إلغاء الإرث بالتعصيب

سبق وبينا في المقالة السابقة أن هناك من يدعو إلى إلغاء الإرث بالتعصيب لأن أصله حديث منسوب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وباعثه وقائع تاريخية وسياسية تتعلق بالصراع حول الخلافة، دفعت النساء ثمنه مدة أربعة عشر قرنا، وإن كنا قد بينا تهافت هذه المزاعم في المقالة السابقة، بالدليل من القرآن الكريم والسنة النبوية والحقائق التاريخية والأصولية والمنطقية، فإن هناك من يستند لبعض المعطيات الواقعية، المتعلقة بالمظلومية التي تتعرض لها المرأة بنتا أو زوجة حال وجودها مع العصبة من الإخوة والأعمام، خاصة في حالات التركة التي تتعلق بالسكن الرئيسي. فيأتون بحالة وجود هالك له سكن وله زوجة وابنة وأعمام، فبعد وفاته يأتي العصبة فيخرجون المرأتان من بيتهما، ويقتسمانه معهما، وفي ذلك ظلم لهما، وتعد على حقهما في مسكن أفنيا عمرهما فيه.

  ونرى أن تقديم مثل هذه الحالة غايته استجلاب تعاطف عامة الناس مع دعاة إلغاء التعصيب، بينما هي كما سنبين في الفقرات الموالية حالات غير عامة  بينما التشريع يراد به التجريد والتعميم، ثم إن الشارع فتح إمكانية حل هذه المشكلات دون المساس بنظام متكامل أو نقض أصل من أصوله.

أولا: الأصل في التشريع العموم والتجريد:

من خصائص القاعدة التشريعية العموم والتجريد، أي أنها تسري على عموم المكلفين المخاطبين بها، وعلى مختلف الوقائع والأحداث التي تندرج في مضمونها، فهي قاعدة مجردة من الصفات والوقائع المحددة، هدفها تنظيم وضبط سلوك مجموع المكلفين، أي لا تخص وضعية محددة وأفرادا معينين، فهي تطبق على مجموع الأفراد الذين تتوافر فيهم الشروط التي تتضمنها القواعد والأحكام التشريعية العامة، فقاعدة “المشقة تجلب التيسير” مثلا تشمل الفرض بتعبير أهل القانون وهو الحالة الجالبة للحكم، كما تشمل الحكم، فالمشقة هي الفرض والحكم التيسير، والقاعدة كباقي القواعد والأحكام العامة في الإسلام  تتسم بالعموم والتجريد لأنها لا تتعلق بشخص معين أو واقعة محددة.

وبالعودة للحالة موضوع الدراسة فالتعصيب من الأحكام العامة المجردة عن الحالات من حيث وضعيتها الاجتماعية وحالاتها الواقعية، فهو حكم يخص ورثة لهم قرابة بالهالك، يرثون مقدارا غير محدد، مقابل الإرث بالفرض الذي حددت أنصبته من طرف الشارع جل جلاله، حيث يأخذ العاصب جميع المال إذا انفرد، وما تبقى عن الورثة ذوي الفروض إذا وجد معهم، فإن لم يبقى له شيء من التركة سقط سهمه، والشارع حين حدد الأنصبة حددها بناء على درجة القرب من الهالك، وفق رؤية تراعي بنية الأسرة وشبكة العلاقات الأسرية والاجتماعية، بعيدا عن منطق التجزيئ والنزاع والوضعيات الفردية والشخصية المادية والاجتماعية لأقارب الهالك، قال تعالى ” آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا، فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما” النساء، 11.

فالحالات التي يستحضرها دعاة التعصيب يقابلها حالات أخرى نفترضها ، وهي وجود هالك له زوجة وبنتان وخمسة إخوة أو خمسة أعمام، ولبنته وزوجته ممتلكات، ويعيشان في رفاه وخير وبركة، وإخوة الهالك أو أعمامه في وضعية اجتماعية صعبة، ويعانون ظروفا اجتماعية مزرية، وعلاقتهم طبيبة بالهالك، وكان يحسن معاملته، ويصلهم ويصلونه، فلو أخذنا بالقول بإلغاء التعصيب سنحرم ورثة خصهم الله بنصيب من التركة سيغنيهم عن السؤال، في وقت يعيش فيه النساء في رفاه وسعة، فضلا على أن نصيب النساء الورثة يتجاوز ثلثي التركة، ( البنتان: الثلثان/ والزوجة : الثمن) ونصيب الإخوة أو الأعمام الخمسة لا يتجاوز الثلث بالتعصيب.

فالحالة افتراضية والحالة الأولى كذلك، لذلك كانت الأحكام في الإسلام وقواعده عامة مجردة موجهة لعموم المجتمع، لضبط علاقات مكوناته ومؤسساته بما يضمن استقراره وانسجامه، وتفادي عوامل الشقاق والنزاع، خاصة في بنية مؤسسة الأسرة أهم المؤسسات التي ينبغي ضمان استقرارها وتماسكها، وذلك لن يتحقق إلا بتشريعات لا تراعي وضعية الأفراد والأشخاص بعينهم، وإنما بوضعهم الاعتباري في بنية المؤسسة.

الاعتبار الثاني: المتاح في الاجتهادات الشرعية

بعد التأكيد أن الأحكام وقواعدها في الإسلام تتسم في الغالب بالتجريد والعموم، فإن الإسلام لا يتجاهل الحالات الفردية والأحداث الطارئة، بل يخصها بالاجتهاد في ضوء الأحكام الثابتة والمقاصد المرجوة منها، وهو مجال كما قال الشاطبي في حديثه عن المآلات والأحوال ومراعاتها ” وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغب جارٍ على مقاصد الشريعة” وهنا ينبغي التأكيد أن الحالات الفردية التي تقتضي الاجتهاد قاربها الفقهاء بمنهج علمي دقيق، ومستندهم في ذلك اجتهادات الصحابة والتابعين والأئمة المهديين.

فالحالة التي ذكرت مثلا الخاصة بالأم والبنت والمسكن الرئيسي أو حالة البنات مع الأعمام مع فاقة البنات ويسر حال الأعمام مع قطيعة في حياة الهالك، وغيرها من الحلات التي قد تطرأ وتحتاج للاجتهاد بما يضمن مصلحة البنات والزوجة في تركة تؤمن عيشهما واستقرارهما ويجنبهما التشرد والفقر والفاقة لها من الحلول الفردية والجزئية من الاجتهادات الفقهية ذات الأصول الشرعية ما يغني عن دعوى إلغاء الإرث بالتعصيب، فمن اجتهادات الفقهاء الثابتة في المجال:

  • العمرى: وهو أن يهب منفعة العين ( البيت مثلا) لابنته وزوجته طيل حياتهما، ولن ينازعهما أحد من الورثة فيه، ولها من الأصول والاجتهادات ما يثبتها، ففي التاج والإكليل لمختصر خليل[1]  يقول أبو عبد الله المواق المالكي ” ( وَجَازَتْ الْعُمْرَى ) ” وأورد  أقوال الأئمة من المذهب، فعن ابْنُ عَرَفَةَ : الْعُمْرَى تَمْلِيكُ مَنْفَعَةٍ حَيَاةَ الْمُعْطَى بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَحُكْمُهَا النَّدْبُ وَيَتَعَذَّرُ عُرُوضُ وُجُوبِهَا ( كَأَعْمَرْتُكَ ) وعن الإمام الْبَاجِيُّ : صِيغَةُ الْعُمْرَى مَا دَلَّ عَلَى هِبَةِ الْمَنْفَعَةِ دُونَ الرَّقَبَةِ كَأَسْكَنْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ وَوَهَبْتُكَ سُكْنَاهَا عُمُرَكَ ( أَوْ وَارِثَكَ )، ومِنْ الْمُدَوَّنَةِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : مَنْ قَالَ لِرَجُلٍ قَدْ أَعَمَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ حَيَاتَك أَوْ قَالَ هَذَا الْعَبْدَ أَوْ هَذِهِ الدَّابَّةَ جَازَ ذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ ، وَتَرْجِعُ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَى الَّذِي أَعْمَرَهَا أَوْ إلَى وَرَثَتِهِ، وقد استند الأئمة إلى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنها مار واه الإمام مسلم[2] عن جابر جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ ».  وما رواه الإمام مالك في الموطأ [3]عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَيُّمَا رَجُلٍ أُعْمِرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَإِنَّهَا لِلَّذِي يُعْطَاهَا لَا تَرْجِعُ إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا أَبَدًا لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ”، وما رواه زيد بن ثابت قال ” قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من أعمر شيئا فهو لمعمره محياه ومماته ولا ترقبوا فمن أرقب شيئا فهو لسبيله”[4] وفي العمري كما قال الإمام ابن رشد في البيان والتحصيل[5]  لأهل العلم ثلاثة أقوال أحدها أنها تكون ملكاً للمعمر قال فيها هي لك عمري أو هي لك ولعقبك عمري والثاني أنها تكون ملكاً للمعمر في واحد من الوجهين وترجع إلى المعمر ملكاً بعد موت المعمر أو بعد موته
  • الهبة أثناء الحياة: وهي مما أجازه الشرع للإنسان البالغ العاقل بغير قصد حرمان وراث من الإرث، فللزوج الحق في أن يهب لبناته وزوجته ما يضمن مصلحتهما واستقراراهما المادي بعد وفاته، ويوفر لهما ضرورات عيشهما، مع اشتراط العدل في العطاء، ويؤكد هذا ما جاء في حديث النعمان ابن بشير قال” تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ، فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّه صِلَّى اللَّه عُلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْطَلَقَ أَبِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عُلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّه صِلَّى اللَّه عُلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : )اتَّقُوا اللَّه وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ( فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ . ولمسلم ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صِلَّى اللَّه عُلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا بَشِيرُ ، أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَقَالَ : أَكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لَا ، قَالَ : فَلَا تُشْهِدْنِي إِذًا ، فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْر”.

فالحديث دال على حق تصرف المالك في ثروته أثناء حياته مع تحري العدل في القسمة والعطاء أثناء الحياة، وهي حقيقة لا يمكن نكرانها، بل هي ما أقره جمهور العلماء، وبه قال الإمام مالك وأبو حنيفة والشافعي، لأن صاحب المال مكلف بالتصرف فيه أثناء حياته بميزان العدل الذي هو قيمة إسلامية مؤطرة لسلوك الانسان ومعاملاته المالية والاجتماعية، والتصرف بخلافها يترتب عله مفاسد عدة كالعداوة والحسد والقطيعة

أما بعد الوفاة فحق التصرف يعود للمالك الأصلي الذي هو الخالق جل جلاله، والذي نص على أنصبة محددة تتفاوت حسب الاعتبارات التي سبق ذكرها في مناسبات سابقة، والمتمثلة في درجة القرابة بين الوارث والمورث، وموقع الجيل الوارث من التتابع الزمني للأجيال، ثم العبء المالي الذي يوجب الشرع على الوارث القيام به حيال الآخرين.

د: محمد ابراهمي

عضو المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح

 

[1] : التاج والإكليل، ج:10/ 419

[2] : صحيح مسلم، ج: 5/ ص:68.

[3] : موطأ الإمام مالك، ج:4/ ص: 1094.

[4] : سنن النسائي ، ج:6/ ص: 242.

[5] : البيان والتحصيل، ج: 12/ ص:207.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى