د. التمسماني يكتب: من أهم دروس الهجرة النبوية المباركة، درس التخطيط المحكم لكل شؤون الحياة

كلما سقطت ورقة العام من شجرة الزمان، وهل هلال المحرم، تذكر المسلمون في مختلف البقاع والأصقاع ذكرى عزيزة على النفوس، تهفو إليها الأفئدة، وتشتاق إليها القلوب، تطل على العالم الإسلامي بأنوارها وبهائها، فيُجدّد أريجُها المعطار ذكريات البطولة، والشهامة، والفداء، والتضحية، والتفاني في سبيل الحق ورفع راية الإيمان … إنها ذكرى الهجرة النبوية المباركة، التي تعد من أهم الأحداث الكبرى في تاريخ الإسلام، وفي مسيرة الدعوة الإسلامية …
إنه الحدث الذي غير مجرى التاريخ، وآذن بميلاد أمة عظيمة، وكان بداية عهد جديد وتاريخ مجيد، ومنطلق أمجاد رائعة ..
إن الهجرة المباركة الميمونة تمثل أول جولة بين الحق الأعزل الذي يريد أن يجد لنفسه مكانا مستقرا في الوجود، صالحا لأن تتجدر وتترسخ فيه وتنطلق منه قيمه ومثله العليا، وبين الباطل الأحمق الأرعن الجامح، الذي يريد أن يستعلي بغير حق، ويتطاول في سفاهة وعناد…
– وليست الهجرة النبوية مجرد ذكرى، تذكرها الأمة الإسلامية، وتحتفل بها في كل عام في يوم أو أيام، وتنظم بمناسبتها ندوات ولقاءات، وتلقى خطب ودروس ومحاضرات، ثم تنتهي وتنسى حتى تدور السنة دورتها، وهكذا دواليك، دون أن يكون لذلك أثر إيجابي في سلوك المحتفلين بها وتصرفاتهم وأعمالهم …
بلى، إن الهجرة في المقام الأول مبادئ سامية ومواقف جليلة رائعة، تمخضت عنها دروس بليغة، كان من الأحرى أن تظل حية في ذاكرة الأمة، ووجدانها ومشاعرها في كل لحظة من لحظات تاريخها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها…
– ومن أهم الدروس التي يمكن استخلاصها من هذا الحادث العظيم:
ضرورة الجمع بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله عز وجل: 
إن استحقاق التأييد الإلهي لعباده، ولو كانوا من صفوة خلقه من المرسلين المؤيدين بالوحي، لا يمكن أن يتم إن حصل أدنى تفريط في استجماع أسبابه وتوفير وسائله .. فهذا سيد الأولين والآخرين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ، الذي هو أولى الخلق بتوفيق الله ورعايته، وأجدرهم بنصره وعنايته، قد أتقن التخطيط لهجرته، وأحكم خطتها، ودبّرها أتمّ تدبير، وأعدّ لكل موقف عدّته، واستنفد
كل وسيلة بشرية يمكن الأخذ بها …
ومن الوسائل والأساليب الاحتياطية التي أخذ بها -عليه الصلاة والسلام- في هجرته، ليضمن نجاحها، والتي تظهر فيها عبقرية التخطيط البشري بجلاء، ما يلي :
1 – تكليفه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بأن ينام مكانه، تمويها على أعدائه من كفار قريش، وتعمية عليهم. وقد نجحت هذه الجزئية في التمويه نجاحا تاما، رغم الاحتمالات الكبيرة بكشفها .
2 – ذهابه -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- في حر الظهيرة، وقت القيلولة، حالة كونه متقنعا، حرصا على التكتم والسرية، وإعلامه بأن الله عز وجل قد أذن له بالهجرة، مع أنه كان من عادته أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة أو عشية، لكنه -عليه الصلاة والسلام- رآى بثاقب نظره أن ذهابه إليه هذه المرة في هذا الوقت بالذات هو الأضمن للحفاظ على السرية التامة، والخفاء عن الأعداء المتربصين به .
3– خروجه -صلى الله عليه وسلم- مستخفيا بالظلماء من بيت أبي بكر من باب خلفي صغير . وهذا أيضا من أمارات النباهة والذكاء والدهاء، إذ قد يكون بيت أبي بكر مراقبا، وهو احتمال كبير جدا،
وغالبا ما يكون الباب الرئيس للبيت مراقبا لرصد الداخلين والخارجين منه . فخروجه -عليه الصلاة والسلام، من ذلك المخرج السري، البعيد عن المراقبة، يعكس مدى حرصه على السرية، ووضع احتمالات كثيرة لتخطيط العدو ومراقبته .
4 – اختياره -صلى الله عليه وسلم- غار ثور للاختباء فيه . وتبدو عظمة التخطيط هنا حين نعلم أن هذا الغار يقع في الطريق الواقع جنوب مكة وليس على طريق المدينة، حيث احتمالات الرصد قوية . فاتجاهه عليه الصلاة والسلام إليه فَوَّت على الأعداء مخططهم وأحبط مؤامرتهم الدنيئة .
5 – تأمين معرفة ما يدبره الأعداء، وما يخططون له، وما يتوقعونه، ليتسنى للنبي -عليه الصلاةوالسلام- وصحبه تلافي ما قد يستجد في الموقف . وقد اختير (عبد الله بن أبي بكر) للقيام بهذا الدور الخطير، فكان ينقل إليهما أخبار القوم وما يكتادون به حين يختلط الظلام، ثم يغادرهما في وقت السحر، فيصبح من قريش بمكة كبائت ..
ومن المعلوم أنه كلما كانت القيادة على دراية وإلمام بواقع العدو وأسراره ومخططاته وتوقعاته، أمكنها تنفيذ خطتها ضد عدوها بنجاح .
6 – اختيار (أسماء بنت أبي بكر) للقيام بمهمة توصيل الطعام إليهما .
7 – تكليف (عامر بن فهيرة) مولى أبي بكر بالسير بالأغنام وراءهما ووراء ناقل أخبار الأعداء إليهما (عبد الله بن أبي بكر)، وكذا وراء (أسماء) التي كانت تحمل مؤونة الطعام إليهما ، وذلك لمحو آثار
المسير وإزالة كل الاحتمالات والشكوك .
8 – بقاؤه – صلى الله عليه وسلم- هو وصحبه الصديق في الغار ثلاثة أيام .. وقد كانت هذه المدة الزمنية مرتبطة ارتباطا وثيقا بما يصل إليهما من معلومات عن أعدائهما ، لذلك لم يغادرا الغار حتى تأكدا من خفة الطلب عليهما .
9 – اتجاهه -صلى الله عليه وسلم- وصحبه إلى المدينة من طريق خفي، مستعينا بدليل ماهر بالطريق، هو (عبد الله بن أريقط) الذي تواعدا معه على الإتيان بالراحلتين عند الغار .. وكان الرجل على دين قريش ، مما يدل على جواز الاستفادة من خبرة الطاقات والكفاءات غير المسلمة، ما دامت مأمونة لا تنقل الأخبار إلى العدو.
أرأيت أيها القارئ الكريم كيف أن نبي الإسلام -عليه الصلاةوالسلام- المسدّد بالوحي، والموعود بالنصر من قبل ربه، قد أحكم خطة هجرته، واستنفذ كل الوسائل الممكنة لضمان نجاحها…
إن في هذا لدرسا بليغا للأمة المحمدية: أفرادا وجماعات وحركات ومنظمات وهيئات ودولا .. أن عليها أن تستفرغ الوسع، وتبذل كل الطاقة في التخطيط المحكم لمسارها التنموي والإصلاحي، ولكل شؤون حياتها ؛ هذا هو منطق الإسلام .. لا بد من احترام قانون السببية لنجاح أية حركة أو دعوة… فالله عز وجل لا ينصر المقصرين والمفرطين في الأخذ بالأسباب ولو كانوا مؤمنين مخلصين، ولا يمكن أن يتصور نصر من الله لخامل فاتر كسول ما لم ينفض عن نفسه غبار الذلة والهوان ، ويخطو خطوت نحو كسب المعالي، والذود عن العزة والكرامة بإعداد العدة وحسن التخطيط والتدبير .
هذا، ويجدر التنبيه إلى أن الأخذ بالأسباب لا يعني أبدا الاعتماد والاتكال عليها، بل الطريقة المثلى في التصور الإسلامي أن يقوم المسلم بالأسباب كأنها كل شيء في النجاح، ثم يتوكل على الله كأنه لم يقدم لنفسه سببا ولا أحكم خطة ولا سد ثغرة ..
وهذا هو الفرق بين موقف المؤمن والكافر من الأخذ بالأسباب ، فالمؤمن يأخذ بالأسباب، ولا يعتمد عليها، ولا يعتقد أنها هي التي تفعل وتؤثر، بل يؤمن أن الأمور بيد الله، وأن النتائج تتم بقدرة الله، وأن أي شيء لا قيام له إلا بالله. بينما يعتقد الكافر أن الأسباب هي الفاعلة والمؤثرة، وهي المعول عليها، ولا علاقة لها بالتوفيق الأعلى .
ومن المؤسف جدا أنه على الرغم من دعوة الإسلام الملحة إلى التخطيط، والأخذ بالأسباب، واحترام قانون السببية، وتنفيذ النبي -عليه الصلاة والسلام- لذلك بدقة متناهية في هجرته وفي غيرها من المحطات الأخرى من سيرته، نجد المسلمين اليوم على مستوى الآحاد والجماعات، لم يحسنوا الاستفادة من هذا الدرس البليغ من دروس الهجرة النبوية المباركة !!.
فعلى مستوى الأفراد، نلحظ إهمالا كبيرا لهذا الأمر المهم في حياة الناس، وإلا فقل لي بربك من منّا يخطط لحياته؟ بل من منا يخطط لمستقبله القريب؟ ومن منا يخطط فقط لعام واحد، أو لشهر واحد، أو لأسبوع واحد، أو ليوم واحد، على أقل تقدير؟ بحيث يحدد ما ذا يريد أن يفعل وينجز على المستوى الإيماني أولا، ثم على المستوى الأسري والاجتماعي والثقافي وهلم جرا … لا شك أن أغلبيتنا بمنأى عن ذلك.
لذا، فمن اللازم أن نغير سلوكنا، وأن يفتح كل واحد منا صفحة جديدة، وأن يحدد بدقة ما ذا يريد، وما ذا ينبغي أن يأتي ويفعل خلال اليوم، وخلال الشهر، وخلال السنة، نحو ربه سبحانه وتعالى بدءا، ثم نحو كتابه العزيز، ونحو نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، ونحو أبويه، ونحو زوجته وأولاده ، ونحو وطنه، ونحو مجتمعه، ونحو كل الناس..
وهذا يقتضي وضع خطة محكمة قابلة للإنجاز، والاستعانة بمن لديهم خبرة في هذا الباب ..
أما على مستوى الأمة، فإننا نلحظ أنها قد قصرت كثيرا في التخطيط الجيد لشؤونها، واستهانت بقانون السببية وخرجت عليه، واعتمدت في الغالب أسلوب الارتجالية والعشوائية، فأصابها ما أصابها من الذل والهوان، وظلت تتخبظ في دياجير ظلام الجهل والتخلف والإمعية والانحطاط، بينما عني أعداؤها بهذا الأمر عناية تامة وأولوه اهتماما كبيرا .. وهاهم ألد أعداء الأمة من (اليهود الصهاينة) قد خططوا لاحتلال (فلسطين ) والسيطرة على (القدس) خلال خمسين سنة [من أوائل سنة 1898 إلى 15 مايو من سنة 1948] ، فتحقق لهم عند انتهاء المدة ما خططوه، حيث تم إعلان قيام ما سمي ب”دولة إسرائيل”ّ!! …
وقد كان الجدير بنا نحن المسلمين أن نتأسى بنبينا صلى الله عليه وسلم ونسترشد بسيرته الهادية، ونستخلص منها الدروس والعبر والعظات، ومنها هذا الدرس العظيم البليغ: درس التخطيط المحكم لكل شؤون حياتنا، لنكون أهلا للاستخلاف والتمكين والنصرة والتأييد، وليقتدي بنا غيرنا من أصحاب الملل والنحل الأخرى.
الدكتور عبد المنعم التمسماني

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى