مفهوم “العالم” – محمد مجيد

مدخل:

يحظى العلماء في المجتمعات الإسلامية بمكانة بارزة بصفتهم “ورثة الأنبياء”، وبارتباطهم اليومي بالمجتمع في إطار التوعية الدينية والفكرية على غرار الأدوار التي تلزمهم بها الشريعة. وفي تاريخ المغارب، حظيت هذه الفئة ومنذ عصر المرابطين بدور بارز في التوجيه والتأطير الديني والسياسي، فمشروعية أي سلطان وبيعته تبقى قائمة على “أهل الحل والعقد”، مستندين على الحديث النبوي “من مات وليست في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية”.

لذلك لم يكن بمقدور السلطة الحاكمة الاستغناء عن هذه الفئة المستنيرة في مجالات الحكم إما كهيئة استشارية، أو في الإدارة والتسيير لضمان ولاء الأمة للحاكم.

وقد حدد ابن القيم الجوزية المكانة والرسالة المنوطة بالعلماء بقوله: “فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب” .

على ضوء ما سلف، تستوقفنا عدة أسئلة من قبيل: ما هو مفهوم العالم؟، وما هي أدوار العلماء الاجتماعية ووظائفهم؟، وما هي علاقتهم بالسلطة الحاكمة؟، وكيف تعاملت هذه الفئة مع مستجدات القرن التاسع عشر وما واكبه من تدخل أجنبي في البلدان المغاربية؟.

1- تحديد لفظ “العالم”:

جاء في لسان العرب: “العلم في المستوى الإنساني، يعني نقيض الجهل أي عَلِمَ عِلْماً وعَلِمَ هو نفسه، ورجل عَالِمٌ وعَلِيم من قوم علماء.. وعلمتُ الشّيء أعْلَمُهُ عِلْماً، عرفته. قال ابن بَرِّي: وتَقول عَلِمَ وفَقِهَ أي سَاد العلماء والفقهاء” .

وفي الموسوعة العربية: “العلم في اللغة العربية نقيض الجهل، وعلمت الشيء علما أي عرفته، ويَأْتِي العلم بمعنى الفقه، فالعلم بالشّيء هو الفقه فيه، واليقين هو العلم فكل يقين علم، ولكن ليس كل علم يَقِيناً” . بذلك أمكننا النظر إلى معنى العلم من زاويتين: من المنظور الديني بوصفه متصل باليقين، ومن منظور العلم بوصفه نشاط إنساني .

كما عرفه “اليوسي” بقوله: “إعلم أن لفظَ العَالِم مشتق من العلم، فالعالم هو المتصف بالعلم، إذ من له العلم يجب أن يكون عالما بحكم الاشتقاق، كما أن كل من كان عالما فله علم، بحكم التلازم، ولذا كان العالم من أسماء الله تعالى، فإن الله تعالى له العلم التام العام المحيط بجميع الجزئيات والمستحيلات، وهو تعالى العالم حقيقة. ويكون العالم أيضا وصفا للعبد بما رزق من العلم، وإن لم يكن محيطا، وقد أثبت الله تعالى لعباده العلم” . فبالتلازم والاشتقاق كان العالم هو الإسم الذي يطلق على المطلعين على الدين والملمين بالقوانين والشرائع الموضوعة .

مما سلف نستشف، أن العلم سلطة ضد الجهل وتكريس لتفوق نخبة حاملة للمعرفة عن باقي مكونات المجتمع، فكان المراد بالعالم من له العلم بمعنى الفن أي فنون العلم بقدر الطاقة البشرية ، سواء أكانت علوما دينية أو دنيوية .

وقد ورد لفظ العلماء في كتب التراجم والمراسلات المخزنية والدراسات التاريخية دون أن نجد له دلالة واضحة ومضبوطة، إذ يرد أحيانا من باب التّشريف أو من قرأ عِلما من العلوم أو من جمع بين فنون العلم . وقد يرد مرادفا أو ملازما للفظ الفقهاء، ففي التراجم نجد: فقيه عَالم عَلاّمة ، أو كما جاء في تراجم أبي الضياف : “كان عالما فقيها” أو “معدودا من الفقهاء” أو “من أهل العلم”.

لذلك يظل التداخل بين المفهومين رغم إمكانية التمييز بينهما من حيث أن الفقيه يبقى علمه مقتصرا على علوم الفقه، بينما العالم يكون له باع  في العلوم الأخرى، بيد أنهما يشتركان في لقب “شيخ” الذي هو الصفة المميزة للفقيه بصفة عامة.

وللإشارة فلقب العالم قد يشترك فيه شيخ الزاوية أو أحد المتصوفة، وقد يكون الشريف عالما أو السلطان عالما كما هي حالة أغلب سلاطين المغرب، كما يلقب به كل من تخرج “من المدارس الإسلامية الكبرى كجامع القرويين بفاس ومدرسة ابن يوسف بمراكش” ، أو من جامعة الزيتونة بتونس، بحمله لشهادة تؤهله للدخول في الحياة الاجتماعية كعالم فقيه .

وحسب أرنولد  فلقب عالم في العادة بتونس يمنح لمن بلغ أعلى درجات القضاء أو التدريس ونادرا عدول الأشهاد، بينما يبقى مدلول الفقيه والعالم صفتان متلازمتان في المغرب، رغم أن عبارة عالم لها معنى مدقق، لذلك يفضل العروي  الحديث عن معنى فقيه بدل عالم.

ولا غرو، فقد وضع أحد الدارسين تعريفا لهذا المفهوم، لخصه في التالي: “العالم هو الفقيه المُجْتَهِد الرّبًّاني الحكيم، الذي تحقق بالعلم وصار به كالوصْف المَحْبُول عليه، وفهم من الله مراده، فصار يُرَبّي بصِغار العلم قبل كبره” . ولا يكون كذلك إلا إذا توفرت فيه ثلاثة أركان: الملكة الفقهية التي بها يكون العالم فقيها في أحكام الشريعة وأصولها وفروعها، والربانية الإيمانية التي هي مقاربة الكمال في مسلك التخلق بأخلاق القرآن وتحقيق صفتي التقوى والورع، ثم القيادة التربوية الاجتماعية التي هي الانتصاب لتربية الخلق .

رغم تعدد مدلول لفظ عالم والملقبين به، فإن العالم لا يكون عالما في المنظومة الإسلامية إلا من توفرت فيه الشروط التي أسلفنا، والتي بها يتحقق صدق العالم المقصود في الحديث النبوي: “فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم” ، ومن لم يحققها فهو عالم بالعرف الاجتماعي.

وقبل الحديث عن أدوار العلماء ووظائفهم، يمكننا أن ندرج بعض الآيات والأحاديث التي تبرز مكانة العلماء بصفتهم منتوجا فكريا إسلاميا مستنبطا من النصوص التشريعية، دون أن نقف عند مدلولاتها أو شرحها.

2- العلماء في التشريع الإسلامي:

وردت في القرآن الكريم وفي السنة النبوية، عدة إشارات تبرز وتقر مرجعية فئة العلماء في المجتمعات الإسلامية. ففي القرآن يأتي ذكر العلماء والتنويه بشأنهم في الآية إنما يخشى الله من عباده العلماء ، والرجوع إليهم وإتباعهم: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ، وطاعتهم بعد طاعة الله ورسوله: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منكم ، وأولوا الأمر هم أهل العلم والاستنباط من العلم، ويدخل الأمراء ضمنهم إذا كانوا من أهل العلم أو كانوا قائمين بما يقوله أهل العلم .

أما السنة فقد نصت بدورها على مكانة العلماء وموقعهم في المجتمع، ففي الحديث: “… وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب … وإن العلماء ورثة الأنبياء” ، أي ورثة علم الأنبياء. وفي حديث آخر: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسألوهم فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا” ، أي أن فقدان قيادة العلماء للمجتمع ودخوله تحت قيادة الجهال يعد طريقا إلى الضلال والانحطاط.

من النصوص القرآنية والحديثية التي اقتصرنا عليها، يظهر أن للعلماء مكانة بارزة في المجتمعات الإسلامية، فهم كما قال الحجوي: “أصحاب الشورى، وبيدهم التدبير وزمام كل أمر، ولا يصدر أمر قليل أو جليل إلا بوفق الشريعة وعلى مقتضى الحق الذي لا مرية فيه” .

فهل قام العلماء بالأدوار المنوطة بهم في مجتمعات المغارب، أم أن ما يخالج النفوس من رغبات وميولات جعلهم في عداد العامة.

3- أدوار العلماء ووظائفهم:

في مجتمع إسلامي تقليدي -كما هي حالة المجتمع المغاربي- كان هناك طريقان لبلوغ الوجاهة والحظوة الاجتماعية: الشرف ومزية العلم التي تخول لصاحبها شرفا دينيا بديلا عن النسب الموروث .

تبعا لذلك، كان العلماء هم الفئة المتعلمة أو نخبة المجتمع  أو أهل الرأي في البلاد، اضطلعت بالوظائف والمهام العلمية والدينية، كما احتلوا أعلى المناصب في المجتمــع.

فحظي الفقيه قبل غيره باحترام العامة .

وقد قسمت الباحثة فاطمة الحراق العلماء إلى أربعة أصناف :

             العالم العامل: وهو الذي عرف بجرأته السياسية وحريته الفكرية والمذهبية، والذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولا يخاف في الله لومة لائم.

             العالم القدوة: وهو الذي يقوم بواجبه ولو بالقلب عن طريق الدعوة إلى الله وتجنب الشبهات.

             العالم العملي: وهو الذي يمثل التعقل والاعتدال في الدين والسياسة.

             عالم البادية أو العالم مدبر جماعة المسلمين: الذي يختار البادية أو المناطق البعيدة عن المراكز الحضرية والسياسية كمجال لنشاطه.

ودون الغوص في تفاصيل تكوين العلماء ، نكتفي بالإشارة عرضا إلى أن تكوينهم بقي وفيا لنفس القواعد منذ القرون الأولى للإسلام . وقد خلص أحد الباحثين في تحليله لتكوين علماء القرويين إلى أن الثقافة التي دافعوا عنها مأخوذة من موروثات قديمة لم يحدث عليها تطور، وبقي الدين هو محور التفكير مع قناعة التعمق في الجزئيات والفروع .

وعلى منوالها دأبت الزيتونة، إذ بقي الطلبة والمدرسون يتبارون في حفظ العلوم الفقهية ، قبل أن تأتي رياح التغيير ويتم تأسيس المدرسة الحربية (سنة 1840م)، والمدرسة الصادقية (سنة 1875م)، ثم إصلاح الزيتونة، مع الإصلاحات التي قادها الوزير خير الدين، الذي دعا العلماء إلى مراعاة أحوال الوقت في تنزيل الأحكام والقيام بأمر المعروف والنهي عن المنكر .

كان العلماء بوصفهم الفئة الملتصقة بالمجتمع حاضربن في كل مكان، يقومون بالتدريس والوعظ والإرشاد، وفي القضاء والتوثيق، وعلى رأس الإدارات ذات الصبغة الدينية، وهم في أعلى الرتب الاستشارية لبيعة السلطان أو عزله، وتحت تصرف العامة للرد على استفساراتهم ونوازلهم بشتى أنواعها، علاوة على الإمامة وإمداد الزوايا والمساجد والأضرحة بما يحتاجونه من أئمة وخطباء، كما نجد ضمنهم من يعين العدول والمحتسبين، ومن تصدر للإفتاء كمنصب أحدثه محمد الشيخ السعدي تقليدا للعثمانيين . بكلمة مختصرة: العلماء تتجاذبهم السلطة والأمة .

بيد أننا نجد بعض المناصب التي انفرد بها علماء تونس عن نظرائهم المغاربة، كوجود مفتي مالكي وآخر حنفي، وقاضي لكل مذهب، إضافة إلى قاضي باردو وقاضي المحلة. ويعزى ذلك إلى تبعية الإيالة للإمبراطورية العثمانية الحنفية المذهب، والمجتمع التونسي المالكي. لذلك حاول بايات تونس التوفيق بين المذهبين، إذ كانت مجالس التدريس تقسم بالمساواة بين مدرسي المذهبين، ولكل منهما مجلسه الفقهي بالجامع الأعظم ، بيد أن الحنفية ظلوا متفوقين على المستوى الرسمي، فقد كان كبير العلماء الذي يحمل لقب شيخ الإسلام من الحنفية وسلطته سارية على الجميع باعتباره مذهب البايات إلى حدود عهد المشير أحمد باي (1837-1855م) وخلفه محمد باي (1855-1859م)، اللذين قسما المجلس الشرعي بين علماء المذهبين. وتميز علماء المذهبين عموما بروح التسامح العلمي الذي أغنى الحقل القضائي التونسي .

وللإشارة فالمؤسسة الدينية تمثل داخل كل حيز حضاري تجربة خصوصية في علاقتها مع السلطة وفي مجال رؤيتها للعالم والمجتمع، لذلك فمؤسسة العلماء تغطي الفضاء الاجتماعي الحضاري والريفي وفق منطق وأساليب فرض الهيمنة والسيطرة .  لذلك لم يكن الفقهاء بالضرورة صنفا من الناس الحضريين فقد أنجبت البوادي عددا من العلماء المشهود بعلمهم .

فقدرة العلماء على التأثير نابعة من استقلاليتهم النسبية وعدم تبعيتهم التنظيمية والمالية . فعلى المستوى التنظيمي: لم يكونوا منتظمين في إطار هيئة واضحة تحكمها أعراف وقوانين ولم يكن لهم رئيس، ولا تنظيم داخلي، ولم يعبروا عن رغبتهم في إنشاء هيئة موحدة إلا بعد وفاة الحسن الأول، أو وقت بيعة السلطان أو عند إصدار بعض الفتاوى .

أما ماليا، فقد تمتعوا باستقلالية نسبية لأن العالم رغم شغله للمناصب الدينية فإنه لا يتقاضى أجره من بيت المال بل من الأحباس التي تتكفل برواتب أصحاب الخطط الشرعية. وقد نجد من له مرتب خاص من الأوقاف والحكومة، كحالة محمد بيرم الثاني بالإيالة التونسية، الذي كان له حساب خاص بشؤونه بلغ شهريا ثلاثين ريال وسبعة أرباع ريال تونسي، كما كان له ولأفراد المجلس الشرعي جراية الطعام .

رغم وجود تشابه طفيف بين المغرب والدولة العثمانية، فهناك اختلافات واضحة بين الدولتين تتضح بالنسبة لمركزية العلماء . إذ لم يكن هناك وجود للمفتي -كما أشرنا سلفا- أو شيخ الإسلام  الذي يرأس المؤسسة الدينية، بل هناك قاضي القضاة الذي يعينه السلطان المغربي.

الملاحظ أن أدوار ووظائف العلماء متعددة بحكم موقعهم داخل النسيج الاجتماعي، وبقدر ماكانوا يقومون بمهامهم كانوا يتصرفون ويعاملون كنخبة وكنواب عن باقي الفئات الأخرى، كما يتمتعون بدرجة من الاستقلالية بسبب الدور المنوط بهم، إضافة إلى بقائهم أوفياء محافظين على النمط القديم الذي تدرس به العلوم، كما استمرت مكانتهم ضمن المثلث التقليدي -أمراء وعلماء و أمة- إلى أن وقع نسف أركان المجتمع التونسي بفعل غزو الأفكار الغربية وعلى منواله المجتمع المغربي.

4- علاقة العلماء بالسلطة:

“كان الأمراء في صدر الإسلام هم العلماء.. ثم فصل الله الأمر بحكمته البالغة وقضائه السابق فصار العلماء فريقا والأمراء فريقا آخر، وصارت الرعية صنفا وصار الجند آخر، فتعارضت الأمور ولم ينتظم حال الجمهور” .

نستشف من هذه المقولة، انفصال القرآن عن السلطان ومفارقة الأمير للفقيه، فظهر العالم باستقلالية نسبية في الرأي ونزاهة الفكر. فصارت علاقة الحاكم بالعالم نابعة من الوظائف والمناصب التي يتولاها العالم في المجتمع، فالفتوى مثلا أو الموقف الفقهي الذي يعبر عنه صاحب القلم في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو في إطار النصيحة، تعبر عن وجهة نظر قد تكون مخالفة لرأي السلطان وسياسته، وهو ما يدفع المخزن إلى التضييق أو التعنيف تجاه العالم بكونه يملك سلطة التحدث باسم الدين.

وقد لخص العلامة ابن خلدون هذه العلاقة بقوله: “اعلم أن السيف والقلم آلة لصاحب الدولة يستعين بهما على أمره” فعندما تكون الدولة في استقرار يستغني صاحبها عن أصحاب السيف ويصبح “أرباب الأقلام في هذه الحالة أوسع جاها وأعلى رتبة وأعظم نعمة وأقرب من السلطان مجلسا وأكثر إليه ترددا، وفي خلوته نجيا” .

 فهل كانت هذه هي صورة علماء المغارب عند سلطة المخزن  المغربي والتونسي؟.

في تاريخ المغرب نقف على مجموعة من الأحداث التي تجسد علاقة الصدام بين العلماء والمخزن. مثال ذلك حالة زكرياء يحي الحاحي بالسلطان السعدي زيدان بعد أن أسدى له واجب النصح، فحذره الأخير من التدخل في شؤون السياسة. ونفس الأمر قام به الحسن اليوسي مع المولى إسماعيل، بعد أن دعاه لتنفيذ أوامر العلماء. فيما انتهت علاقة الفقيه عبد السلام جسوس بنفس السلطان في قضية تمليك الحراطين بالقتل خنقا .

هذه الصور المختصرة تبرز جانب التوتر والصراع بين الطرفين، وتأرجح العالم بين النصح والتمرد، الذي في نظر السلطان تجاوز من العالم لما هو مطلوب منه، أي من إبداء الرأي والمشورة إلى أمور السياسة والحكم التي هي من اختصاص السلطان.

أما بالقطر التونسي فقد اتسمت هذه العلاقة بطابع الانسجام، حيث حرص العلماء بسليقتهم على إبقاء مسافة بينهم وبين المسؤولين السياسيين رغم التعارض الذي قد يحدث أحيانا. ورغم ذلك لم يسلم العلماء من معاقبة البايات إما بالطرد أو المعاقبة الصارمة، فبقدر ما توخى العلماء أقصى الحذر في الإعراب عن مناهضتهم للسلطة، حاول البايات قدر الإمكان تفادي فصل العلماء أو معاقبتهم .

بيد أن الصورة العامة لعلاقة العلماء بالمخزن، هو ما سطره ابن خلدون -فيما أسلفنا- بتقرب السلطة منهم لخدمة مصلحة استقرار الدولة، وضبطهم بسيطرته على النظامين القضائي والتعليمي. ففي المغرب يعين السلطان قاضي القضاة بفاس ويكلف من يقوم بأمر تسيير جامع القرويين. هذه المركزة الإدارية -يقول إدموند- كانت كافية لقيام احتجاجات من طرف العلماء، لكن وقوع ذلك لم يحدث بسبب تفرع مصالحهم الخاصة، فلم يشكلوا تهديدا مباشرا للسلطة ، كما شكلته الزوايا والقبائل لتوفرها على إطارات تنظيمية تكفل لهم وحدة الرأي والقرار. ولم تبرز معارضتهم إلا عند اشتداد الضغط الأجنبي، وإبان البيعة الحفيظية . بينما عبر علماء تونس عن رفضهم للاعتراف بأي سلطة غير سلطة الباي .

وبحكم التكليف المناط بالعالم لمعرفة الأصل من الفرع، بوصفه المرجع لسن قواعد السلوك المجتمعي وأساليب التدبير والتسيير لشؤون الدين والدنيا، يرجع إليه الأمير كما ترجع إليه العامة، ولا يجوز الإقدام على أمر دون معرفة حكم الله فيه بصفته المؤهل لذلك. أصبح العالم يشكل نوعا من السلطة التشريعية لا يمكن للحاكم تجاوزها أو إغفالها وإلا ظهر بمظهر المستبد الطاغية، فكان من واجب السلطان أن يقربه وأن  يغدق عليه العطايا والأموال وأن يعفيه من الضرائب تمييزا له عن العامة، فكلما كان العالم ذا نفوذ في وسطه الاجتماعي كلما كانت حظوته كبيرة لدى السلطان ، وتصبح مواقف العالم مبررة لأعمال السلطان أو الباي .

كما يلجأ المخزن للتقرب من العلماء وكسب ودهم، لنهج سياسة الاعتراف بمركزهم الاجتماعي وبناء المساجد والمدارس وإعطاء الهبات والأوقاف، مما يجعل السلطان أو الباي في عين العلماء خادما للدين عاملا له.

وقد يزداد نفوذهم فترات الأزمات والقلاقل التي قد تعصف بالبلاد، كما حدث في صراع علي باي (1759-1777م) على الحكم وإنفاقه الأموال الطائلة على العلم لكسب العلماء لجانبه، كما كان لهم دور في إخماد ثورة ابن غذاهم سنة 1864م . وعلى منوالهم سار علماء المغرب في مواجهة ثورة بوحمارة .

خلاصة

إن درجة الاستقلال النسبي التي حظيت بها النخبة العالمة سواء المغربية أو التونسية، هي التي جعلت العلماء في طليعة المجتمع. فلوا كانوا منقادين كل الانقياد لفقدوا نفوذهم الشعبي، ولو كانوا معارضين بشكل قاس على الحكام لكان مصيرهم مآل جسوس. بينما كانت نقطة ضعفهم عدم قدرتهم على تشكيل هيئة موحدة دائمة، وهي بالمقابل نقطة قوة المخزن، الذي يستشيرهم وإذا لم يرضى بفتوى بعضهم لجأ لفتوى مضادة من هيئة أقل تصلبا.

كما أن الآراء الفقهية والفتاوى الشرعية هي التي حددت طبيعة العلاقة بين السلاطين والعلماء، إما بصورة صراع ومعارضة تلزمها العقوبة، أو صورة توافق الرأي وخدمة المصلحة واستشارة يتحدد فيها الرأي بالقبول أو الرفض دون ردة فعل قاسية.

إذا كانت هذه هي صورة السلطة في علاقتها بالعلماء، فكيف تعاملت هذه الفئة مع مستجدات القرن التاسع عشر؟، وما هو موقفها من التدخل الأجنبي؟. وقبل ذلك، يحسن بنا إعطاء نظرة عامة عن التدخل الأجنبي بالمغاربة.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى