إكرام المسنين ومراعاة أحوالهم
أصبحت أعداد شريحة كبار السن تتزايد بشكل كبير، وأصبحت تمثل فئة عريضة في الهرم السكاني لكثير من المجتمعات، وهو ما دعا إليه الإسلام في الاهتمام الواسع بهذه الشريحة من الناس، وحثه على احترام الكبير والمسن، وإكرامه وتوقيره، والسعي لخدمته وقضاء حاجاته ومطالبه ومراعاة أحواله.
إن المسنين يعيشون مرحلة الشيخوخة، والتي تأتي بعدما ينهي الإنسان مرحلة الشباب التي يكتمل فيها نضجه العقلي والبدني، وبالتالي فهي مرحلة الضعف التدريجي حتى يصير ضعيفاً كما كان في طور الطفولة، وفيها يضطر الإنسان إلى الاعتماد على مساعدة غيره في القيام بشؤون نفسه، فإذا كان الإنسان يخرج من بطن أمه لا يعلم شيئاً، فإنه في طور الشيخوخة، وتقدم السن يدخل في طور من الخلق لا يعلم فيه شيئاً كما قال الله عز وجل. “ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا”([1]).
فكيف هو وضع المسنين في ضوء الرؤية المعرفية الإسلامية، وكيف يكون إكرامهم وخدمتهم ومراعاة أحوالهم؟
أولا: المسنون في ضوء الرؤية المعرفية الإسلامية
شكلت الرؤية المعرفية الإسلامية إلى الإنسان نظرة متكاملة، ومتوازنة في كلياتها وجزئياتها، فالإنسان وفق هذه الرؤية هو كيان مستقل يبدأ تدرجه العمري من مرحلة الطفولة؛ ومرحلة الشباب ثم مرحلة الشيخوخة، أي أن الله تعالى قد رتب عمر الإنسان على ثلاث مراتب: الطفولة، وبلوغ الأشد والشيخوخة، وهذا ترتيب مطابق للعقل كما يقول بذلك الإمام الرازي، وبذلك تكون المراحل التي يمر منها جسم الإنسان متعددة ومتباينة؛ حيث تدشن حياته بخروجه من بطن أمه طفلاً، لا يعلم شيئاً، فيبدأ في تدرجه في اكتساب الحواس التي من خلالها يتم اكتشاف محيطه وبيئته، ثم بعد ذلك يكبر الجسم ويصير الإنسان شاباً ويافعا وقويا، ومؤهلا للانخراط الكلي في الحياة العامة، ثم تتوالى عليه السنوات فيتناقص شبابه وقوته فيصل به المطاف إلى سن يصبح معه كهلا غير قادر على إتيان ما كان يأتيه في مرحلة الشباب، وهو ما يسمى بمرحلة الهرم أو الشيخوخة.
إنها دورة الحياة ومراحلها التي يقطعها جسم الإنسان، فيبدأ بالضعف في مرحلة الطفولة، ثم مرحلة القوة في مرحلة الشباب ثم يعود مرة أخرى إلى مرحلة الضعف وهي مرحلة الشيخوخة، وفي هذا يقول الله تعالى: ” الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير”([2])، ويقول أيضا: “هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون” ([3]).
ثمة إذن ثلاث مراحل أساسية يعيشها الإنسان إجمالا، وهي مرحلة الطفولة؛ مرحلة الشباب ومرحلة الشيخوخة، وقد تكون هناك حالات لبعض الأفراد واقعة في صف الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، فيشوبها الضعف أو بعض الضعف في جميع أطوار تدرجها.
وتعتبر مرحلة التقدم في السن هي المرحلة التي يكبر فيها الإنسان، ويتجاوز مرحلة الشباب، ويصير فيها شيخا هرما، بعدما أنجب وصار أبا وجـــدا.
إن مرحلة الشيخوخة هي تلك المرحلة التي يدخلها الإنسان بعدما ينتهي مشواره في مرحلة الشباب والفتوة، وتظهر عليه علامات الضعف العام التي تعبر عنها تلك التغيرات الجسمية، والصحية، والاجتماعية، والنفسية، والعقلية التي تطرأ على حياة الشخص، ونجد تعبيرا لهذا الضعف في قوله تعالى: “الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير”([4]).
وتعتبر الشيخوخة سُـنة من سنن الله في خلقه، وطورا زمنيا حتميا يسري على جميع المخلوقات، فكل كائن حي يمر بمراحل الطفولة والشباب والشيخوخة، ففي عالم الحيوانات والنباتات وغيرها، نجد هذه المراحل الثلاث قد تتحقق عند كل حيوان وكل نوع من النبات، ولنا في القرآن الكريم تعبير عن هذه الحقيقة من خلال قول الله تعالى: “لم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب”([5])، ويقول أيضا: “اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور”([6]).
ثانيا: إكرام المسنين وخدمتهم
وتقديرا لمنزلة المسلم المسن في الإسلام، وردت مجموعة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تشيد بمكانة ذي الشيبة المسلم، وتراعي جانب الضعف الذي يجده في آواخر سنوات حياته، روى كعب بن مرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة”([7])، وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم”([8])، بل إن الله تعالى قد قرن عبادته مع الإحسان إلى الوالدين ـ غالبا ما يكونون مسنين ـ حيث قال الله تعالى: “وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما”([9]).
ومن جملة الآداب التي أكد عليها الإسلام هو الرضى النفسي للشيخ عن شيبته وكهولته، ونبهه حتى من إجراء تغييرات على ملامح عمره من قبيل نتف الشيب وإزالته فهذا الشيب هو نعمة من نعم الله على الإنسان في هذه المرحلة، ونحن نستحضر ما قاله زكرياء عليه السلام إلى ربه: “قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً”، حيث تم التشبيه لانتشار شيب الشعر في الرأس بالنار في انتشارها في الهشيم، وأسند التعبير القرآني الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس، وبذلك وصل وصف الشيب في الشيخوخة إلى تأكيد حقيقة لا يمكن لأي كان إنكارها أو إخفاءها، وفي هذا تذكير للإنسان أن هذه المرحلة التي يعيشها رغم ما فيها من ضعف وعنت إلا أنها محطة تكريم وتقدير.
ثالثا: مراعاة أحوال المسنين
في القرآن الكريم، هناك تعبير عن مفهوم التقدم في السن بكلمة “أرذل العمر”، وكلمة “شيخ” و”عجوز” وقد فسر الإمام القرطبي كلمة “أرذل العمر” بكونها هي أخسه وأدونه، وآخره الذي تضعف فيه القوى، وتفسد فيه حواس الإنسان، ويختل فيه النطق والفكر، ويحصل فيه قلة العلم وسوء الحفظ والخرف، وخصه الله بالرذيلة لأنه حالة لا رجاء بعدها لإصلاح ما فسد، وهو الهرم والخرف حتى لا يعقل؛ ولهذا قال: “لكيلا يعلم من بعد علم شيئا” وقال في سورة يس: “ومن نعمره ننكسه في الخلق”([10]).
وأرذل العمر هي مرحلة لا يتمناها أحد لنفسه أبداً، لذلك علمتنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ من الله منها فقد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو ربه فيقول: “اللهم إني أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وعذاب القبر”([11]).
ومراعاة للحالة الصحية والنفسية لكبار السن، أخذت تشريعات الإسلام بعين الاعتبار هذه الحالة حيث خصصت لهذه الفئة مجموعة من الأحكام الفقهية التي تدور في فلك التخفيف والتيسير، ومن ذلك الرخصة بالإفطار في شهر رمضان، والترخيص لكبير السن في إنابة من يحج عنه لكبر سنه وعجزه عن ذلك، وفي شأن الصلاة أمر النبي صلى الله عليه وسلم الأئمة الذين يصلون بالناس بالتخفيف في صلاتهم مراعاة لمن خلفهم من الضعفاء وكبار السن وذوي الحاجات.
إن مرحلة التقدم في السن هي مرحلة حتمية لكل إنسان، وأنه لا مفر منها لمن أدركها، وهي بهذه الطبيعة لا ينفع معها دواء ولا علاج، ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له دواء، غير داء واحد الهرم”([12])، أي أن الشيخوخة ليس لها دواء، حيث في طور الشيخوخة يضعف الجسم شيئاً فشيئاً، وتتعرض خلاياه البيولوجية إلى مزيد من التقهقر، وتضعف عظام الجسم، كما ورد في القرآن الكريم على لسان نبي الله زكرياء:” قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا”([13])، كل هذه العوارض تجعل جسم الإنسان في هذه المرحلة معرضا لكثير من الأمراض والأسقام نتيجة ضعف مناعة الجسم خصوصا في مرحلة الشيخوخة المتأخرة، وهذا يقتضي الاهتمام والرعاية الاجتماعية اللازمة.
إن التأمل في أطوار الخلق التي تنتهي بالشيخوخة وضعف الجسم وهرمه، يؤكد على أن الحياة الدنيا إنما هي بمثابة لحظة في تاريخ الإنسان الطويل، وأنها دار عبور وقنطرة توصل الإنسان إلى مقره الدائم حيث الآخرة، حيث هناك الجزاء الأوفى عن كل الأعمال التي أنتجها الإنسان في لحظة شبابه وشيخوخته.
[1] سورة الحج/الاية5
[2] سورة الروم/الآية54.
[3] سورة غافر/الآية67.
[4] سورة الروم/الآية54
[5] سورة الزمر/الآية21
[6] سورة الحديد /الآية20
[7] رواه أحمد عن عمرو بن عنبسة
[8] رواه أبو داود عن أبي موسى الأشعري
[9] سورة الإسراء/ الآية 23
[10] سورة يس/الاية68
[11] رواه البخاري عن سعد بن أبي وقاص
[12] رواه أبو داود عن أسامة بن شريك.
[13] سورة مريم/الآية4.
الدكتور صالح النشاط