الإنترنيت في حياتنا خلال وبعد “كورونا” – الحبيب عكي

لا زالت الشبكة العنكبوتية أو “الإنترنيت” تنسج خيوطها الأخطبوطية المتشعبة في حياتنا، ويوما بعد يوم يصل صبيبها إلى كل المجالات والقطاعات ويعم كل الحارات ويغرق كل الفئات، وهذا ما أكدته جائحة “كورونا” – رفع الله بلائها عن العالمين – إذ كادت كل الحياة تتوقف على وجه البسيطة إلا من مظاهرها العنكبوتية وهواتفها الذكية التي ارتفعت استعمالاتها في كل المجالات ولدى كل الفئات بشكل ملحوظ وغير مسبوق، وهو شكل إيجابي على العموم رغم بعض النتوءات التي ظهرت على السطح، وصعوبات الضبط والتطبيق والتأقلم والاستئناس والانتقال من عالم كرس فينا كل تخلفه الروتيني المقيت، إلى عالم لا ندري في الحقيقة كنهه وقيمته المضافة رغم كل المبشرات والإشادات والإشهارات، مما يطرح السؤال هل سيتحول عالمنا بعد الأزمة إلى عالم رقمي افتراضي، وما هي الشروط الموضوعية والضرورية ليكون هذا التحول إيجابيا يبني مستقبل الإنسانية وحضارته ولا يهدم قيمه البناءة و يدمرها؟

أولا، إن الحياة الرقمية فيروس عالمي، لم يعد يستشير أحدا في الاستحواذ على حياته أذن له بذلك أو رفض، غير أنه على عكس فيروس الموت “كورونا” فإن الرقمنة أصبحت اليوم فيروس التقدم وتسهيل الحياة وتطوير جوانبها التدبيرية والتواصلية، أو على الأصح هناك من فرض مع هذا التقدم الإلكتروني الحياة وتسهيلها، مثلما هناك من فرض معه الموت والحرب والإبادة، والحاسم الحاسم في الأمور كلها هو عقلية الشعوب وعبقريتها في قلب السحر على الساحر، وفي مدى تعميم الوعي والاستثمار في السلوك الإيجابي البناء بدل سياسة العبث والسلوك السلبي الهدام.

الحياة الرقمية في الحقيقة مكنت من نماء واضح في مداخل المستثمرين ورجال الأعمال بزيادة الإنتاج والأرباح مما مكنهم من تطوير مشاريعهم والرفع من رواتب العاملين، وخلقت راحة نفسية للموظفين بتحريرهم من كل ما يضغط عليهم من الحضور والتنقل الدائم إلى مقرات العمل، وحتى من مواقيته الروتينية والمزعجة، بل بدلت هذا الحضور الضاغط والمكلف بمجرد إيجاد الأفكار وأداء المهام في أي وقت أو موقع كان يضمن لصاحبه الراحة ولمشغله ما يطمح إليه من الوفرة والإنتاج .

نجحت “الصين” خلال أزمتها مع “كورونا” في التعليم عن بعد، بعدما عطلت الحضور والدوام المدرسي لأن لها بنية رقمية حولت المنازل إلى فضاءات مدرسية، ونجحت “سنغافورة” في تقدم اقتصادها إلى مراتب الاقتصاديات الأولى في العالم، عندما رقمنت تأسيس الشركات والمقاولات في بلدها بشكل قوي استطاع معه المستثمر في البلد أو في الخارج من أن ينشىء شركته في البلد في مدة 24 ساعة دون أن يرى أي رجل إداري بيروقراطي أو يراه. ومما ساعد “رواندا” في نهضتها في وقت قياسي وجيز هو جعلها خدمات الإنترنيت في بلدها بالمجان، ولماذا “الصين” و”سنغافورة” و”رواندا” و”الموزمبيق”، وكلنا يرى اليوم الازدحام والصفوف المصطفة التي يضربها الناس على أخذ الموعد من الشباك المكلف بها في المستشفيات، في حين أن هذا الموعد يمكن للمرء أن يأخذه عبر البوابة الإلكترونية لوزارة الصحة “موعدي”، بكل يسر وراحة من منزله أو في مكتبه أو في أية مكتبة أو أي محل فيه ربط للإنترنيت.

أخذ الموعد الاستشفائي يسير، وطلب وثائق إدارية من عقود الازدياد وشهادات وسجلات عدلية ونسخ من العقود والأحكام القضائية، إعلانات عن أنشطة جمعوية وحجوزات سفر أو إقامات فندقية وجولات سياحية…، واليوم مع “كورونا” تعليم عن بعد، وقبول أعمال إدارية من البيت عبر “النيت” والهاتف ما كانت تقبل بالأمس، محاضرات جامعية لكبار الدكاترة وعمليات جراحية قطرية معقدة عبر “اللايف”..، تتبع الأبناء في الشارع والمدرسة،مراقبة مخالفين للقوانين  في المؤسسات والشركات والساحات والممرات..عبر تطبيقات وخرائط وكاميرات..، تحميل آلاف الكتب من مختلف المواقع والمكتبات الافتراضية..طلب الأكلات والسخرات المنزلية والسلع التجارية..صناعة المحتوى..من طرف آلاف الشباب الذين امتص “النيت” بطالتهم، ورفعت أرباح “يوتوب” مداخلهم ومن بيوتهم وفي ما يختارون من الأوقات.. والبقية تأتي.

يقال بسبب الإنترنيت فإن 70 % من مهن اليوم قريبا ستختفي. فهل نحن مستعدون لهذه الثورة الرقمية الكاسحة والتي ولاشك ستغير حياة الجميع؟ هل نحن مستعدون لإعادة النظر في متلاشيات المستقبل من بعض رجال السلطة الذين ألفناهم وتعرفونهم ولكل منكم مع كل منهم ألف حكاية وحكاية في القمع والشطط والتسلط وتضييع الأوقات وفرض الوساطة والارتشاء وغير ذلك من أساليب هدر الكرامة وسوء ارتفاق المواطن في الإدارة؟ ماذا ستفعل هذه الكائنات غدا إذا دخل الحق في المعلومة حيز التنفيذ عبر مرسوم، وغدا الإشعار في تنظيم الأنشطة والترخيص لها وطلب العديد من الوثائق كله متاح فقط عبر الإنترنيت، كما أصبح عند الآخرين – منذ زمان – متاحا بمجرد تصريح بالشرف؟؟ هل سننعي إلى أجيال الغد محنطات اسمها الأستاذ ومستحثات اسمها المدرسة، أم سنعيد النظر في دورهما في زمن قد يصبح فيه كل “يوتوبر” أستاذا بأي كان، وكل بيت مدرسة دون باب ولا بواب.

صادفت ذروة جائحة “كورونا” وما عرفته في إطار الإجراءات الاحترازية من منع التجمعات، حلول جمع عام لجمعية وطنية، وما أن بدأ أعضاء مكتبها يتدارسون في بدائل جمعهم العام قال أحدهم:”ألا يمكن أن نعقد نحن أيضا جمعنا العام عن بعد، يجلس فيه كل مؤتمر منا في بلدته وفي بيته، ونعتمد المداولات عبر غرفة دردشة جماعية مرئية والتصويت أيضا على اختيار الرئيس، ومريضنا ما عليه باس”. فإلى أي حد سيقبل التجديد التشريعي بمثل هذه التحديات، أو ماذا أعد لها، وهي ولا شك طال الزمان أو قصر مآلات التجمعات المستقبلية والجمعيات الافتراضية الوطنية والعابرة للقارات.

1 – غير أن كل هذه الفتوحات التكنولوجية والإبداعات الإلكترونية والرقمنات الإدارية، لا مستقبل لها في نظري إذا لم يصبح الهاتف والإنترنيت كما في العديد من الدول المتقدمة والناهضة معمما وبالمجان، وبالصبيب الجيد.

2 – إذا لم نفتح ورش المعلوميات في بلادنا ونرتقي به تدريسا وتعميما ولوجستيكا ومواكبة وإبداعا جوابيا لحاجياتنا المحلية والإنسانية، وربما كان ذلك هو السبيل المعبد للقضاء على كل هذا الاستعمال السطحي والعبثي للإنترنيت عند الكثيرين، والذي أبانت جائحة كورونا عجزه والتغرير بضحاياه لما أبانوه عن عجزهم عن الولوج السلس للتطبيقات والمنصات المفيدة التي كان يتطلبها التعليم عن بعد على أوسع نطاق،لابد أن يصبح تعليم البرمجيات والتقنيات والتطبيقات والشبكات حقا من حقوق الإنسان تضمنه الدولة لانتشال المجتمع من الأمية والسطحية والعبثية.

3 – وتبقى كل المواقع الإلكترونية والتطبيقات الذكية وشبكات التواصل الاجتماعي، لا يؤمن عليها، أولا، من نهاية مجانيتها وبداية احتكارها أو انحرافها من الخدمات المقبولة اليوم إلى خدمات غير مقبولة، وثانيا،لا يؤمن عليها أيضا وهذا أخطر من فيروسات مثل فيروس “كورونا” لا تبقي فيها ولا تذر لا في الحواسيب ولا في الهواتف.

4 – لذا ستظل النسخ الورقية لكل الكتب والمكتبات والأرشيف الإداري لكل المؤسسات والقطاعات،ضرورية ومعتادة إلى جانب أخواتها الإلكترونية، رغم ما ستفقده من الصلاحيات والاستعمالات بالتأكيد، ولكنها ستظل موجودة فقط ربما حتى ينشد يومها المنشدون من التحف التربوية والمحنطات الإدارية والمتلاشيات الاجتماعية رغم أنف “كورونا”: “الزين بالكمامة..والمشية كي الحمامة..زينك يا الإدارة زين “كورونا”..وخا بغاوا يفرقونا”.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى