دوامة الأسئلة – الزهرة الكرش

مختلطة هي المشاعر التي تتملك النفوس والجميع يلعب دور المُشاهِد والمتتبع الجيد للقصف والقتل والتنكيل الذي يطال أهلنا بفلسطين. فما عاد أحد يدري أتطبَّعت النفوس مع هذه الصور المتكررة حتى أصبح المشهد يشبه الجالس أمام لعبة الكترونية حربية أو فيلم “أكشن”، أم أنه تحت وطأة الصدمة فُقِدت القدرة على التعبير؟
وبينما الجميع في هذا التخبط العاطفي، فجأة تلهج الألسنة بالتهليل والدعاء، مُعتذرين بأنه لا سبيل لنصرة الأشقاء غير الدعاء.

أصبح هذا المشهد المتكرر، وكونه غير مقنع تظل الضمائر الحية تقض مضجع أصحابها، وتعصف برؤوسهم أسئلة كثيرة تدخلهم في دوامة من الإجابات المتناقضة. الأسئلة كثيرة والأجوبة متداخلة وربما غير مقنعة، وكثُر من يتساءلون: هل سيكتفي الجميع بالدعاء؟ أم أن الدعوات لم تعد مجدية، وواقع الحال يتناقض مع الكلمات الملتهبة التي يُتلَفظ بها.

ثم هل هذه الدعوات لها من المقومات ما يجعلها من الدعاء المستجاب؟ فالمسلمون لم يتوقفوا عن الدعاء بتحرير الأرض المقدسة لأزيد من سبعين سنة ولم يستجب الله لهم؟ وفي ظل هذه الأحداث المتسارعة والآلام المتكررة ما العمل؟ وما المطلوب من كل إنسان مسلم ليؤدي واجبه تجاه إخوانه؟ 

وهل سيبقى التعامل مع قضية فلسطين يخضع لردود الأفعال العاطفية الموسمية؟ حيث كلما تجدد القصف والقتل، انتفض المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها إلى جانب أحرار العالم، وصرخوا حتى بلغت القلوب الحناجر. ثم بعد مدة يعود الجميع لأعمالهم وتهدأ أنفسهم وبالكاد يتذكرون أن لهم إخوة يعانون تحت الحصار وأطفالهم يعانون التجويع والمرض، فالحصار يطال كل شيء حتى شربة الماء.

الواقع به من العتمة ما يكفي ليصاب المتأمل فيه بالاكتئاب، غير أن تحليل الأمور بمعايير الإيمان والسنن الإلهية لا يعطي نفس النتائج اعتمادا على المعايير المادية البحتة. 

إن الثبات يُسْتمَد من الثقة بالله سبحانه وتعالى وبكلامه عز وجل، وهذه الثقة هي التي تشُد العزائم وتهَب الاستقرار النفسي والثبات العاطفي الذي يُمكّن من تجاوز المحن رغم قساوتها. فالله عز وجل يقول (فإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً * إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً)، فالإيمان بالفرج القادم واليسر بعد العسر واليقين بأن الظلمة مهما اشتدت تحمل في ثناياها نور الفجر، يجعل المؤمن متفائلا، لا يجد اليأس إلى قلبه سبيلا رغم الآلام، وهذا ما يعينه على تخطي أكبر الأزمات بأقل الأضرار النفسية. 

والله سبحانه العلي القدير في محكم كتابه يقول (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ۗ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)[الفتح 4] هذه الكلمات الربانية تزيد المؤمن يقينا بأن المستمسك بحبل الله، الواثق فيه وفي كلامه لن يعيش اليأس والاكتئاب، فربه يزيده إيمانا إلى إيمانه. وهذا تفسير رباني لما يُلمَس من ثبات أهل فلسطين، فرغم القتل الجماعي والترهيب المتكرر ومشاهد الدمار وصراخ الأطفال والتنكيل والتجويع، تبقى مشاهد ثباتهم تعجز الألسنة عن وصفها، فهي هدية من الله لمن عرف حقيقة الإيمان واستنارت بصيرته بنور القرآن (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)[ابراهيم 7].

 أهل فلسطين في ثباتهم وصبرهم واحتسابهم أعطوا الدرس البليغ والإثبات الحقيقي على أن القوة الحقيقية هي قوة الإيمان، فالمؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف. إنها قوة نابعة من الداخل، إنها قوة الاعتقاد في الله وقوة التوكل على الله وقوة الاستسلام الكامل لله.  إنها قوة الفهم العميق والتنزيل المُتدبِّر لكلام الله في كل أمور الحياة. 

أعطى الفلسطيني الدرس لكل من يعيش ضنكا في الحياة أو يحسب أن همومه بلغت عنان السماء، كي يراجع إيمانه ويسائل نفسه، فما يعيشه ما هو إلا انعكاس لضعف داخلي وإيمان مهزوز وسوء ظن بالله جل وعلا، وما هو إلا نِتاج لفهم غير سليم وغير مستوعب لكلام الله. 

وعودة إلى موضوع الدعاء، فالدعاء في عقيدة المسلم عدّة المؤمن وسلاحه كلما أحس بحاجته لربه أو تقطعت به السبل لأن له ربّاً قريبا يسمع ويجيب، وهذا أمر يقيني قطعي لا نقاش فيه، يقول سبحانه في محكم كتابه (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [سورة البقرة:186]، غير أن الآية تحيل على أمر في غاية الأهمية (فليستجيبوا لي)، يقول الشعراوي رحمه الله “إن الدعاء يطلب جوابا، وما دمت تطلب إجابة الدعاء، فالله قد دعاك إلى منهجه، فاستجب له إن كنت تحب أن يستجيب الله لك”، فالله سبحانه يدعو المؤمن المقر بقدرته جل وعلا وحكمته إلى الاستجابة له، استجابة استقامة وسير على هداه واتباع لسنة نبيه وعمل بكتابه حتى يكون أهلا لإجابة الدعاء. ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ:( رُبَّ أشعثَ أغبرَ مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره)[رواه مسلم] وفي حديث له ايضا: (… ثم ذكر الرجل يطيل السفر ، أشعث أغبر ، يمد يديه إلى السماء : يا رب يا رب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنّى يستجاب له ؟ ) [رواه مسلم]، إن للإجابة معايير وشروط لابد من استيفائها كما نستشف من الحديثين.

 طبعا هذا لا يعني أن يتوقف الإنسان عن الدعاء ولكن أن يعمل على أن يكون من أهل الإجابة بالحرص على تمثل الآية الكريمة (إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد:11] تمثلها من خلال العمل على الشقين الداخلي والخارجي. بمعنى أن يتوجه أولا إلى نفسه بإصلاحها وتقوية إيمانها، وتقوية صلتها بربها، مقراً بعظمته سبحانه وأسمائه وصفاته، وممتثلا لأوامره عز وجل ومتٌبعاً لهدي نبيه محمد ﷺ، حتى يتناغم ظاهره وباطنه وسره وعلانيته.

أما الشق الخارجي فيجمع فيه بين تعامله مع الآخرين وبين حقوقهم عليه، وذلك بالحرص على أن يكون حَسن الخُلق مع القريب والبعيد، أسوة برسول الله ﷺ، فهو القائل (إن من أحبِّكم إليَّ، وأقربِكم مني مجلسًا يوم القيامة، أحاسنَكم أخلاقًا، وإنَّ أبغضَكم إليَّ، وأبعدكم مني يوم القيامة، الثرثارون والمتشدِّقون والمتفيهقون)[رواه الترمذي]. فأخلاق المؤمن عنوان إيمانه وعلامته التجارية الفارقة، فمن لا خلق له يصبح متجرداً من إيمانه بل ومن إنسانيته. وخلق المؤمن هو خلق معدٍ يتعداه لغيره، فهو دائم الحرص على أن يُشيعَه بين الآخرين ويدعوهم إليه قولا وحالا بادلا ما في وسعه لتبليغ رسالته الإنسانية لكل من يستطيع دون كلل أو ملل، لا يصيبه في ذلك يأس ولا قنوط.

ثم إن هذا المؤمن التقي النقي الخلوق، يعرف أدواره في هذه الحياة ويفهمها.  خلقه الله للعبادة ( وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات56] وهذه العبادة تقتضي منه الجمع بين الفهم السليم والعمل السديد. فهم يجمع فيه بين فهم جوهر العبادة والفهم الجيد للواقع، وعمل يكون عنوانه جد متواصل وحرص كبير وصبر ومرابطة حتى آخر رمق. فهو مرابط على ثغره قائم بواجباته تجاه الآخرين، بدءاً بأسرته الصغيرة والكبيرة، عروجا على مجتمعه والناس أجمعين.  وسيرا على هدي رسول الله الذي جاء رحمة للعالمين، فهو يعمل على نشر هذه الرحمة لأنها رسالته لهذا العالم. 

هذه هي صورة المؤمن القوي الذي يحبه الله ورسوله، مؤمن منتصر على ضعفه، نقي السيرة والسريرة، مُجد في تبليغ رسالة العدل والرحمة، شعاره لا يأس ولا قنوط ولا تراجع، وإنما سير إلى الأمام عملا بكتاب الرحمان واتباعا لنهج خير الآنام وحرصا على الفوز بجنة الرضوان.إنّ مسلما بهذه المواصفات لاتزعزعه المحن ولا يضيع بين الأسئلة المتكررة، ولا تختلط عليه الأجوبة ولا تهزه ريح، فهو شامخ شموخ إيمانه، وصلْب صلابة عقيدته، وعادل كما أمره ربه، لا يظلم ولا يُظلم ولا يتخاذل عن نصرة قضايا أمته أو أي قضية عادلة. 

وما قضية فلسطين اليوم بالقضية التي تحتاج كثير تفكير أو كثير تردد، فهي القضية التي جمعت العقيدة والإنسانية في صوت واحد، فلا شرف لمن تخاذل أو طأطأ الرأس عن نصرتها والتعريف بها. فقد أصبحت قضية العالم ولم تعُد قضية العرب والمسلمين وحدهم، وسيلفظ التاريخ كل من كان عونا للظالم على المظلوم، وسيكتب التاريخ يوما أن المجتمع الدولي أجاز قتل الأطفال والأبرياء فانظر أيها القارئ إلى جانب من تريد أن يكتب إسمك.

وختاما لا بد أن نسطر أن الحياة قرارات واختيارات، فليحدد كل واحد كيف يريد أن يكون، المسلم القوي أم الضعيف؟ المسلم الذي يعمل على بناء الرجال أم الذي يعمل على بناء الأحجار؟  وإلى أي صف يريد أن يكتبه التاريخ، الى جانب الظالم أو المتخاذل أو المدافع عن الحق؟ وهل لازال يعيش الهزيمة النفسية؟ ولم يتَعلم الدرس من الفلسطيني الذي يوزع الحلوى بعد استشهاد أفراد أسرته، إيمانا منه بالنصر ورفضا للهزيمة النفسية قبل الميدانية. 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى