نقد ادعاءات مذكرة “من أجل المساواة في الإرث” في حقيقة تدليس وطمس أحاديث المساواة في العطية

ورد في المذكرة السالفة الذكر أن الإسلام دعا إلى “العدل والمساواة والتسوية في العطاء، مع إمكانية التفضيل للنساء، وأن الفقهاء طمسوا أحاديث كثيرة واردة في التسوية بين الأبناء في العطاء، وإذا كان لا بد من إيثار وتفضيل فيجب أن يتم للنساء.”[1] واستدلوا على ذلك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النعمان ابن بشير قال” تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ، فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّه صِلَّى اللَّه عُلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْطَلَقَ أَبِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عُلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّه صِلَّى اللَّه عُلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : )اتَّقُوا اللَّه وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ( فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ . ولمسلم ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صِلَّى اللَّه عُلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا بَشِيرُ ، أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَقَالَ : أَكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لَا ، قَالَ : فَلَا تُشْهِدْنِي إِذًا ، فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْر”. ورأى أصحاب الوثيقة أن البنت كالابن في استحقاق برها، وكذلك في عطيتها، واستدلوا أيضا[2] بحديث  ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  ” سووا بين أولادكم في العطية، ولو كنت مؤثرا لأحد لآثرت النساء على الرجال”[3] .

إننا لا نختلف في حقيقة أن مبنى الشريعة على إقامة العدل، وأن النبي عيه السلام أكد على المساواة في العطية للأبناء حال الحياة، والأحاديث السالفة الذكر تشهد للمسألة، لكننا نرى أن أصحاب الوثيقة يستدلون بها في غير محل النزاع، ويتهمون علماء الإسلام بما هم منه براء وهو ما سنحاول توضيحه في الحقيقتين التاليتين:

1: حرص الصحابة والمحدثين على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إن الباحث المبتدئ في علم الحديث ومصطلحه يقف عند الحرص البالغ الذي أولاه الصحابة والتابعون وتابعوهم والمحدثون لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم رواية ودراية، فقد حرصوا غاية الحرص في تلقيه وحفظه وضبطه ونقله، ووضعوا لذلك مسائل وقواعد وضوابط جمعها علمي مصطلح الحديث والجرح والتعديل، وهو ما ينفي الادعاء بأن الصحابة أو الفقهاء تواطأوا على طمس وإخفاء أحاديث بعينها، أو التحريف أو التغييير لبعضها، ولا أدل على ذلك من الحديث التي استدل به أصحاب المذكرة، فبالعودة لكتب الحديث التي أوردته سيجد القارئ نفسه أمام تراث ضخم من المصادر التي نقلته لنا.

فحديث النعمان ابن بشير بالرواية الواردة في المذكرة أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، وأبو الفضل أحمد بن حجر العسقلاني في عمدةُ الأَحكامِ من كلامِ خيرِ الأَنامِ عليه الصلاةُ والسلامُ، وأبو السعادات ابن الأثير في بلوغ المرام من أدلة الأحكام، وأبو محمد عبد الغني المقْدِسِيِّ الحنبليِّ في عمدة الأحكام من كلام خير الأنام صلى الله عليه وسلم.. وورد بروايات أخرى في صحيح البخاري ومسلم ومسند الإمام أحمد والمعجم الكبير وسنن البيهقي وسنن الدارقطني ومصنف أبي شيبة ومستخرج أبي عوانة.. وغيرهم من الأئمة كثير مما ينفي عنهم وعن الأئمة الفقهاء قصد الطمس والتدليس لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو كان القًصْدُ إخفاء المعنى لكان الأولى إخفاء مصدره وعدم إثباته وذكره والتعريف به.

2: في معنى حديث النعمان ابن بشير:

استدل أصحاب المذكرة بحديث النعمان ابن بشير في وجوب العدل بين الأبناء ذكورا وإناثا في القسمة والعطاء أثناء الحياة، وهي حقيقة لا يمكن نكرانها، بل هي ما أقره جمهور العلماء، وبه قال الإمام مالك وأبو حنيفة والشافعي، لأن صاحب المال مكلف بالتصرف فيه أثناء حياته بميزان العدل الذي هو قيمة إسلامية مؤطرة لسلوك الانسان ومعاملاته المالية والاجتماعية، والتصرف بخلافها يترتب عله مفاسد عدة كالعداوة والحسد والقطيعة التي قد تقع بين الأبناء بسبب هذا التصرف، وفي قصة يوسف ما يثبت ذلك، إذ تَوَهُّمُ الإخوة تفضيل يعقوب عليه السلام ليوسف ترتب عليه التخطيط لقتله والتخلص منه، قال تعالى ” إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ،اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ” يوسف الآية 8/9.

أما بعد وفاته فحق التصرف يعود للمالك الأصلي الذي هو الخالق جل جلاله، والذي نص على أنصبة محددة تتفاوت حسب الاعتبارات التي سبق ذكرها في المقالة السادسة، والمتمثلة في درجة القرابة بين الوارث والمورث، وموقع الجيل الوارث من التتابع الزمني للأجيال، ثم العبء المالي الذي يوجب الشرع على الوارث القيام به حيال الآخرين.

أما قوله صلى الله عليه وسلم ” ولو كنت مؤثرا لأحد لآثرت النساء على الرجال”  فهو من باب التأكيد على حق البنات في مزيد من الرعاية والاهتمام والعناية من طرف الآباء في حياتهم، لما عرفه واقع المجتمع من تفضيل للذكور على الإناث لأسباب اجتماعية تتعلق بالقدرة على القتال والكسب والنسب.. لذلك جاء التأكيد من رسول الله على مراعاة حق الإناث في أحاديث عدة منها قوله صلى الله عليه وسلم  الذي رواه أنس ابن مالك ”  “مَنْ عَالَ ابنتين أَوْ أُخْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا حَتَّى يَبِنَّ أَوْ يَمُوتَ عَنْهُنَّ كُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ كهاتين وأشار بأصبعه الوسطى والتي تليها”[4] وفي مسند الإمام احمد قال عليه الصلاة والسلام ” مَنْ كُنَّ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ يُؤْوِيهِنَّ وَيَرْحَمُهُنَّ وَيَكْفُلُهُنَّ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ الْبَتَّةَ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنْ كَانَتْ اثْنَتَيْنِ قَالَ وَإِنْ كَانَتْ اثْنَتَيْنِ قَالَ فَرَأَى بَعْضُ الْقَوْمِ أَنْ لَوْ قَالُوا لَهُ وَاحِدَةً لَقَالَ وَاحِدَةً”[5]

د: محمد ابراهمي

عضو المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح

 

***

[1] : تنسيقية المناصفة، مارية شرف، أسماء الوديع وآخرون، مذكرة من أجل المساواة في الإرث ص: 14.

[2] : المرجع نفسه، ص: 14/15.

[3]  الحديث رواه الطبراني في المعجم الكبير، وكذلك البيهقي في السنن الكبرى.

[4] : صحيح ابن حبان، ج:2/ ، ص:192.

[5] : مسند الإمام أحمد، ج:22/ ص: 150.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى