هكذا أفهم الصيام – حسن المرابطي

لقد شاءت حكمة الله أن خلقنا واصطفانا لنكون من أهل المغرب الحبيب، في هذا الزمن بالتحديد؛ وقد وهبنا الله أسرة مسلمة، كانت وراء إيماننا بالإسلام دينا، أو قل دين الفطرة التي يولد عليها كل مولود حسب ما تقرر في النصوص الشرعية، ولم نخضع بذلك للتهويد أو التنصير أو التمجيس؛ ولهذا، فإن فطرتنا، ولله الحمد، لم تخضع لأي تأثير، حيث اصطفانا، سبحانه وتعالى، وجاء تديننا موافقا للفطرة السليمة، دون أن نتعب في البحث عن الحقيقة، وإنما عملنا يقتصر على إعادة تجديد إيماننا، في كل لحظة، وتقوية صلتنا بربنا سبحانه وتعالى؛ وفي هذا السياق، تأتي محاولتنا لإعادة تجديد خطابنا، ومحاولة إدراك حقيقة عبادة الله، بعيدا عن التفلسف المتأثر بالأفكار الغريبة التي اجتاحت الساحة الإعلامية والعلمية في الآونة الأخيرة.

وعليه، سيرا على نهج مساهمتنا في كتابة ” هكذا فهمت الإسلام”، التي سبق نشرها، سنحاول تسجيل بعض الخواطر، المؤسسة على النصوص الشرعية، وما تم مراكمته من خلال المطالعة والاستفادة من علمائنا ودعاتنا، بخصوص محاولة إدراك حقيقة الصيام في شهر رمضان؛ مع وضع بصمة خاصة ترمي إلى تبسيط المفاهيم، انطلاقا من مبدأ مشاركة المعلومة وتبليغ ما يراه كل واحد منا يخدم الإنسان، وفقا للأمانة التي حملها وهو في عالم الغيب.

كما يعلم الجميع، فإن أركان الإسلام خمسة، والصيام يأتي في الرتبة الرابعة حسب حديث جبريل عليه السلام ، كما رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ أما ما يتعلق به من أحكام وتفاصيل، فإن العلماء والدعاة لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة تتعلق به إلا فسروها وفصلوها، حتى أنهم لم يغفلوا بابا وتحدثوا عنه، مما جعل أحدنا لا يجد ما يضيف أو يستدرك عليهم؛ لكن بما أننا مطالبون بالتجديد، لاسيما تجديد الخطاب في عصرنا ليستقيم مع المستجدات، دون أن نغفل التنبيه إلى ضرورة التفريق بين التجديد، كما أشارت إليه النصوص الشرعية، وما يدعيه بعض المثقفين المعاصرين الذين تأثروا بالثقافة الغربية؛ مما جعل من دعوتهم سبيلا إلى تمييع الخطاب والتأسيس للتيه، وصار التجديد عندهم يقابل التمرد عن الإسلام والأخذ بما يخالفه، رفضا لكل ما له صلة بالإسلام وليس حبا للمنهج العلمي والعقلي، كما يحكون، لأن حالهم يخبرنا عن قبول معظم الخرافات التي يؤمن بها الفكر الغربي.   

وتفاعلا مع هذا الخطاب التجديدي المعوج، نجد من حاول التصدي له، بمختلف السبل، ويأتي ما يصطلح عليه “الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والحديث النبوي” في مقدمة ذلك؛ بيد أن بعض الدعاة والمتخصصين، بحسن نية، انساقوا مع التيار نتيجة ردة فعلهم، حتى وقعوا في المحظور، دون قصد، وصاروا يفسرون الإسلام وأحكامه بشكل لم يُعهد من قبل؛ لذلك نجد أن شعيرة الصيام لم تسلم من هذا، بعدما توسع، من أخذ بهذا المنهج، في تفسيرها وربطها بالجوانب المادية الصرفة، مما جعل الصيام وصفة طبية لمعالجة السمنة وبعض الأمراض الجسدية والنفسية، فضلا عن اعتبار شهر الصيام فرصة للتسويق لمختلف المنتجات المادية والمعنوية.

وعليه، فإن واجب الوقت هو محاولة تجديد الخطاب لتقديم الإسلام وشعائره، لتدارك بعض الهفوات والأخطاء القاتلة التي تجعل إيمان المرء لا يرتقي؛ وإنما، على العكس من ذلك، تأخذ به إلى صناعة التيه والأخذ بالحياة المادية، التي تجعل من شعائر الإسلام حركات آلية وميكانيكية تخضع للقوانين الفيزيائية والرياضية، حتى إن استقر الحال به نسي الجوانب الإيمانية الروحية التي تطمئن بها القلوب؛ ومن البديهي أن هذه الجوانب من آثار ذكر الله الذي تطمئن به القلوب، وما الصيام إلا من ذكر الله وفق مفهومه الواسع، حسب ما تقرر في كتاب الله والحديث النبوي الشريف، كما سيتبين لنا فيما يلي.

لقد أخبرنا الله عز وجل في كتابه الكريم أن الإنسان شهد بوحدانيته، كما أنه سبحانه شهد على هذه الشهادة، قال تعالى: 

“وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ  أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ” (الأعراف174-172)؛

وأن الحق سبحانه وتعالى عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبوا جميعا، وحملها الإنسان عن طواعية، في حين كان خيار الرفض بيده؛ وبذلك، يكون قد تحمل المسؤولية، بدءا بمسؤوليته عن ذاته وانتهاء بمسؤوليته عن غيره في العالم أجمع، لأن الأمانة التي قبِل بها تتسع لكل هذا، قال تعالى: 

“إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا” ( الأحزاب 73-72)؛ 

وبالتالي، فإن الشهادة بوحدانية الله وتحمل الأمانة عن طواعية واختيار يقتضيان الاجتهاد في الالتزام بالقيم التي تحملها الشهادة حتى تؤدى الأمانة على أفضل وجه؛ ما يعني أن المرء في هذه البسيطة، يجب أن يكون في مجاهدة دائمة للقيام بما التزم به عن رضى؛ لذلك، فإن حياته، بمختلف تفاصيلها، لا تقبل إلا تكريسها للأمانة التي تحملها، وفق ما يرضي الله سبحانه وتعالى، مصداقا لقول الله عز وجل: “قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ” (الأنعام 162)؛ وعليه، فجميع الأعمال يُرجى أن تكون لله، ويُستحضر فيها اسمه، وفق بنود الشهادة والأمانة التي تكلفت الرسل والأنبياء، عليهم السلام، بتبليغها تفصيلا وتفسيرا، حتى تتحقق مهمة الإنسان بنجاح، بل قل: التذكير بها، لأن الإنسان سبق له أن تعرف عليها في عالم الغيب، مما جعل الخطاب القرآني يؤكد على مصطلح التذكير ويجعله مهمة كل نبي مرسل، وإنسان تذكر وعرف.  

وعليه، فإن عبادة الصيام، سواء في شهر رمضان وغيره، وفق ما بلغنا عنها من أحكام وتفاصيل، تندرج ضمن ما ذكرنا أعلاه؛ ذلك أن تنفيذ بنود الأمانة، بشكل عام، يعتبر هو العبادة، وبهذا المعنى يمكن إدراك المفهوم العام للعبادة كما هو مبين في أواخر سورة الذاريات، قال تعالى: “وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ” (55 -56)؛ غير أن هذه العبادة يمكن التمييز بين مراتبها المختلفة والمتميزة عن بعضها البعض؛ ذلك أن منها ما هو عام وخاص؛ حيث أن العبادة بشكل عام يندرج ضمنها كل الأفعال والتصرفات التي يأتيها الإنسان الذي يسعى لأداء الأمانة التي تحملها، لأن إتيان الأفعال بهذه النية يصرفها من الأفعال الاعتيادية إلى الأفعال التعبدية، كما جاء في الحديث الشريف: ” ..وفي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، أَيَأتي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكونُ له فِيهَا أَجْرٌ؟ قالَ: أَرَأَيْتُمْ لو وَضَعَهَا في حَرَامٍ أَكانَ عليه فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذلكَ إذَا وَضَعَهَا في الحَلَالِ كانَ له أَجْرٌ.”، ولهذا المفهوم شواهد كثيرة يصعب حصرها في مقالنا هذا.

وأما العبادة التي تتخذ شكلا خاصا ومتميزا، فلا نجد لها من التعريف أفضل مما قاله الفيلسوف الدكتور طه عبد الرحمن: “إن العبادة هي بمنزلة لغة الوجود التي يتواصل بها الإنسان مع الإله كما يتواصل باللغة المنطوقة مع أخيه الإنسان؛ فلا شيء في الوجود إلا يعبد خالقه، طوعا أو كرها؛ فحين يدخل الإنسان في العبادة، فإنما هو يُكلم ربه على قانون ربه، لا على قانون نفسه، مرتقيا بوضعه، بحيث تكون العبادة عبارة عن مرقاة للإنسان.”

وبالتالي، فإن الإنسان الذي يسعى إلى عبادة الله طوعا، في هذه الحياة، من خلال الصيام في شهر رمضان المبارك، يكون في تواصل مع الله بالكيفية التي كتبها سبحانه وتعالى عليه؛ وإنما من جاهد نفسه، وصام وفق ما حدده الشرع، يستطيع أن يدرك من المعاني الإيمانية ما لا يخطر على بال، بل قد يرتقي إلى مستويات في غاية الجمال الروحي، والتي تمتد على طول اليوم؛ والصيام من العبادات الخاصة التي يطول وقت أدائها، والذي يصل إلى ساعات طوال.

وربما في هذا السياق، قد نفهم من نص الحديث القدسي السر وراء مكانة الصوم ولماذا خص الله جزاء الصوم به سبحانه وتعالى؛ جاء في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه) رواه البخاري ومسلم.

وعلى سبيل الختم، إن الإنسان مطالب بأداء الأمانة، بعدما قبل بها عن طواعية في عالم الغيب؛ بيد أن في أداء هذه الأمانة جمالية خاصة، حيث أن أدائها هو عبادة الله سبحانه وتعالى؛ بل يرتقي الإنسان إلى مستويات من الجمال كلما أتى بعبادة خصها الله عن غيرها من العبادات بما أراد؛ ذلك أن العبادة لغة الوجود كما سبق معنا، وما الصيام إلا جزء من هذه اللغة الخاصة، والتي تجعل الإنسان يتصل بربه طوال اليوم، مما يجعل من خلوف فم الصائم شيئا أطيب عند الله من ريح المسك، حسب الحديث القدسي؛ بل إن إدراك حقيقة الصيام واستيعاب المفاهيم التي ذكرت في كتاب الله والسنة النبوية الشريف لا يتأتى إلا عند عدم نسيان أن الصيام عبادة تصل المرء بربه طوال اليوم، حيث يتحقق ذكر الله في اقوى صوره بدون انقطاع، إن أحسن اتباع المنهاج النبوي الشريف، وليس تحويل الأنظار إلى ما يُعتبر هامشيا، من قبيل ما نراه من تركيز على الجوانب المادية الصرفة التي أنست الصائم في أساس الصيام وحقيقته.

اللهم وفقنا إلى أداء الأمانة كما ترضى يا أرحم الراحمين، اللهم وفقنا إلى الصيام الذي يصلنا بك وينسينا عن ما سواك.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى