ماذا فعلت الأمة بعد نصف قرن على جريمة إحراق المسجد الأقصى المبارك – تيسير رجب التميمي

أيام قليلة فصلتنا عن ذكرى جريمة إحراق المسجد الأقصى المبارك ، ففي صبيحة يوم الخميس السابع من جمادى الثانية عام 1389 للهجرة النبوية ، الموافق 21/8/1969م استيقظ العرب والمسلمون على نكبة جديدة وفعلة شنيعة ارتكبها صهيوني إرهابي ، فقد امتدت يده الغادرة إلى مسرى نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم وقبلتهم الأولى فأضرم فيها نيران حقده وكراهيته وعنصريته المتراكمة في قلبه الأسود بعد فشل محاولته قبل عام بتاريخ 21/8/1968م ، ولكن بفضل الله سبحانه وتعالى وبسبب يقظة وانتباه حراس المسجد الأقصى المبارك يومها باءت محاولته الحاقدة بالفشل ، وتظاهرت حينها سلطات الاحتلال بإلقاء القبض عليه لبعض الوقت لكنها سرعان ما أطلقت سراحه ليعاود المحاولة من جديد.

وكعادتها سارعت سلطات الاحتلال إلى التنصل من أية مسؤولية عن هذه الجريمة النكراء ؛ فنسبت مرتكبها مايكل دينيس روهان إلى الجنون لتغطي على الحرائق الفعلية المبرمجة التي ترتكبها أذرعها الأمنية في كل مكان من فلسطين.

وحقيقة الأمر أن فعلته النكراء هذه حظيت بدعمها الكامل بدليل إعاقتها عمليات الإطفاء وقطع المياه عن المنطقة وتباطؤها في محاولات الإنقاذ ، وحظي هو شخصياً بالحماية القانونية فقد ادَّعى محرِّضوه إصابته بالعَتَه واختلال قواه العقلية ، فنجا من المساءلة والمحاكمة والعقوبة العادلة ، إنها من صور الظلم المحرمة التي تمعن سلطات الاحتلال الباغية في ارتكابها ، قال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } البقرة 114 . إذن لم تكن الجريمة حدثاً عابراً ولا فعلَ معتوهٍ ؛ بل مؤامرة مدبرة حِيكتْ خيوطها بإحكام وخطة رسمها بخبث دهاقين لِئام.

وما أن سمع أبناء شعبنا بالكارثة حتى هبوا من كل المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية رجالاً ونساء شيوخاً وأطفالاً لنجدة مسجدهم والدفاع عنه ، هذا على الرغم من العراقيل التي وضعتها سلطات الاحتلال في طريقهم ، وانطلقت سيارات الإطفاء من مدن نابلس وبيت لحم والخليل وغيرها ، وهرع أهل البلدة القديمة في القدس إليه سراعاً يحملون الماء بأيديهم يخمدون به ألسنة اللهب التي سرت فيه.

وفي اليوم التالي للحريق أدى آلاف المسلمين صلاة الجمعة في الساحة الخارجية للمسجد الأقصى المبارك وعمت المظاهرات الغاضبة مدينة القدس وسائر المدن الفلسطينية المحتلة بعد ذلك.

أوقع الحريق بالمسجد الأقصى المبارك أضراراً مادية فادحة ، ولكن الأهم هو الضرر الذي لحق بهمة الأمة ، فما هي ردة فعلها ؟ كانت جولدامئير رئيسة حكومة الاحتلال يومذاك تظن أن الأمة الإسلامية ستبتلع كيانها ، أو أن الأرض ستتزلزل من تحت أقدامها ، حتى لقد عدَّت يوم الحريق أسوأ يوم في حياتها . لكن طلع النهار وأشرقت الشمس، ولم يحدث شيء من تخوفاتها وظنونها ، فعادت وأكَّدت أن اليوم التالي للحريق كان أسعد أيام حياتها . فقد جاءت ردود الفعل العربية والإسلامية باهتة ضعيفة ومخيبة للآمال. صحيح أنها فجرت ثورة عارمة في أرجاء العالم الإسلامي ، فغضبت جماهير أبنائه وثارت لهذه الجريمة البشعة ، لما فيها من انتهاك لحرمة مقدساتها ومساس بأماكن عبادتها واعتداء على كرامتها وعقيدتها ، لكن كان لزاماً عليها الرد على هذا التحدي السافر لمشاعرها ودينها بطريقة أخرى.

وأما القادة العرب فكالعادة شجبوا هذه الفعلة واشتكوا إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ثم إنهم تداعَوْا خلال شهر من الكارثة إلى مؤتمر قمة لهم في المغرب ، قرروا فيه تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي ، التي تضمَّن ميثاقها العهد على السعي بكل الوسائل لتحرير القدس الشريف من الاحتلال .

ثم أنشئت لجنة القدس في عام 1975 م بهدف متابعة تنفيذ القرارات التي تتخذها منظمة المؤتمر الإسلامي والهيئات الدولية الأخرى التي تؤيدها أو تتمشى معها ، والاتصال مع أية هيئات أخرى ، واقتراح المناسب على الدول الأعضاء لتنفيذ المقررات وتحقيق الأهداف ، واتخاذ ما تراه من إجراءات . ويهدف إنشاء لجنة القدس أيضاً إلى تنفيذ جميع قرارات المنظمة المتعلقة بمواضيع الصراع العربي الإسرائيلي نظرا للترابط الجذري بينه وبين قضية القدس وفلسطين.

ثم توالى عقد المؤتمرات العربية والإسلامية من أجل القدس ومن أجل المسجد الأقصى المبارك ومن أجل فلسطين لكن دون أن يصدر عنها قرارات عملية لتحريره وإنقاذه من الأسر ، فتجرأ المحتلون على مواصلة انتهاكاتهم المتوالية ضد المسجد الأقصى المبارك وضد مدينة القدس إلى يومنا هذا ، ثم توالت في السنوات الأخيرة مؤتمرات نصرة القدس ، لكن نتائجها لم تختلف عن نتائج سابقاتها من المؤتمرات ، أموال تُهْدَرُ وحناجر تَهْدِرُ وشخصيات تروح وتجيء ، وبيانات لا تساوي الحبر الذي كتبت به.

أما على المستوى العالمي فكان من المنتظر أن تحدث هذه الجريمة الحاقدة دوياً في العالم أجمع، وأن يكون لمنظماته موقف واضح يسهم في الحفاظ على المسجد الأقصى المبارك وحمايته من أي مساس بحرمته أو عدوان على بنيانه ؛ ليس فقط لكونه دار عبادة تمنع القوانين والتشريعات الدولية التدخل في شؤونه أو انتهاك قدسيته أو ازدواجية العبادة فيه ؛ بل بوصفه أيضاً صرحاً معمارياً وأثراً حضارياً وجزءاً من التراث الإنساني . وبالفعل فقد أدان العالم هذا العدوان واستنكره وامتعض منه ، ولكنه لم يطبق أياً من القرارات الدولية التي أصدرها على استحياء ، ولم يأبه يوماً لعدم التزام المحتل بها أو لرفضه تنفيذها.

وهذا نهجه من قبلُ ومن بعدُ في قضايا الأمة الإسلامية والعربية ، ولسنا مجحفين في تقرير هذه الحقيقة السلبية الواضحة للعيان ، فقد رأينا ورأى الجميع على سبيل المثال لا الحصر موقف المجتمع الدولي من تحطيم تماثيل بوذا في أفغانستان ، وهل من مقارنة بين الموقفين؟

إنها ذكرى أليمة في تاريخ الأمة المثخنة بالجراح تحل بها كل عام ، وهي وصمة عار لا ينفع فيها العويل والتباكي على الحرائق ، ولا تغسلها سوى جحافل التحرير المتجهة لبيت المقدس وللمسجد الأقصى المبارك ، وبعد مضي أكثر من خمسة عقود عليها إلا أن أبناء الأمة لم يقوموا بعد بدورهم المنتظر في إنقاذ المسجد الأقصى المبارك وتحريره ، فالنيران التي اشتعلت فيه ما زالت تشتعل وتشتعل من يومها حتى الآن ولم تنطفئ ، فطالت كل ما هو فلسطيني وشملت البشر والشجر والحجر وكل المقدسات ، وما زال المسجد أسيراً في قبضتها تتحكم فيه وتُحْكِمُ الهيمنة عليه بهدف تغيير هويته بل بهدف هدمه من القواعد لإقامة الهيكل المزعوم في مكانه ، ترى الأمة ذلك وتصمت وكأن المسجد ليس جزءاً من عقيدتها ولا رمز شرفها وعزتها وكرامتها كما كان على مر التاريخ.

إن حالة اللامبالاة التي تسيطر على الأمة تجاه ما يجري في المسجد الأقصى المبارك جرّأت سلطات الاحتلال على مواصلة نهجها العدواني ضده غير مبالية بأحد.

فها هي على الدوام ترتكب جرائم حرب ضد الإنسانية تستوجب الملاحقة في محكمة الجنايات الدولية، جرائم يواجهها المجتمع الدولي بمنظماته ومؤسساته وأجهزته بصمت مطبق وتجاهل مريب ، هذا المجتمع الذي ينادي بحقوق الإنسان ويرفع شعارات مكافحة التمييز العنصري ، والذي يزعم السعي إلى محاربة العنف والإرهاب وترسيخ قيم السلام والعدالة والحرية ، هذا المجتمع الذي لا تغفل عيناه عن كثير من الدول يراقب التزامها بمواثيقه وتشريعاته ، وبهذه الذريعة يتدخل في شؤونها الداخلية بحجة الإشراف على تمتع مواطنيها بحقوقهم المشروعة ، لكنه مجتمع أبكم لا يتكلم إذا كان المساس بتلك المسميات ضد الفلسطينيين أو العرب والمسلمين ، وأنَّى له أن يتكلم وهو لا يسمع ولا يرى! وكأن فلسطين المحتلة خارج التغطية! وكأن المستوطنين وجنود الاحتلال أثناء ممارستهم شتى ألوان الجرائم والانتهاكات يتخفون بقُبَّعَةٍ سحرية تحجبهم عن أعين المراقبين!

هذا سلوك العالم تجاهنا وتجاه قضيتنا وحقوقنا ، أما سلطات الاحتلال الإسرائيلية التي لا تتوقف عن انتهاك حرمة المقدسات والمساس بالمواثيق فهذا ديدنهم عبر تاريخهم الحافل بالجرائم ، كيف وقد نكلوا بأنبياء الله سبحانه قتلاً وحرقاً وذبحاً ! قال تعالى يصف تطاولهم حتى على رموزهم ومقدساتهم {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا * وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا * فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} النساء 153-157.

حلت هذه الذكرى على الفلسطينيين وما زالت حالة الانقسام المدمرة حاضرة، فإلى متى سيبقى فينا هذا الحال الذي لا يسر الصديق ولا يكيد العِدا؟ إن شعبنا الصابر المرابط المقدام الذي ستكون فيه بإذن الله الطائفة المنصورة التي بشرنا بها رسولنا صلى الله عليه وسلم، والذي أكرمه الله بأن يكون رأس الحربة في الدفاع عن فلسطين ومقدساتها وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارك يستحق من الجميع السعي الصادق في طريق الوحدة ، فالوحدة سلاحه القوي الفعّال في الوصول إلى أهدافه وتحقيق آماله المشروعة في دحر الاحتلال ونيل الحرية والاستقلال، وفي إقامة دولته المستقلة كاملة السيادة على كل ذرة من تراب وطنه.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى