نقد ادعاءات مذكرة “من أجل المساواة في الإرث” في الدعوة إلى إلغاء التعصيب

دَعت مذكرة من “أجل المساواة في الإرث” إلى إلغاء التعصيب، ونفت كل سند شرعي له، بل أصله كما ادَّعتْ الحديث ” المنسوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري، والذي جاء فيه “: أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَر”. وأن أصله وتاريخه يعود لاعتبارات تاريخية وسياسية، حيث جاء في المذكرة أن نشأة نظام التعصيب ” كان في الحقيقة أول الأمر سياسيا، نتيجة الصراع بين بني العباس والعلويين أبناء علي وفاطمة الزهراء، حول من له الأحقية في الخلافة، حيث ادعى العباسيون بأن البنت )فاطمة الزهراء( لا تحجب الأعمام في الإرث، وبالتالي الأولى بخلافة الرسول هم أبناء العباس لا أبناء فاطمة الزهراء، بدعوى أن الرسول لم يترك ذكورا، وبالتالي فالتعصيب هنا لأبناء العباس عم الرسول، وهذه هي الحقيقة التاريخية والسياسية التي يغفل عنها الكثيرون، والتي كرست قاعدة التعصيب التي لا يوجد لها أصل في القرآن، ودفعت النساء ثمنها لمدة أربعة عشر قرنا مضت ولا تزال، حيث كان السبب الرئيس في ذلك كله ،الأطماع السياسية،  كما دعت المذكرة إلى اعتماد قاعدة الرد في الإرث لحرمان العصبة من الميراث، لأن إرثهم أملته ظروف اجتماعية وتاريخية وسياسية .”[1]

وهذا اعداء باطل لعدة اعتبارات:

الاعتبار الأول: الإرث بالتعصيب أصله كتاب الله:

فمن الآيات القرآنية التي تثبت نظام الإرث بالتعصيب ما ود في قوله تعالى ﴿… وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ …﴾. سورة النساء، الآية 11.  فالآية تنص أن الأب يرث ما تبقى من التركة إن لم يكن معه ولد، وهو ما يؤكده أقوال المفسرين، حيث  يقول الطاهر ابن عاشور[2] في تفسيره للآية ” وقد علم أن للأب مع الأم الثلثين وترك ذكره لأن مبنى الفرائض على أن ما بقي بدون فرض يرجع إلى أصل العصابة عند العرب”.

ويقول الألوسي عنها في روح المعاني[3] : ” { فَلاِمّهِ الثلث } مما ترك والباقي للأب وإنما لم يذكر لعدم الحاجة إليه لأنه لما فرض انحصار الوارث في أبويه ، وعين نصيب الأم علم أن الباقي للأب وهو مما أجمع عليه المسلمون “…

وفي الجامع لأحكام القرآن للقرطبي[4] ” والحال الثاني : ألا يكون للميت ولد ولا إخوة ولا زوج ولا زوجة وينفرد الأبوان بالميراث . فيفرض للأم الثلث ويأخذ الأب الباقي بالتعصيب فيكون قد أخذ مثل حظ الأم مرتين . فلو كان مع الأبوين زوج أو زوجة أخذ الزوج النصف أو الزوجة الربع وأخذت الأم الثلث ( إما ثلث التركة كلها أو ثلث الباقي بعد فريضة الزوج أو الزوجة على خلاف بين الأقوال الفقهية ) وأخذ الأب ما يتبقى بعد الأم بالتعصيب”

أما الآية الثانية فهي قوله تعالى ﴿… إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ …﴾.سورة النساء، الآية 176.  فالآية نصت أن الأخ يرث كل التركة إن وجد لوحده، ويرث بالتفاضل مع أخواته، وهو ما تؤكده أقوال المفسرين، حيث قال ابن العربي في أحكام القرآن[5] ” فَتَأْخُذُ الْبِنْتُ النِّصْفَ وَمَا بَقِيَ لِلْعُصْبَةِ”

وقال الطبري في تفسيره[6] ” إذا لم يكن للميت ولد ذكر ولا أنثى، وكان موروثًا كلالة، النصفَ من تركته فريضةً لها مسمَّاة. فأما إذا كان للميت ولد أنثى، فهي معها عصبة، يصير لها ما كان يصير للعصبة غيرها.

وقال ابن رجب في تفسيره [7] “والمرادُ: أعطُوا الفروضَ المقدرةَ لمن سمَّاها اللَهُ لهم، فما بقِيَ بعدَ هذه الفروضِ، فيستحقّه أوْلى الرجال، والمرادُ بالأوْلى: الأقربُ، كما يقال: هذا يلي هذا، أي: يَقرُبُ منه، فأقربُ الرجال هو أقربُ العَصَباتِ”

ويقول سيد طنطاوي في الوسيط[8] ” والمعنى : يسألك أصحابك يا محمد عن توريث الكلالة فقل لهم : الله يفتيكم فى ذلك ، إذا مات إنسان ولم يترك أولاداً لا من الذكور ولا من الإِناث . ولم يترك كذلك والداً ، وترك أختا شقيقة أو من بين أبيه ، فلأخته فى تلك الحالة نصف ما تركه هذا الميت بالفرض ، والباقى للعصبة”

الاعتبار الثاني: صحة حديث التعصيب وقوته:

أما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ” أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَر” فقد ورد في صحيح البخاري وصحيح مسلم ومسند الإمام أحمد والمعجم الكبير للطبراني وبلوغ المرام من أدلة الأحكام لابن حجر وجامع العلوم والحكم لابن رجب وسنن البيهقي والدارقطني والدرامي والنسائي… ومسند الدرامي وأبي داود وأبي يعلى.. وغيرهم من الأئمة كثير ، وهو ما ينفي عنه الضعف،

فالحديث موضح ومفصل لطريقة قسمة المواريث الواردة في كتاب الله تعالى، وما فضل عن القسمة مما لم يصرح به القرآن الكريم، وكيفية توريث العصبة الذين لم يذكر القرآن الكريم أسماءهم، وهو حديث من الأحاديث النبوية التي لا يمكن الادعاء بوضعها وإضافتها ونسبتها ـــ كما يدعي أصحاب المذكرة ــ إلى رسول الله، لالتزام من نقلها من الأئمة بمنهج دقيق ومحكم في الضبط والنقل والجرح والتعديل ينفي عن أصحابه الكذب أو الخطأ أو التساهل في النقل، أو التأثر بالمجريات والأحداث التاريخية أثناء التثبت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقله. كما أن الحديث منقول من طرق متعددة يستحيل عقلا أن يتواطأ أصحابها على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كما يعضض الحديث ويؤكد معناه ما ورد في حديث آخر في سنن الدارقطني والبيهقي ومصنف ابن أبي شيبة.. “عن جابر بن عبد الله أن امرأة سعد بن الربيع قالت : يا رسول الله إن سعدا هلك وترك ابنتين وأخاه فعمد أخوه فقبض ما ترك سعد وإنما تنكح النساء على أموالهن فلم يجبها في مجلسه ذلك ثم جاءته فقالت يا رسول الله ابنتا سعد فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أدع لي أخاه فجاء فقال ادفع إلى ابنتيه الثلثين وإلى امرأته الثمن ولك ما بقى”

الاعتبار الثالث: رد الحديث نقض لأصل من أصول التشريع في الإسلام:

معلوم عند عامة المسلمين فضلا عن الدارسين والمتخصصين أن السنة النبوية الأصل الثاني من أصول التشريع، فهي المخصصة لعموم القرآن الكريم، والمفصلة لمجمله، والمقيدة لمطلقه، والموضحة لمشكلة، والمضيفة لكثير من الأحكام غير الواردة فيه.. فلو أخذنا بالادعاء السابق ونقضنا الحديث المذكور فسنفتح مجال النقض لكل ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالتالي نقضُ وهدُّ أصل من أصول التشريع الذي به نتعبد الله ربنا في صلاتنا ومناسكنا وزكاتنا ومعاملاتنا المالية والاجتماعية، فبالسنة تعرفنا على كيفية الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم ” صلوا كما رأيتموني أصلي”[9] وبها تعرفنا على طريقة أداء المناسك، لقوله عليه الصلاة والسلام ” خذوا عني مناسككم”[10] وبها تعرفنا على مقادير الزكاة ” ” فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ وَالْبَعْلُ الْعُشْرُ وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ”[11] وقوله صلى الله عليه وسلم، ” لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ”[12]

فالتساهل في رد الأحاديث الصحيحة التي أجمعت الأمة على صحتها منذ أربعة عشر قرنا مغامرة غير محسوبة العواقب، وتطاول على تخصص أفنى العلماء أعمارهم في ضبط مسائله وتحرير مفاهيمه وتقرير قواعده للاستفادة من ثمراته، من متطفلين على التخصص لم يشموا رائحة هذا العلم فضلا عن التعمق والتضلع فيه.

الاعتبار الرابع: الادعاء ان التعصيب يعود لأسباب تاريخية لا أساس له

إن الادعاء أن الإرث بالتعصيب يعود لحقيقة تاريخية وأسباب سياسية، تتمثل في الصراع بين بني العباس والعلويين أبناء علي وفاطمة الزهراء رضي الله عنهما حول من له الأحقية في الخلافة، بدعوى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يترك ذكورا، وبالتالي فالتعصيب لأبناء العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم، ادعاء باطل للأن نظام الإرث بالتعصيب أصله القرآن الكريم والسنة النبوية كما سبق وأثبتنا ذلك في المحاور السابقة، وهو ما ينفي أصله التاريخي كما يدعي دعاة القراءة التاريخية للنص الديني، فهي محاولة يائسة في الاستنجاد بالمنهج التاريخي في قراءة النص والاعتقاد بأنه مَنْتَجٌ ثقافي أصله الأحداث والسياق الذي ظهر فيه، فتاريخ النص يسبق تاريخ الحدث الذي يستنجد به هؤلاء، كما أن المعطيات التاريخية لا تسعفهم في تأكيد هذا المعطى، حيث لم يظهر نزاع بين علي والعباس حول الخلافة، وما ورد في الخلاف بين فاطمة والعباس في الميراث ينقضه ما ثبت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ” لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ[13]

أما اعتماد قاعدة الرد في الإرث لحرمان العصبة من الميراث، لأن إرثهم أملته ظروف اجتماعية وتاريخية وسياسية فحجة واهية ينطبق عليها من الحجج ما ينطبق على سابقتها لضحدها وردها وبيان تهافتها.

 د. محمد ابراهمي

عضو المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح

 

**

[1] : مذكرة من أجل المساواة في الإرث، ص ص:24.

[2] : التحرير والتنوير 904.

[3] : روح المعاني، 3/ 457.

[4] : في ظلال القرآن/ 2/60

[5] : أحكام القرىن، ج2/171.

[6] : تفسير الطبري، 9/343.

[7][7] : روائع التفسير، 1/376.

[8] : الوسيط، 1153.

[9] : صحيح البخاري/ 8/72.

[10] : صحيح مسلم/ 1/ 302

[11] : موطأ الإمام مالك، 2/380.

[12] : المصدر نفسه، 2/342.

[13] : موطأ الإمام مالك، 5/1445.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى