إلى متى تظل هذه اللغة حبرا على ورق؟

-1-

دخل المغرب خلال شهر غشت (2011) في عهد دستور جديد، هو السادس في تاريخه الحديث، دستور يؤكد بشفافية ووضوح ما جاء في الدساتير السابقة. “إن اللغة العربية لغة رسمية أولى للمغرب، والدولة تتعهد بحمايتها وتطويرها وتنمية استعمالها”.

ومن المفارقات العجيبة أن يأتي هذا الإقرار الدستوري الهائل والرائع في زمن يتسم بتراجع خطير لهذه اللغة في كل القطاعات الحيوية للدولة، من الاقتصاد إلى الإدارة، ومن الأعلام إلى التربية والتعليم، حيث يتم اعتماد اللغة الفرنسية كلغة أولى، على مستوى الممارسة والفعل، خارج أوفاق الدستور وخارج القيم الوطنية. أكثر من ذلك، يأتي هذا الإقرار الدستوري في وقت:

تزداد الحرب ضد لغة الضاد، التي تقودها الفرنكوفونية وأنصارها على العديد من المستويات الفكرية والسياسية والثقافية والإعلامية.

تزداد الحرب ضدها، التي يقودها أنصار اللهجات الأمازيغية، الذين يروا في اللغة العربية لغة وافدة، ينبغي التعامل معها كلغة أجنبية!.

تزداد الحرب التي يقودها أنصار اللغة الدارجة/ الأم، وبعضهم يرى تركيزها محل الفصحى كلغة للتعليم الأولى والتعليم الابتدائي، باعتبارها لغة قريبة إلى الوجدان الشعبي، وبعضهم الآخر يطالب بجعلها لغة رسمية للإعلام من أجل تقريب المعلومة إلى الذهن المغربي.

الأكيد أن وضعية هذه الحروب، التي تزداد اشتعالا مع الأيام، هي التي جعلت/ تجعل دسترة اللغة العربية كلغة رسمية للمغرب، منذ سنة 1962 وحتى الآن، نصا فارغ المحتوى، لا أساس له من الصحة، ولا موقع له على أرض الواقع، وهي ما جعل الفضاء اللغوي في المغرب يحتضن بعشوائية العربية والأمازيغية بلهجاتها الثلاث، والحسانية والدارجة، إضافة إلى الفرنسية والإسبانية؛ وهو ما يشكل فسيفساء هجينا بامتياز، تتلقى فيه اللغة العربية الضربات تلو الأخرى، وبشكل مستمر، من كل صوب ومن كل صنف.

والسؤال العريض الذي تطرحه هذه المفارقة العجيبة: هل من مبررات لهذه الحرب؟ هل تعاني اللغة العربية حقا من تهديد الاندثار والموت..؟ هل هي غير قادرة على مواجهة تحديات العولمة..؟ هل هي غير قادرة على تلبية الشروط الموضوعية لإدارة المغرب واقتصاده وإعلامه وتعليمه؟ هل هي غير قادرة على تلبية شروط تعليمه العالي..؟ أم إن الأمر يتعلق بغزو استعماري بعيد عن العقل والمنطق وعن القيم الأخلاقية؟.

المتتبعون لهذه الإشكالية يشعرون بأن اللغة العربية، التي شكلت باستمرار عنوانا بارزا لهوية المغرب الثقافية والإسلامية، تعرضت وتتعرض لمؤامرة كبرى، ليس فقط من طرف السياسات الغربية المعادية لهذه الهوية، والتي تسعى إلى تركيز لغاتها بقوة السلاح والعلم والمال والتكنولوجيات والمنطق المادي، خارج حدودها، من أجل مواصلة هيمنتها الاقتصادية والثقافية والحضارية، ولكن أيضا من طرف السياسات المحلية، التي أصبحت عاجزة عن حماية هويتها أو الدفاع عنها، بسبب الضعف والتخاذل وانعدام الشعور بالمسؤولية.

-2-

في نظر العديد من فقهاء اللغة، داخل العالم العربي وخارجه، أن اللغة العربية لم تعش عصرا مزدهرا كما تعيش في هذه المرحلة من التاريخ، فهي لغة عالمية، وهي في الطليعة، سواء من حيث الانتشار وعدد الناطقين بها، أو من حيث حضارتها، وهي إضافة إلى ذلك إحدى المقومات الأساسية للهوية العربية الإسلامية.

إن هذه المكانة لا تعود فقط إلى الانتشار الواسع غير المعهود الذي تعرفه لغة الضاد منذ مطلع القرن العشرين، من خلال التدفق عبر وسائل الإعلام المختلفة، وعبر المؤسسات التعليمية بجميع مستوياتها إلى غير ذلك من قنوات الانتشار الذي بلغ أوسع مدى1 ولكن تعود أيضا إلى الوضع العلمي لهذه اللغة، التي ساهمت عبر تاريخها الطويل في بناء الحضارات الإنسانية المتعاقبة، والذي يجعلها اليوم وأكثر من أي زمن مضى قادرة على مواجهة طغيان حضارة العولمة، بكل الوسائل والإمكانات.

إن اندماج اللغة العربية الكلي في شبكة الإنترنيت على نطاق واسع، وظهور آلاف المواقع والمعاجم الإلكترونية، واعتماد التدقيق الإملائي والترجمة الآلية، من وإلى اللغة العربية، يؤكد بألف دليل على متانة وقوة موقع هذه اللغة العلمي، الذي يجعل منها لغة العصر الحديث، كما كانت لغة العصور الغابرة.

-3-

السؤال الذي يطرح نفسه بقوة، أمام وضع اللغة العربية في مغرب اليوم: ما هي الخطورة التي تمثلها سيطرة لغة أجنبية على الإدارة والاقتصاد والتعليم الجامعي والإعلام والحياة الاجتماعية؟.

طبعا، اللغة الأجنبية كيفما كانت أهميتها ومكانتها لا تريد ولا تسعى أن تجعل من الشعب المغربي شعبا حضاريا، حداثيا، قادرا على الخلق والإبداع والمشاركة، وإنما تريد وتسعى أن تجعل منه شعبا تابعا لفكرها، خادما لمفاهيمها وقيمها وإيديولوجيتها، مستهلكا لتصوراتها؛ ذلك لأنه ليس في إمكان أي لغة أجنبية، كيفما كانت هويتها الحضارية والعلمية، أن تنوب عن اللغة الوطنية/ الأم، في التعبير عن الهوية، كما عن الذات الوطنية، لأن اللغة مجبولة بروح الأمة ومسكونة بذاكرتها.

إن مكانة اللغة داخل أي مجتمع إنساني لا تتحدد فقط في ما تقدمه للتعليم أو للإدارة أو للإعلام، ولكن ينظر إليها باعتبارها وسيلة للتفكير والتأمل والتواصل والإبداع، وأيضا باعتبارها الحامل الأساسي لثقافة هذا المجتمع وهويته، التي أصبحت في عصرنا الشغل الشاغل لمعظم تخصصات العلوم الإنسانية المختلفة.

-4-

إذا كان الأمر كذلك فإن سؤالا مباشرا يطرح نفسه بقوة: ما هي مبررات أنصار الفرنكوفونية في إقصاء اللغة الرسمية الأولى للبلاد عن الإدارة والاقتصاد والتعليم العالي، وتركيز لغة أجنبية على مساحة من مجالاتها المعرفية..؟.

الذين يتحملون هذه المسؤولية الجسيمة يدعون أن الأمر لا يتعلق بإقصاء الفصحى لصالح الفرنسية، وإنما بتحديث البلاد، وإخراجها من حلبة التخلف، وهو ما يشترط لغة علمية، قادرة على خوض غمار الحداثة والتحديث!! في نظر أصحاب هذا الإدعاء أن الحداثة تشترط لغتها العلمية ومنظوماتها التربوية والعقلية كما تشترط بيئتها بتفاصيلها، وهو ما يعني التنازل عن اللغة العربية/ الرسمية، وعن مقوماتها الثقافية.

القضية في نظر أصحاب هذا الادعاء تتصل بامتلاك العلم وتحويله إلى أدوات وعدد وتجهيزات وأسلحة وإنتاج نوعي، وإلى قفزات حضارية نوعية، من شأنها إخراجنا من حلبة التخلف، إلى فسحة الحضارة والتمدن.

وعلى أن هذا الادعاء حق يراد به باطل، فإنه حتما يقودنا إلى سؤال محير: هل يتطلب دخولنا عالم الحداثة أو ما بعدها تنازلنا عن لغتنا الأم؟ أي عن الحقوق والأهداف والثوابت المبدئية والتاريخية لمغرب الماضي والحاضر والمستقبل؟.

هل يتطلب انخراطنا في الحداثة أن نفرض على مناهجنا التعليمية، خاصة بالتعليم العالي، لغات أجنبية، بما تحمله من أهداف ومصالح وأنماط وسلوكيات، وهو ما يؤدي حتما إلى تشويه لغتنا الأم/ اللغة العربية، وسحق شخصيتها وإبادة وجودها؟.

-5-

إذن، كيف لنا أن نقرأ هذا الوضعية..؟

دستور البلاد يقر بأن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد، ونخب البلاد السياسية تعمل على تركيز اللغة الفرنسية بأكثر القطاعات حيوية وأهمية في البلاد، ونعني بها قطاعات الإدارة والاقتصاد والتعليم والإعلام… وذلك باسم الحداثة والتحديث.

في واقع الأمر، عندما نضع هذه المسؤولية على كاهل النخبة السياسية فلأنه لا يمكن فرض أي لغة من الخارج، إذا لم تجد في البنية السياسية والاقتصادية والإيديولوجية الداخلية ما يتيح استقبالها وتقبلها، بل استنباتها وتوظيفها اجتماعيا وإداريا وتربويا على أرض الواقع، فأثر اللغة الأجنبية لا يتميز إلا في الحقل الإيديولوجي/ السياسي/ السائد، المعبر عن البنية السياسية الاقتصادية الاجتماعية السائدة.

لأجل ذلك على هذه النخب/ السياسية مواجهة الأمر بصراحة ووضوح، لأن اللغة ليست مجال مساومة أو حسابات سياسية كما يقول الأديب المغربي صلاح بوسريف؛ فاللغة هي لباس الإنسان، وهي اللسان الذي به يؤكد وجوده ويحرص على خصوصياته الثقافية والحضارية التي حدثت في سياق هذا اللسان، وبه تمت كل المعارف التي هي اليوم تراث الأمة ورأسمالها الرمزي.

من هذه الزاوية نرى أن الإشكالية اللغوية بمغرب اليوم، وطبيعة النقاشات السياسية والثقافية المرتبطة بها، لم تتم حتى الآن معالجتها بالشجاعة المطلوبة، وبالديمقراطية التي تعتمد الحوار الوطني، الحوار العلمي، آلية لتدبير الاختلافات حولها.

-6-

السؤال الختامي في قراءتنا لإشكالية اللغة والدستور: كيف للغة العربية أن تعود لاحتلال موقعها الدستوري على أرض الواقع؟.

ماذا على السياسة والأخلاق والقيم أن تفعل من أجل هذه الغاية؟.

إن تغيير وضع اللغة العربية من حيث الممارسة يستلزم قبل كل شيء بعض الشروط الموضوعية، منها:

1/ إعادة الاعتبار للغة الدستور الأولى، على المستوى الذهني لدى المستعملين اللغويين، وانتهاج سياسة القرب اللغوي، وربطها بالمحيط السوسيو اقتصادي في سياق العمل على جعل المنتج اللغوي الذي يرضى متطلبات السوق اللغوي2.

2/ تنمية وتطوير الوظائف السوسيو ثقافية للغة العربية، وإعادة النظر في الممارسات اللغوية3.

4/ إعادة تنظيم الوظائف اللسانية، في إطار التوسع العادي لاستعمال اللغة الاجتماعي والرسمي، وتغيير المواقف السوسيو ثقافية تجاه اللغة العربية4.

5/ إنشاء مرصد وطني للغة العربية، يقوم بإغناء التفكير حول استعمالها، انطلاقا من معطيات واضحة ودقيقة5.

6/ العمل على تفعيل السياسة اللغوية في التظاهرات، وفي الصناعات الثقافية، وفي المواقف العامة، وفي الطرق الجديدة للتواصل، بالإضافة إلى توطين استعمال اللغة العربية في الملك العمومي وجعلها لغة الخدمات اليومية6.

يعني ذلك أن تصحيح وضع اللغة العربية الرسمية للبلاد، في دستور محمد السادس، لا يتطلب فقط مواجهة النخبة الفرانكوفونية بسلاح القانون الدستوري، ولكن أكثر من ذلك يتطلب معركة شعبية/ سياسية/ ثقافية واسعة، تشارك فيها النخب الواعية المؤمنة، إضافة إلى الأحزاب السياسية والمجتمع المدني والبرلمان والجامعات ومجالس العلماء، لأن الأمر يتعلق قبل كل شيء بإعادة الاعتبار لهوية المغرب الوطنية والثقافية والإسلامية، ولقيمتها ومفاهيمها، وهو ما يجعل من هذه المعركة مصيرية بكل المقاييس.

1- من محاضرة للدكتور عبر العزيز بن عثمان التويجري (الأمين العام للإسيسكو) عن وضع اللغة العربية في وسائط الأعلام بالمعهد العالي للصحافة/ الرباط/ جريدة المساء 30 أكتوبر 2007 ص: 8.

2 – محمد غنايم/ راهنة تطبيع اللغة العربي، جريدة الأيام/ العدد 430 بتاريخ 3 ستنبر 2002 ص: 22.

3 – المرجع السابق

4 – المرجع السابق

5 – المرجع السابق

6- المرجع السابق

محمد أديب السلاوي

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى