سؤال الثقافة المغربية بين الخصائص والتحديات – الحبيب عكي

لقد كثرت تعاريف الثقافة، ولعل أشملها ذلك التعريف الأنتربولوجي الذي يقول بأن الثقافة هي ذلك الكل المعقد الذي يشمل كل معارف الإنسان وعقائده وقيمه وعاداته وتقاليده في كل مناحي الحياة الفردية والجماعية في معزل وبتفاعل مع الحضارة باعتبارها الجانب المادي للثقافة.

ويقال أن الثقافة أيضا هي كل ما يغرس في الإنسان بعد ولادته وما يكتسبه خلال حياته،وهو الذي ولد ولا يعرف شيئا مما يحكم معارفه وميولاته وتصرفاته ولكنه يتربى عليها ويتشربها بحكم الثقافة، كما يقال أن الثقافة هي ما يتذكره الإنسان دون عناء ويتصرف به بسجية وعفوية في مواقف ووضعيات الحياة بعد نسيانه كل شيء لأن ذلك يكون عمق وهوية شخصيته أو معتقده وعادته وثقافته.

هذا وتتجلى أهمية الثقافة في كونها تصنع الإنسان وتنمي قدراته وتوجه ميوله وتصرفاته في حياته وفي مختلف جوانبها الفكرية والجمالية والروحية معرفتها وتذوقها والتعايش بها، فوظيفتها بمثابة وظيفة التهذيب والتشذيب للشجرة والرعاية والعناية بها حتى تحيى وتنمو وتزهر وتثمر في أحسن الظروف، ويمكن أن ترقى الثقافة بالإنسان كما في الدول الراقية حيث القيم والأنظمة الراقية، أو تتقهقر به كما في الدول المتخلفة حيث القيم والأنظمة المتخلفة، إلى درجة تجد فيها شعوب هذه الدول تتصرف على طرفي نقيض اتجاه نفس العادات والمعتقدات والمواقف والقضايا.

ومعلوم أن في الثقافة ما هو فطري عام بين جميع الشعوب والقبائل كفطرة الأكل والشرب واللباس والتعبد والزواج وإن اختلفت طرائقها ومقاصدها، وفيها ما هو خاص تفرضه عناصر وظروف معينة حسب الزمان والمكان. وفي حالة المغرب كما يقول الدكتور “عباس الجراري” في محاضرة قيمة له في الموضوع ما معناه:”أن الثقافة المغربية عبر التاريخ قد حددتها ثلاثة عناصر أولها عنصر الموقع بين أفريقيا و أوروبا..ما جعله جسر التواصل والإشعاع بينهما وصاحب رسالة حضارية، ثانيها عنصر السكان وتعددهم الإتني والعرقي واللساني وما نتج عنه من تعدد العادات وثراء العطاء جعل مشاعا للجميع(حفل إبراز العروس مثلا)، وثالثها عنصر الزمان باعتباره عامل التطور والتغيير والبناء والتراكم كما بين العهود السلطانية من تطور وتراكم، رغم ما ميز ذلك من توازن عام بين الأصالة والخصوصية وبين الانفتاح والمعاصرة”، ويضيف الدكتور أن الثقافة المغربية لها خصوصيات وأبعاد أورد منها:

1 – البعد الديني والمعتقدي الإسلامي: وهو روحها الذي تنطلق منه وإليه وله تخدم وهو عنصر حاكم وناظم.

2 – البعد اللغوي: ويتمثل في اللغة العربية، لغة القرآن الكريم،بكل حمولاتها العقائدية ودلالاتها وثرائها الفريد.

3 – بعد التراث الوطني: وكل اجتهادات وإبداعات المواطن المغربي الثرية والحضارية داخل الزمـان والمكان،

4 – بعد الألوان والأشكال: التي شملت كل شيء في العلوم والآداب والعقيدة والفقه، وفي القصة والشعر والزجل، والغناء والرقص، والطبخ واللباس، والعمارة والزخرفة..، ولم تترك الثقافة المغربية للمغربي شيئا أي شيء يستجدي فيه غيره فبالأحرى أن يعيش فيه عالة على غيره.

5 – بعد الكتابي والشفوي: خاصة فيما يتعلق بالثقافة الشعبية وما تزخر به من تعدد وغنى في العادات والتقاليد والطقوس في مختلف الأفراح والمآتم ومناسبات التعاون والتآزر بين الناس، فكان الفلكلور وكان الملحون والشعبي وكانت مختلف الأهازيج والرقصات الشعبية الأمازيغية وغيرها.

6 – بعد الوسائط والأعلام: كوسائط المسجد والدعوة والخطابة، ووسائط النظم والتأليف والحفظ والإقراء، وأعلام كالحسن الوزان الذي عرف الغرب بالخزانة العربية، والشيخ عبد الله كنون صاحب النبوغ المغربي، ومحمد المنوني المؤرخ الذي عرف بالمغرب الحضاري، ومحمد المختار السوسي سجين الصحراء وصاحب المعسول، وعلال الفاسي صاحب النقد الذاتي، وعبد الرحمان بن زيدان المسرحي الذي عرف بمعالم وتاريخ أهل مكناس وعاداتها وفنونها…هذا على سبيل المثال لا الحصر.

هذا وقد ميزت الثقافة المغربية معطيات وخصوصيات أطرتها على الدوام نذكر منها: معطى الوحدة في التعدد، ومعطى الأصالة في الانفتاح، ومعطى الحفاظ على الذات رغم الوافد الآخر وحملاته الاستتباعية، مما جعل للثقافة المغربية في الحقيقة وظائف أجملها الدكتور المحاضر في ما يلي:

1 – وظيفة الحفاظ على هوية المواطن المغربي.

2 – وظيفة خدمة القضايا الوطنية كالتحرر مثلا.

3 – وظيفة المنافسة في المجالات الثقافية وإبداعاتها.

4 – وظيفة مواجهة التحديات كمواجهة الاستعمار مثلا.

5 – وظيفة الوحدة والتضامن مع القضايا الوطنية (كالفيضانات) والقضايا القومية(كفلسطين).

واليوم وقد أصبحت ثقافتنا المغربية بإجماع المتتبعين والدارسين والمهتمين المنصفين، قد اختلط فيها الحابل بالنابل، وتجاوزتها مشاكل الواقع وانحرافاته وتحدياته المستعصية والمستفحلة، ذلك أنها تواجه تحديات جمة إن على المستوى الداخلي أو على مستوى محيطها الخارجي، نذكر من ذلك:

1 – تحدي التغريب والعولمة: التي لا تبالي بإسقاط الهويات وتجاوز الخصوصيات، وإعطاء الأولويات للمواثيق الدولية والنمطية الكونية الأحادية،خاصة فيما يناقض المرجعية ويخالفها، ويمحو خصوصية الزمان والمكان والتراكم التاريخي.

2 –  تحدي الفرنكفونية المفروضة: التي لا زالت تحكم مخالبها على الثقافة المغربية وحياة المغاربة بشكل واسع ومؤثر، في السياسة والاقتصاد، وفي التعليم والثقافة العالمة، مع التناقض الصارخ للثقافتين فيما يتعلق بالمفاهيم والقيم، يظهر ذلك كما يقول الدكتور “محمد بريشي” في البرامج والمراحل التعليمية بين برنامج  عربي يمجد الصلاة وبرنامج فرنسي يسخر منها (La prière de tartuffe).

3 –  تحدي التدريج والتهريج والأعلام المهزوزة: بل والمنسلخة عن الخط الثقافي للمغاربة ،ولكن هم من يطبل لهم إعلاميا ويمكن لهم تمثيليا في برامج ومهرجانات، ويغدق عليهم في ملتقيات ومشاريع وهمية هي أقرب للريع منها إلى الثقافة، وهي التي لا تلبث “عيايشها” من السخرية من كل ما هو ديني ومحاربة رموزه طقوسا كانت أو فقهاء.

4 – تحدي مؤسسات التسيير والتدبير: التي عجزت إلى اليوم حتى عن وضع رؤية ثقافية مغربية جامعة مانعة، وعجزت عن تعميم دور الثقافة عبر التراب الوطني وتقريب خدماتها من المواطن(75 مركز فقط)، واكتفت بديل ذلك ببعض البرامج الثقافية – على أهميتها – كدعم الكتاب ولكن أي كتاب، وبعض المهرجانات وأية مهرجانات، وبعض الجولات المسرحية وأية جولات، وترميم بعض القصبات والتراث المعماري.

5 – تحدي الإبداعية والتنافسية: إذ على عكس “النبوغ المغربي” أيام زمان، فإن أكثر ما يروج له اليوم بما في ذلك كثير مما يفوز منه بالألقاب والسعفات المشبوهة، هو تعريف ثقافتنا بالفلكلور باعتباره بعض الشطحات الموروثة والرقصات المحنطة والبسيطة والجاهزة، أو بعض المهرجانات الدولية التي يزداد رفض “سخافتها” وقلب “موازينها” بشكل واسع، لا يبذل معها وفيها العارضون أي جهد ولا ينالون عنها غير بعض الفرجة المشوهة والتصفيق الساخر، كما هناك تعريف بالتبعية الثقافية رؤية ومجالات ووظائف وتقنيات، ولا ندري كما يقول أحدهم هل تريد ثقافتنا ومثقفيها أن يلعبوا مع الآخر(هواية) أو ضده (احتراف ومهنية) أو له وبدلا عنه (نخاسة وعمالة)، وشتان شتان بين ممارسة الرياضة لتجزيه الوقت وبين ممارستها لتخريج الأبطال والأبطال العالميين، فأين معاهدنا وبرامجنا لتخريج مثل هؤلاء المثقفين المبدعين والمنافسين الأبطال.

6 – تحدي الجدل بين الثقافي والسياسي: ومن ينبغي أن يقود من، ومن ينبغي أن يؤسس لمن، ومن يمن على من، ومن  يعترف بمن، ومن يرخص لنشاط من، أو يثمن مردودية من، ومن يستثمر حصاد من، ومن يسمح بريع من، ولا يكون هذا الجدل العقيم في الأول وفي الأخير، إلا على حساب الثقافة والسياسة معا، ولهذا لا نستغرب أن كثيرا من البرامج السياسية الآن والتي كانت منفردة في سيرها، فلا أرضا قطعت ولا ظهرا أبقت، بل لم تزد معضلاتها إلا استفحالا، أخذت الآن تنادي بضرورة العودة إلى الاستثمار في التراث اللامادي للشعوب، كاهتمام برامج التنمية البشرية اليوم بالاستثمار في مشاريع الطفولة المبكرة، بما تعنيه الاستثمار المبكر في التربية والتعليم واللعب والترفيه والفنون والآداب والاندماج، وكلها اهتمامات ثقافية بالدرجة الأولى، نعود إليها بعد هدر عقد ونصف من الزمن التنموي بشكل ما، ولكن لا بأس فهذا توجه كوني، وأن تكون على الطريق خير من أن تفقده، وأن تصل متأخر خير من ألا تصل على الإطلاق.

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى