خواطر روحية: سيكولوجية التائب – مليكة شهيبي

الإحساس بالذنب شعور عميق ينخر دواخل الانسان المؤمن بالقيم والمبادئ الكونية والإنسانية سواء كان مسلما أو غير مسلم، وهذا الشعور يشي بفطرة نقية سليمة تُنغّص على صاحبها حياته إلى أن يجد لنفسه مخرجا بطريقة أو بأخرى حسب معتقداته الدينية أو الاجتماعية أو الثقافية.

بالنسبة للمسلم، مجرد الاعتقاد بكون باب التوبة مفتوح طيلة العمر، يخفف عن المذنب ألم المعصية وضغط الذنب، حيث يعلم أن هناك مِمْحاة إلهية قد تمسح ما علق في النفس من خطايا وتغفر ما ارتكب من آثام وما نزل على القلب من أدران، وهذا الاعتقاد يستمده المسلم من أحاديث نبوية أو قدسية أو آيات قرآنية كريمة: 

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله تعالى، فيغفر لهم”، رواه مسلم.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كل بنى آدم خطـاء، وخير الخطـّائين التوابـون‏”‏‏، رواه الترمذي، وابن ماجه، وأحمد.

 وفى الصحيـح عن أبى ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى‏: ‏ يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا ولا أبالي، فاستغفرونى أغفر لكم‏”‏‏‏.

بهذه الكلمات فتح ديننا الحنيف للمخطئ والعاصي والمذنب باب رحمة الله الواسعة سبحانه، وبهذه الأحاديث أعطى الله سبحانه لعباده فرصة الرجوع إليه وطرحِ أثقال المعصية التي قد تُنغّص حياتهم لو رافقتهم طيلة عمرهم دون أن يكون لهم أمل وضع أوزارها وثقلها.

الوقوع في الخطأ أمر طبيعي في الحياة البشرية ومسموح به في ديننا الحنيف بدليل الأحاديث أعلاه،  وألفاظ “خطاؤون”  و” تخطئون”  المذكورة في  الأحاديث  أعلاه تحمل معنى إمكانية التكرار  ومعاودة الخطأ، فالوقوع في الخطأ سلوك بشري يلازم الإنسان طيلة حياته ولو كان ذلك بدرجات متفاوتة، وهذا الأمر ليس فيه دعوة للخطأ  مثل ما قد يظن البعض،  بل هو دعوة للرجوع إلى الله وفرصة تُعطى للمخطئ مرات عديدة في حياته قبل أن تُمنع  عنه الفرص، وهذا من رحمته وجوده جلّ وعلا، أن قدّر على عباده ارتكاب الخطايا ثم  وعدهم بأن يتوب عليهم سبحانه إذا تابوا إليه.

قال تعالى: ” قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ” الزمر:53

ولفظة ” الإسراف” في الآية الكريمة تُلقي في حس المذنب ارتياحاً عجيباً وأملاً كبيرا ًوطمعا ًفي رحمة الله، فمَهْما اقترف الإنسان من ذنوب أو ارتكب من خطايا، فالله سبحانه وتعالى يغفرها جميعا إلا أن  يشرك به. 

          إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ”، (النساء،48)

فقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان وجعله مجبولا على الخطأ حين وضع تلك الغرائز والشهوات في تكوينه وخلقه، وهذا ليس عجزا منه سبحانه وتعالى عن ذلك، بل دليلا على كمال صنعه وبديعه.

ويبقى السؤال الأهم هو: من هذا الذي يستحق أن يتوب الله عنه ويمسح عنه كل الخطايا؟  

 فالتوبة ليست مجرد كلمات ينطق بها العاصي أو المذنب بين يدي الله عز وجل ويستغفر من ذنبه ليدخل ضمن قافلة التائبين الصادقين؛

  • فالتائب حالة نفسية، عانى الألم واليأس، وكاد يقتله شعوره بالذنب ويرى خلاصه في محوه؛
  • التائب حالة نفسية، تمارس فيها الذنوب ضغطا على نفسيته وتكبل مضيه بسعادة واطمئنان في هذه الحياة..؛
  • التائب حالة نفسية، يبحث عن الخلاص والراحة والطمأنينة في الدنيا قبل الآخرة؛
  • التائب من يسرع بالتوبة اليه سبحانه بمجرد اقتراف الخطأ دون تردد أو تماطل؛
  • التائب الصادق في توبته، إنسان يعيش مخاضا نفسيا قبل توبته، يعترف بذنبه وخطئه مهما كلفه ذلك من خسران بعض من أذنب في حقهم؛
  • التائب يعترف بأنه تحدى أمر الله وإرادته فيعتذر منه ويقر برحمته وعفوه وكرمه وهذا يعطيه قوة ورغبة في البداية من جديد؛
  • التائب يعلم أنه إذا لم يتب فذنوبه ستنزل عليه النقم وتحبس عنه النعم وتعكر حياته وتؤرق مضجعه؛
  • التائب حالة نفسية يقرر فورا التوبة حتى يتخلص من ثقل معصيته وتستريح نفسه وتسكن نفسيته؛
  • التائب حالة نفسية يندم صاحبها بشدة على ما اقترف في ماضي عمره دون طاعة ويعزم على ترك آثامه فورا إن كانت بينه وبين الخالق ويسارع بطلب العفو ممن أساء إليهم من الخلق حتى يلقى الله وليس عليه أي تبعة، ويوقن في الأخير أن قبول الله لتوبته هي تفضُّل منه سبحانه، وكرم ورحمة منه بعباده.

  إنها سيكولوجية التائب الذي أثقلته الخطايا ولا ترتاح نفسه حتى يتطهر منها بالتذلل والخضوع التام لله سبحانه وتعالى فيرتقي بذلك إلى درجة من الطهرانية، درجة يكون قبلها قد اكتوى بنار معصيته ويتوق بشدة إلى رحمة الله ومغفرته.

فليس كل مذنب أو عاص يمكن أن تؤرقه خطاياه ومعاصيه، فهناك من رانت على قلوبهم هذه الأخيرة حتى لم يعودوا يحسوا بأي تعاسة أو ألم بارتكابهم المعصية كيف ما كان نوعها ودرجة اقترافها، جاعلين شعارهم لا يهمنا أحد والله غفور رحيم أو مازال الوقت باكرا على التوبة، مغترين بصحة أجسامهم أو صغر سنهم أو أموالهم. 

وينسون قول الحق سبحانه: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ” النساء الآية 17

فالله سبحانه لا يقبل توبةً من مُخطئ يُخطِّط لمعصيته، ويُحدِّد توقيت توبته بل هي مسألة فورية لا مجال للتسويف فيها أو التأجيل أو التحايل على الله عز وعلا في عليائه.

وهذا ما يؤكده الحق سبحانه وتعالى في محكم كتابه: “ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (النساء، 18).

فالتوبة مفهوم عميق في ديننا الإسلامي والتائب حالة نفسية أثقلته الخطايا يرنو إلى التخلص منها بين يدي الله في سجدة خاشعة أو عبرات دامعة أو نفس ذليلة عساه يتحرر من حمل لن يقدر على تخفيفه إلا الله سبحانه.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى