دة معاريج تكتب: الهجرة في القرآن الكريم انطلاقا من قوله تعالى {والرجز فاهجر}

امعنى الهجرة:

الهجرة لغة: هي الترك والأعراض: “يقال هجرت الشيء هجرا إذا تركته وأغفلته”(لسان العرب مادة هجر 9/ 32)، ومدار الكلمة في القرآن الكريم على الترك والأعراض أيضا، قال تعالى: {واهجرهم هجرا جميلا}(المزمل9) “أي اتركهم ولا تتعرض لهم”(صفوة التفاسير محمد علي الصابوني 3/ 1595، ط 1).، وقال عز من قائل: {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا}(النحل41) “أي تركوا الأوطان والأهل والقرابة”(الصفوة 2/701). وقال {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا}(الفرقان30)، “أي أعرضوا عن استماعه”(الصفوة 2/927).

الهجرة والإيمان: أي علاقة؟

 والهجرة في بعدها الإيماني التصديقي، هي محطة للتميز بين الإيمان والكفر وهو ما بينه تعالى بقوله: {ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله}(النساء89)، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن الهجرة من أعلى درجات الأيمان إذ قال: “أسلم تسلم، قيل له وما الإسلام؟ قال أن تسلم قلبك لله وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك، فقيل له فأي الإسلام أفضل؟ قال “الإيمان”، قيل له وما الإيمان قال: “أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، قيل له فأي الأيمان أفضل؟ قال الهجرة، قيل وما الهجرة؟ قال أن تهجر السوء.”(أخرجه الأمام عبد الرازق في مصنفه) أي السوء في التصديق والسوء في التطبيق.

هذا بالنسبة للجانب العقدي التصديقي أما بالنسبة للجانب العملي التطبيقي فالهجرة هي إظهار للدين وتمكين له، ونشر لمبادئه وتعاليمه، وهذا ما عبر عنه الصحابي الجليل ربعي ابن عامر رضي الله عنه وهو يوضح مقاصد هجرة المسلمين إلى الحبشة حيث قال: “جئنا لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده – أي هجر الشرك بجميع صوره وأنواعه – ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة.”

فعندما يحول المكان والزمان دون التمكين للتعاليم الدينية وتنزيلها على أرض الواقع تصبح الهجرة مخرجا وحلا لهذا الخلل.

والهجرة بأبعادها السابقة التصديقي الإيماني والعملي السلوكي، هي اختيار الأنبياء المصطفين الأخيار قال تعالى على لسان الخليل عليه السلام: {وقال إني مهاجر إلى ربي}(العنكبوت25)، أي أني تارك “وطني ومهاجر من بلدي رغبة في رضى الله… وابتغاء إظهار الدين والتمكين من نشره.”(الصفوة 2/1020). ولما كانت الهجرة هي سلوك المصطفين الأخيار، كان الترغيب فيها لأمور نذكر منها:

أ- نيل شرف الإقتداء بهدي هؤلاء الأنبياء، فمن هاجر هجرة إبراهيم كان على هديه وسنته.

ب- اتقاء توبيخ الملائكة بالتخلف بدار الشرك والاجتماع مع الكفار، وترك الهجرة إلى دار الأيمان، قال تعالى {قالوا ألم تكن ارض الله واسعة فتهاجروا فيها}(النساء96)، فمن تخلف عن الهجرة لأعذار واهية كان عرضة لهذا التوبيخ.

ج – النيل من الفضل الذي أعده الله للمهاجرين، قال تعالى: {ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الارض مرا غما كثيرا وسعة}(النساء99).

وقد كان من شروط الاقتران بالنبي الكريم بالنسبة لذوي قرابته، أن تكون مهاجرة معه في سبيل الله، قال تعالى: {وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك}(الأحزاب50).

ومن متمات الهجرة المباركة النافعة ما كان خالصا لوجه الله تعالى: {من يهاجر في سبيل الله يجد في الأ رض مرا غما كثيرا وسعة}(النساء99)، وقال أيضا: {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله…}(الأنفال73).

وتبقى الغاية من الهجرة بحسب ما سبق أمور منها:

أ – ابتغاء مرضاة الله ورضوانه: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا}(الحشر8).

ب – إعلاء كلمة الله ونصرة دينه: {وينصرون الله ورسوله}(الحشر8).

الهجرة باعتبار المتروك :

والهجرة باعتبار المتروك والمهجور على قسمين:

 أ – ترك الأوطان وهجرها و”الخروج من أرض إلى أرض”(اللسان 9/32)، وصعوبة هذا النوع من الهجرة ما تقتضيه من التضحية بالنفس والمال والجهاد في سبيل الله، وفي مقابل ذلك فإن جزاء هذه الهجرة، هو الجنة التي وعد الله بها المؤمنين في قوله: {إن الله اشترى من المومنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة}(التوبة112)، وهذا الصنف من الهجرة هو سلوك الخاصة من الأنبياء ومن اقتدى بهم، ولمشقته على النفس يتعذر تحققه في كل زمان.

ب – ترك القبيح من الفعل والقول، الذي بمعنى هجر السوء أو الرجز كما عبر عنه القرآن الكريم: {والرجز فاهجر }(المدثر5) ومن ضوابط هذا القسم من الهجرة:

 1 – أنها لا تتوقف ولا تنقطع، وأنها ماضية إلى يوم القيامة قال صلى الله عليه وسلم: “لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة”(أخرجه أبو داود، والدارمي، وأحمد، وأبو يعلى، والبيهقي).

2 – أنها عامة وملزمة لعامة الناس بدليل قوله تعالى: {والرجز فاهجر}، والرجز كما فسره العلماء “هو القبيح المستقذر”(قاله الرازي 15/ 194).

فالهجرة بهذا المعنى، هي إقلاع وتوبة من الذنب، إذاً فهي ملزمة لكل فرد.

جزاء الهجرة:

وإذا كانت الهجرة تكليفا شاقا، وأمرا إلهيا صعب الامتثال، فما جزاء من امتثل لهذا الأمر وأتى بهذا التكليف؟

من المعلوم أن الجزاء يكون من جنس العمل، لهذا جعل سبحانه وتعالى جزاء هذا التكليف الشاق صورا وأنواعا من الفوز والفلاح التي تهنأ به النفوس المؤمنة، ومن أصناف هذا الجزاء:

أ – نيل رضا الله سبحانه وتعالى قال سبحانه: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه}(التوبة101).

ب- المغفرة والرحمة والتجاوز، قال تعالى: {ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم}(النحل110)، وقال أيضا: {إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم}(البقرة216).

ج – النعيم الخالد الذي لا ينقطع أبدا قال تعالى: {والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا}(الحج56)، وقال: {وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك هو الفوز العظيم}(التوبة101).

هجر المرأة المسلمة وعلاقتها بالهجرة السابقة:

ولما كانت الهجرة حكما عاما يشمل المرأة والرجل، فما هي طبيعة الهجرة التي كلفت المرأة المسلمة بتحقيقها؟

إن هجر القبيح بالنسبة للمرأة المسلمة هو من جنس الهجرة السابقة، فهي ترك وإعراض وهجر للرجز أي “العمل الذي يؤدي إلى العذاب”، و”وساوس الشيطان”(اللسان مادة رجز 4/75).

وهذا ما فصلت في بيانه بنود معاهدة هجر الرجز التي وقعتها المرأة المسلمة مع النبي الكريم، لأن المرأة التي جاءت مبايعة للنبي الكريم، إنما جاءت مهاجرة للرجز وهذا ما أجمله القرآن الكريم في قوله تعالى: {يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولايأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم}(الممتحنة12).

ستة بنود تلك صادقت عليها المرأة المسلمة، فتحقق لها بذلك هجر الرجز ونالت به شرف الإيمان والدخول إلى الإسلام، وبنود هذه المعاهدة يمكن تفصيلها فيما يلي:

أ – هجر الشرك {ألا يشركن} وهو عام في ترك عبادة كل الأصنام، والإعراض عن ذلك وإخلاص العبادة له سبحانه وتعالى، وقد فسر الرجز بالشرك.

ب – هجر السرقة {ألا يسرقن} وهو “يتضمن النهي عن الخيانة في الأموال والنقصان من العبادة، فإنه يقال أسرق من السارق من سرق في صلاته.”(التفسير الكبير 15/309).

فالمرأة المبايعة للنبي، قد هجرت الخيانة المادية لأعمال الظاهر، والمعنوية لأعمال الباطن.

ج – هجر الزنا {لا يزنين} أي ترك الزنا التي هي أفحش الفواحش، وهو جامع لحقيقة “الزنا ودواعيه”(التفسير الكبير 15/309)، على ما قاله صلى الله عليه وسلم: “اليدان تزنيان والعينان تزنيان والرجلان والفرج يصدق ذلك أو يكذبه”(أخرجه أبو يعلى الموصلي في المسند).

د – هجر القتل وحفظ النفس التي أمر الله بحفظها {ولا يقتلن أولادهن} قال ابن كثير: “وهذا يشمل قتله بعد وجوده، كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهن خشية الإملاق أو العار، ويعم قتله وهو جنين كما يفعله بعض الجهلة من النساء(تفسير القرآن العظيم ابن كثير 4/354)، وقال الرازي: “وهو عام في كل نوع من قتل الولد وغيره”(التفسير الكبير 15/309).

ﻫ – هجر البهتان {ولا يأتين ببهتان } والبهتان هو الباطل الذي يتحير من بطلانه، كالنميمة وغيرها من الأعمال القبيحة، وفيه نهي عن كل فعل قبيح باطل مفترى، قال الفراء: “كانت المرأة تلتقط المولود، فتقول لزوجها هذا ولدي منك، فذلك البهتان المفترى” (التفسير الكبير 15/309)..

و– هجر المعصية {ولا يعصينك في معروف} “أي كل أمر وافق طاعة الله”(الرازي 15/309). مما أمرهن به ونهاهن عنه، ذلك لأن المعروف اسم جامع لكل عمل صالح يعود بالخير والنماء على الفرد والمجتمع، كما أن المنكر هو كل عمل قبيح يلحق الضرر بالمسلم أو بمجتمعه، وقد تعهدت المرأة المسلمة هجر كل ذلك جنبا إلى جنب مع أخيها الرجل، {والمومنون والمومنات بعضهم أولياء بعض يامرون بالمعروف وينهون عن المنكر}(التوبة72).

فالمرأة التي بايعت على هذه البنود ووقعت على هذه المعاهدة، تكون مهاجرة للرجز محققة لرضا الله وطاعته، لأن: “المسلم من هاجر ما نهى الله عنه” كما قال صلى الله عليه وسلم.

الأستاذة نزيهة أمعاريج

كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى