الخطاب الديني المسؤول ومخاطر الفراغ
أقصد بالفراغ في هذا السياق انعدام أو خفوت الخطاب الديني الذي يتناول موضوع الحرب على غزة في المساجد وفي خطب الجمعة ودروس الوعظ والإرشاد.
قد يكون السؤال عن مخاطر الفراغ ومآلاته أحد المداخل المنهجية المناسبة التي يلج منها الخطاب الديني لتناول الموضوع، وهو سؤال يقوم مقابلا للسؤال الآخر: إلى أي حد يمكن أن يصل الخطاب الديني في تناول هذا الموضوع؟ ربما فكر فريق من القيمين الدينين في السؤال الثاني، فلم تتراءى له إلا حدود السياسة؛ على اختلاف في فهم مبناها ومعناها وتقديرهما، فآثر السلامة، وتجاهل الموضوع أو تحدث عنه على استحياء مكتفيا بإشارات بعيدة. وفي تقديري فإن السؤالين معا يقدمان إشكالية منهجية تمهد لإنتاج خطاب ديني معتدل ومتوازن، يحيط بالموضوع من جميع جوانبه.
الحرب على غزة حدث دولي بامتياز، غطى على كثير من الأحداث الدولية والنزاعات العالمية بما فيها الحرب الروسية الأوكرانية، ناهيك عن كثير من التظاهرات العالمية الأخرى كالمنافسات الرياضية وغيرها. وإذا كانت وسائل الإعلام من قنوات وإذاعات وصحف ومجلات تراعي في إنتاج خطابها مصالح الجهات الممولة ومواقف السلطات المختصة، فإن وسائل التواصل الاجتماعي متحررة من تلك الإكراهات إلى حد بعيد. ولهذا السبب، إضافة إلى شيوعها وانتشارها، كان لها الأثر الكبير في قيام تفاعل قوي جدا، بلغ حد الاشتباك الحاد حول الحدث بين الرواية الفلسطينية والرواية الصهيونية، سواء من حيث الكم والنوع كذلك.
تعددت مداخل التفاعل مع هذا الحدث، وما كان للبعد الديني أن يبقى غائبا مع قيام النزاع على أرض فلسطين وأكناف بيت المقدس والمسجد الأقصى مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع استحضار المسؤولين الصهاينة ل”نبوءة أشعياء” توطئة لمجازرهم وجرائمهم، ومع استحضار وزير الخارجية الأمريكي لصفته اليهودية وهو يقوم بزيارته الداعمة للكيان الصهيوني.
ومنذ اندلاع الأحداث، تطلع الناس في كل العالم الإسلامي إلى المساجد ومنابر الجمعة وما سيصدر عنها، بل توجهوا بالمطالبة الصريحة للخطباء بتناول هذا الموضوع وعدم تجاهله، وانطلقت معها موجة من توجيه الاتهامات والتصنيفات، ووجدت وزارات الشؤون الدينية نفسها وجها لوجه أمام هذا الحدث وتفاعلاته الاجتماعية والدينية. فهل كان من الحكمة والتقدير السليم أن يتناول خطباء الجمعة والوعاظ بالمغرب خاصة موضوع الحرب ومواكبته بالبيان والنصح والتوجيه؟ أم أن الحكمة اقتضت الانصراف عنه إلى مواضيع أخرى، أو تناوله بخطاب عام يكتفي بالإشارة من بعيد.
إن الطبيعة لا تقبل الفراغ، وإن أخطر ما في الفراغ هو سهولة ملئه بكل شيء، وإذا ظن القيمون الدينيون أن انصرافهم عن الموضوع سيصرف الناس عنه فهم واهمون. فالتغطية الإعلامية المتواصلة للحدث، خاصة من قبل وسائل التواصل الاجتماعي، تجعل عمار المسجد مشبعين بالأخبار وتحليلاتها والمواقف السياسية والدينية منها. وهنا مكمن الخطر، فالظروف المتوترة والأوضاع المأساوية تعزز من فرص انتشار خطاب التكفير، وشيوع التصورات والمقولات التي تحرف مسار الصراع، كما قد تثير المشاعر غير المنضبطة، بما يفضي في النهاية إلى انقلاب الأمور فسادا وفتنة.
فضلا عن شرط المناسبة وأسباب شرعية أخرى، فإنني أجزم بأن تناول الموضوع يمثل مصلحة بالغة الأهمية، ترتقي إلى مستوى المصلحة الدينية والوطنية، ويمثل تفويتها مفسدة عظيمة سيكون من الصعب والمكلف جدا جبر ضررها في المدى القريب. جانب من هذه المصلحة يتمثل في ضمان التوازن الفكري والعاطفي لدى الناس عامة والشباب على وجه الخصوص، والحفاظ على ثقتهم في الخطاب الديني في المساجد، باعتباره خطابا يفترض فيه أنه يستحضر المقاصد الشرعية الباعثة على تناول الموضوع، وأنه يستند إلى الأدلة الشرعية المعتبرة، وأنه يراعي الخصوصيات الثقافية والتاريخية والحضارية، كما يستحضر المسؤولية الوطنية نحو القدس وفلسطين.
إن تحقيق هذه المصالح لن يتم بتعليمات من المؤسسات القائمة على الشأن الديني، ولا بالخطب الرسمية المكتوبة، كما لن تتم باتباع سياسة الإعفاءات التي زرعت الخوف أكثر مما صنعت الرشد، وألجمت الألسن عوض أن تهذب العقل والفكر. وإنما السبيل الوحيد لتحقيق تلك المصالح هو رسالية الخطيب ووعيه بمسؤولياته الدينية والمجتمعية والوطنية، ونهوضه للقيام بها.
أمام الخطاب الديني جملة من القضايا تفرض نفسها في هذه الظروف، ويجب عليه أن يسهم في توضيح موقف الشرع منها من جملتها:
- التلبيس المفتعل بين اليهودية كدين سماوي وبين الصهيونية باعتبارها إيديولوجية عنصرية؛ وهو تلبيس يخدم الصهيونية خدمة كبيرة، إذ يخفي وجهها العنصري وتاريخها الإجرامي خلف اختيارات دينية أقرتها الشرائع السماوية( لا إكراه في الدين) والقوانين الوضعية (حرية المعتقد)، ويضعها في موضع أقلية يهودية مضطهدة من قبل أغلبية مسلمة.
- التلبيس المفتعل بأن الحرب دينية؛ يواجه فيها مسلمون يهوداً، بينما الصواب أنها حرب يخوضها شعب محتل ضد الاحتلال والإجرام الصهيوني المستمر منذ 1948م وإلى اليوم، ولم تستطع اتفاقيات “السلام” أن توقفه أو تخفف من حدته.
إن الأصل في معاملة الناس جميعا، أفرادا وشعوبا ودولا يتلخص في الآيتين الكريمتين من سورة الممتحنة، وهما قوله تعالى: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُم أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُم أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)﴾، وهما آيتان متضحتا الدلالة في أن مشروعية القتال في الإسلام مردها إلى صد الظلم والعدوان على حرمة الدين والوطن والأهل والمال، ودون ذلك فالأصل هو السلم، ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: 6] .
- التعميم بأن الكفر ملة واحدة، وهي كلمة انتزعت من سياقها الذي وردت فيه ، وأصبحت تشيع في كثير من الخطابات الدينية وتفسر بها وقوف كثير من الدول إلى جانب الكيان الصهيوني في ظلمه. ويتغافل أصحاب هذه المقولة عن الملايين من غير المسلمين الذين خرجوا في مسيرات ومظاهرات ووقفات، وأقاموا أنشطة ثقافية وإعلامية وسياسية مساندة للحق الفلسطيني. إن الحكم العادل المنصف الذي يقرره الشارع الحكيم يتلخص في قوله تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ [آل عمران: 113]، كما أن قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ ﴾ [الجاثية: 19] أصدق وأعدل وأوفى بالمعنى من مقولة: الكفر ملة واحدة.
إن على القيمين الدينين بمختلف مستوياتهم مسؤوليات دينية ووطنية، وإن الوعي والنهوض بها هو ما سيسد الفراغ الذي قد يستغله أعداء الدين والوطن، كشأن الجهة التي أصدرت تلك الوثيقة ونسبتها كذبا وزورا إلى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، مما اضطرها إلى إصدار بلاغ رسمي تنفي فيه جملة وتفصيلا ما تضمنته من منع الخطباء من الحديث عن الأحداث في فلسطين، بل وتأكيد بلاغها على أن هذه الأمة “يعرف الناس تعلقها بالحق إلى جانب القضية الفلسطينية والمسجد الأقصى ماضيا وحاضرا“، وهو تأكيد كما هو البلاغ كنا في غنى عنهما، لأن توضيح الواضحات عبث.