذلك مَذَمَّاتٍ كثيرةً، وينتقل من ملذة إلى ملذة، فلا يقف عند حد. وقيل: عطفٌ على (وآتوا حقه)، أي ولا تسرفوا فيما بقي بعد إتيان حقه فتنفقوا أكثر مما يجب، وهذا لا يكون إلا في الإنفاق والأكل ونحوه، فأما بذله في الخير ونفعِ الناس فليس من السرف، ولذلك يُعَدُّ من خطأ التفسير: تفسيرها بالنهي عن الإسراف في الصدقة“[3].

وقد أطال العلامة عبد الكريم يونس الخطيب في نصرة هذا الرأي وترجيحه… إلى أن قال: “وعلى هذا، فإن الفهم الذي نستريح إليه لقوله تعالى: «وَلا تُسْرِفُوا» هو أنه قيدٌ وارد على قوله سبحانه: «كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ» .. أي كلوا من ثمره في غير إسراف، حتى يكون في أيديكم فُضلة تؤدون فيها حق الله في هذا الثمر الذي تَطعمون منه، وحتى لا تمتلىء البطون، وتبلغ حدّ التخمة، فلا يذكر المرءُ حينئذ شهوة جائع إلى هذا الثمر“[4].

الجود في رمضان

روى الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل. وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجودُ بالخير من الريح المرسلة”.

هذا الحديث يجسد لنا المعنى الذي سبق ذكره، وهو أن الفضائل والأعمالَ الصالحة المطلوبة في رمضان هي أعمال صالحة ومطلوبة في غير رمضان، ولكنها في رمضان تكون آكَدَ وأكثر فضلا. فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان جوادا على الدوام، بل كان أجود الناس على الإطلاق والعموم؛ على الإطلاق في كل وقت وحين، وعلى العموم، أي دون استثناء. ولكنه في رمضان يزداد جودا، حتى يبلغَ في الجود أقصى مداه الممكن.

وفي كلام ابن عباس رضي الله عنهما، نجد ملمحين دقيقين في وصفه للجود النبوي وكيف كان يتصاعد ويقوى في رمضان:

الأول: أنه ربط ذلك بلقائه جبريلَ ومدارسته القرآنَ معه. ومعنى هذا أن ذلك من بركات القرآن، ومن آثار التفاعل مع قيمه وتوجيهاته.

الثاني: تشبيهه الجودَ النبويَّ في رمضان بالريح المرسلة، يعني في قوتها وعموم نفعها، بما تسوقه من غيث وخير

فالجود النبوي -وخاصة في رمضان- يستفيد منه القريب والبعيد، والصالح والطالح، والمؤمن والكافر، والإنسان والحيوان

ومما لا شك فيه أن الصحابة والصحابيات كانوا يمدون الجود النبوي بجودهم وبما يأتون به من أموالهم، فيضعونها بين يدي رسول الله عليه الصلاة والسلام، فيجود بها فورا على المحتاجين لها.

الجود والإكرام للفقراء أولا

على أنّ من الآفات الاجتماعية ما نجده عند كثير من الناس،الذين يتحلَّوْن بالجود والسخاء والبذل والعطاء، بحيث يقيمون الولائم الشهية، ويقدمون الهدايا السخية، ويرحبون بزوارهم، ويكرمون ضيوفهم، ولكن ذلك كله أو جله، يكون مع الأغنياء والميسورين لا مع الفقراء والمساكين. وكثيرا ما تجد المضيف الجواد الكريم منهم، يتأسف لكون زواره وضيوفه ومدعويه، لم يتناولوا من أطايب الطعام والشراب المقدمة لهم إلا أقل القليل، وكأنه لا يدري أن قدم ما قدم لقوم متخمين، يعانون من حالة الشبع الدائم، ويخافون -أكثر ما يخافون- من آفات البطنة وآلامها وأمراضها.

ولا يخفى أن هذا النوع من الجود، المخصص للأغنياء دون الفقراء، هو مما يُعاكس توجيهات الشرع ومقاصده. فقد شُرع الجود والبذل والإطعام والإكرام -في المقام الأول- لأجل الفقراء والمحرومين. وقد قال بعض الحكماء: “إن كان خليلُك فوقك فاصحبه بالحُرمة، وإن كان دونك فاصحبه بالرحمة، وإن كان نِدَّك فاصحبه بالوفاء، وإن كان عالما فاصحبه بالتعظيم، وان كان جاهلا فاصحبه بالتعليم، وإن كان غنيا فاصحبه بالزهد، وإن كان فقيرا فاصحبه بالجود”.

إن الجود الحقيقي، والأكثر نفعا وأجرا، إنما هو ذلك الذي ينتفع به الفقراء والمساكينُ والمنكوبون، ولا مانع أن يكونوا مع غيرهم، أو يكون معهم غيرهم من الميسورين. لكن الطامة هي تخصيص المكارم والولائم والعطايا والهدايا، لمن هم في غنى عنها، وحرمان المحتاجين إليها منها. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: شر الطعام طعام الوليمة يُدْعى لها الأغنياء، ويُترك الفقراء.

فمن أكرم بعض الأغنياء، وجاد عليهم مما جاد الله به عليه، فعلى الأقل يجعل معهم بعض الفقراء، من أقاربه وجيرانه وعُمَّاله وغيرهم. ومن صنع وليمة اقتصرت على الأغنياء، فلا أقل من أن يصنع مثلها تخصص للفقراء.

الزيادة المحمودة في الاستهلاك

وقد ذكرتُ من قبل أن زيادة الاستهلاك الغذائي في رمضان يشير إلى زيادة الأكل والشرب لدى بعض الصائمين، وهو أمر مذموم منافٍ لمقاصد الصيام.

ولكنْ من الإنصاف أن أذكر أيضا أن الزيادة في استهلاك المواد الغذائية في رمضان لها أسباب أخرى مشروعة ومحمودة.

ففي رمضان يزداد التصدق على الفقراء وإطعامهم، وتعمُّ العالمَ الإسلامي وأوساطَ المسلمين في كل مكان، ظاهرةُ تفطير الصائمين، من الفقراء والمشردين وأبناء السبيل.

وفي رمضان يجب على ذوي الأعذار في الصيام، من المرضى والمسنين، أن يخرجوا الفدية بدلا عن الصيام إذا لم يطيقوه. وفدية رمضان موجهة خاصة لإطعام المساكين والفقراء.

فكل هذا يتيح للجوعى والمحتاجين من الأكل والشرب في رمضان ما لا يتاح لهم في غير رمضان. وهذا موافق لمقاصد الصيام محقق لجزء منها.

على أن الفقراء ليسوا بحاجة إلى ولائم الطعام والشراب فحسب، بل هم في حالة خصاص واحتياج في كل جوانب حياتهم.

فمن كان جوادا، فليصبح أكثر جودا في رمضان، تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن ليس جوادا، فرمضان فرصته ليصبح جوادا.

ومن لم يصبح جوادا في رمضان، فمتى؟

ومن لم يرتق في رمضان فمتى؟

فقراؤنا وضيوفنا الفقراء..

بالإضافة إلى فقراء بلدنا، من أهل المدينة والمحلة والقرية، وغيرِهم من أبناء الوطن، يوجد بين أظهرنا اليوم فقراء آخرون أشد فقرا وابتئاسا، وهم المهاجرون أو المهجَّرون القادمون من أقطار أخرى، من الذين أجبرتهم ظروف الحرب والخوف والجوع، إلى ترك أوطانهم وديارهم والضرب في الأرض، طلبا للعيش وللقمة العيش.

من هؤلاء: إخواننا من اللاجئين السوريين، الذين نرجو أن تكون محنتهم عابرة قريبة النهاية بإذن الله تعالى.

ومنهم: إخواننا القادمون من بعض الأقطار الإفريقية، سواء منهم من قصدوا المغرب بالذات، أو من جاؤوا على أمل العبور منه نحو الشمال

فهؤلاء جميعا لهم علينا أولاً ما لسائر الفقراء والمحتاجين وأبناء السبيل من الحقوق.

ولهم علينا ثانيا حقوقُ الاستضافة، لأنهم نزلوا ضيوفا علينا. وفي الحديث الصحيح: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه).

قليكن هؤلاء الضيوف، الفقراءُ البؤساء، في مقدمة من ينالهم جودنا ومواساتنا في رمضان وبعد رمضان. فالمغرب أوسع من أن يضيق بهم، وأهل المغرب أكرم من أن يتركوهم في محنتهم وغربتهم وفاقتهم

الجود ليس محصورا في النقود

في حديث طويل لأمنا السيدة عائشة رضي الله عنها، وهو في الصحيحين وغيرهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه الوحي أول مرة عاد إلى زوجه خديجة رضي الله عنها، وهو مضطرب خائف على نفسه “فأخبرها الخبر. قالت خديجة: كلا أبشر؛ فوالله لا يخزيك الله أبدا. فوالله إنك لتَصِلُ الرحم، وتَصدُق الحديث، وتَـحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتَقري الضيف، وتعين على نوائب الحق”.

فهذه صفات خيرية جليلة كان عليها النبي عليه السلام حتى قبل بعثته، أي أنها كانت موجهة للمشركين، وليس للمسلمين.

وهي كلها بر وإحسان وجود ونجدة للضعفاء والمحتاجين. ولكنها في معظم الحالات لا تحتاج إلى نقود ولا مال.

فمنها صلة الأرحام، وقد تكون بمالٍ قليل، وقد تكون بدون مال.

ومنها “حمل الكَلّ”، والكَلُّ هو الضعيف العاجز عن خدمة نفسه، وحمله: إرشاده وخدمته ومساعدته على ما يحتاج. وكثير من ذلك لا يحتاج إلى مال.

ومنها كسب المعدوم، أو إكساب المعدوم، (تَكسبه أو تُكسبه) بمعنى تمكنه من الكسب. والمعدوم هو من لا شيء له، ويكون إكسابه بإرشاده وتعليمه ومساعدته، بما يوصله إلى الكسب والعيش. وقد يتم هذا بشيء من المال وقد يتم بدون مال.

ومنها قِرى الضيف، وهو ما يقدم للضيف عند قدومه، من تمر، أو لبن، أو خبز وزيت، أو ما تيسر من الطعام والشراب.

ومنها المعاونة على نوائب الحق. والنوائب جمع نائبة، وهي ما ينوب الإنسانَ، أي يصيبه وينزل به من أضرار ومشاكل. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقف إلى جانب أصحاب النوائب ويساندهم وينصرهم، إذا كانوا على حق وكانت قضاياهم عادلة. وهذا أيضا قد يكون بشيء من المال، وفي أغلب الأحوال يمكن أن يتم بدون مال.

فهذه كلها أشكال من الجود والبر والإحسان، لا تتوقف بالضرورة على المال، وقد يكون المال فيها قليلا متيسرا، وقد يتعاون عليها صاحب مال وصاحب خبرة وإرشاد، أو صاحب جهد ووقت

ومن الجود الذي لا يحتاج إلى مال يذكر، أن تهدي وتعطي ما لا تستعمله ولا تحتاجه مما في حوزتك. فكم في البيوت والمطابخ والخزائن والمكاتب والحدائق، من أشياء مركونة معطلة مستغنى عنها. وربما لم تستعمل منذ سنوات. وربما لم يبق لأصحابها ما يكسبونه منها سوى إثمِ تعطيلها وتعريضها للتلاشي والضياع. وهم محاسبون عليها يوم القيامة (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ).

فالبدارَ البدارَ إلى كل ما لا تحتاجوه، ولا يستعمله أحد عندكم، فادفعوه إلى من هم بحاجة إليه، لتكسبوا أجره، وتسلموا من إثمه. واجعلوا رمضان مناسبة سنوية للقيام بذلك.

ومن أوجُه الجود والبر التي يستطيعها كل واحد، من له مال ومَن لا مال له: الحث والحض والتنبيه على حقوق الفقراء واحتياجاتهم، ومطالبةُ ذوي المال والسلطان بأدائها ورعايتها. فهذا الواجب يستطيعه كل أحد، ولا عذر في تركه لأحد. ولذلك جاء في القرآن الكريم وعيد شديد في شأنه، كما في قوله عز وجل: {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الحاقة: 34]،

وقوله تعالى أيضا: {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلَا تَحُضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الفجر:17،18]،

وقله أيضا: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:1-3].

ومقتضى هذه الآيات -بلغة العصر- هو: أن النضال والدفاع عن حقوق المستضعفين والمحرومين من الرجال والنساء والولدان، والحض على رعايتها وحمايتها، يعد من أوجب الواجبات، وأن تركه جناية من الجنايات.

رمضان كريم، وكل عام وأنتم بخير ومن أهل الخير.

الدكتور أحمد الريسوني

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] رواه ابن ماجة، وقال الشيخ الألباني: حسن صحيح.

[2] لباب اللباب ص:54.

[3] التحرير والتنوير8/​122123.

[4] التفسير القرآني للقرآن (4/​326)

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى