أطفالنا بين المسجد والمدرسة – الحبيب عكي

كثيرة هي مؤسسات التربية والتنشئة الاجتماعية التي أصبحت تنافس المؤسسة الأولى والأساسية بعد الأسرة ألا وهي المسجد،فهناك الروض والمدرسة، وهناك النادي والجمعية، وهناك المخيم وفضاءات الألعاب الترفيه والإعلامية والشبكات والمواقع والتطبيقات وصفحات التواصل الاجتماعي، وهناك ..وهناك..، مما يطرح على المجتمع سؤالا جوهريا ألا وهو: ما هي العلاقة التي ينبغي أن تسود بين المسجد وما جاء بعده من مؤسسات التربية والتنشئة الاجتماعية ووسائلها؟ هل هي علاقة إلغاء بحكم الحداثة والتجاوز وضرورة نقض الغزل وبناء اللاحق على أنقاض السابق؟ أم علاقة تكامل بحكم الهدف و وحدة المشروع وحتى المستهدف؟ ولماذا تتعدد المؤسسات والقطاعات إذا كان تدخلها واحد وإن بوسائل مختلفة؟ أو على الأصح كيف يمكن التنسيق بين تدخلات كل القطاعات بشأن المستهدف الواحد الذي هو النشء كما هو الشأن في حالة الطفولة المغربية والعديد من القطاعات المعنية بها دون الإيفاء بالغرض؟؟.

الواقع أنه مهما تعددت المؤسسات التربوية ومهما استجدت وجادت وأجادت وأبدعت وأمتعت في اهتماماتها وبرامجها وأساليبها، فإنها لا تعوض المسجد ولا فلسفة المسجد ولا روحه وطابعه العلمي العملي الميسر والشامل والمتكامل..، بل ربما تعثر العديد من هذه المؤسسات التربوية الحديثة وضعف مردوديتها إنما من مخالفتها وأحيانا مصادمتها للروح التربوية للمسجد، كالمدرسة والجمعية والإعلام في بعض من جوانبهما وبرامجهما وأساليبهما وغير ذلك؟؟ الروح التربوية للمسجد تكمن كما قلنا في كونها المؤسسة التي تربط النشء بربه والعبد بخالقه وكل شيء فيها يربي الرائد على مبدأ واضح وراسخ ودائم وشامل يكفيه ما دونه، ألا وهو أن “أمر الله تعالى هو كل شيء وعليه يبنى كل شيء”، ومبدأ ألا خير في علم لا يرتبط بعمل بل وبعمل نافع:” لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ “النساء/114، فتجد كل حياة المؤمن المسلم المتقي المحسن تنتظم في منظومة علمية عملية يسيرة واحدة ديدنها الخشية من الله والعلم والعمل بما يرضاه، ديدنها البحث عن مفاتيح للخير مغاليق للشر، يطمع فيها المرء في رضا الله وثوابه ويخاف من سخط الله وعذابه، وليس ذلك حسب الزمان والمكان والحب والهوى بل مجسدا في سيرة الرسول القدوة صلى الله عليه وسلم وهي المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.

فيؤتى هذا العبد في ارتياده للمسجد والله يكتب له بكل الخطوات الحسنات ويمحو عنه الخطايا، يؤتى الإيمان والإسلام ويتعلم التقوى والإحسان وحسن المعاملة..، ويتعلم الصلاة والقرآن ويتفقه في ما تيسر من الحديث والسيرة..ويكتسب العديد من مهارات الحياة والتعامل مع الخلائق والكائنات..آداب المسجد..أحكام الوضوء والصلاة..آداب المجلس وطلب العلم وفضله..احترام الصغار وتوقير الكبار..وغير ذلك مما تفتقر إليه المؤسسات الأخرى ولا تعلمه روادها بما فيه الكفاية وبما في ذلك المدرسة رغم كل موادها وبرامجها وبهرجتها. ولكن،لا أحد يحلم بأن تصبح المدرسة مسجدا، ولا أن تكون في كل مؤسسة قاعة للصلاة كما يسمح بذلك القانون، ولا أن تصبح التربية الإسلامية هي المهيمنة، ولا أن يعاد توقيت الدوام الدراسي وفق أوقات الصلاة، ولا..ولا..غير ذلك، لكن فقط يبقى السؤال كيف يمكن للمدرسة وغيرها من مؤسسات التربية والتنشئة الاجتماعية أن تستفيد من هذا العمق التربوي والاجتماعي للمسجد، وفيه أهم الحلول لمعضلاتنا التربوية والاجتماعية.. كتدني المستوى التعليمي.. وتراجع القيم والأخلاق.. احتقار ملكة الحفظ ومهارة الكتابة أمام ثقافة الصورة، غياب تعلم العديد من مهارات الحياة التي لا تعطيها المدرسة..الانغلاق على المحيط والفاعلين..ظاهرة الشغب وعدم الانضباط..الغش في الامتحانات..بعض الانحراف السلوكي والفكري..العنف الجسدي والنفسي المتبادل..إدمان بعض الفئات على المخدرات وغيرها..شيوع الميوعة والاستلاب عند البعض الآخر..الضحل اللغوي العام..اضطراب القدوة..وكل ذلك ربما لأن هذه المدرسة لا زالت تتنكر في تدريسها لتربتها وعصرها وهوية وكينونة نشئها.

كما أن الفكر التربوي الإسلامي يتفوق على غيره في معالجة المعضلة التربوية الخطيرة التي تعاني منها غيره من المدارس والمؤسسات التربوية ألا وهي معضلة الانفصام بين العلم والإيمان والمعرفة والسلوك والثقافة والأخلاق، بحيث لا يقر الإسلام بالأساس غير العلم النافع، علم التزكية والاستقامة وعلم الانتفاع والاعتبار، فجعل العلم مقرونا بالعمل وقال:”..إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات”، وقال:”..ما وقر في القلب وصدقه العمل”، وقال:”..كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون”، كما يطرح نفس السؤال الملح وهو كيف يمكن للمسجد ومرافقه التعليمية أن تستفيد من المستوى التفاعلي المشرف الذي وصلت إليه بعض المدارس في تحديث وعصرنة بعض برامجها ووسائلها..سواء من حيث الانفتاح على بعض المواد الضرورية كتعلم المنطق والفكر الإسلامي والفلسفة وعلم النفس والعلوم الإنسانية، أو من حيث الرقمنة وإدخال بعض التقنيات الحديثة في تدريس بعض المواد وهي أدوات العصر التي لا تزال المساجد عنها متخلفة ومنغلقة دون مبرر معقول، خاصة ما يرتبط منها ببعض المناهج والفروع التعليمية كالكتاتيب القرآنية والتعليم العتيق الذي يلقى في التعليم الخصوصي إقبالا كبيرا ومتزايدا من لدن المغاربة، ربما لأنه الأنسب لأبنائهم حتى يجمعوا بين علوم الدين وعلوم الدنيا، فلا يغادر التلميذ المستوى الابتدائي حتى يحفظ ما تيسر من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف بل ربما القرآن كله وبعض متن اللغة، ويكون ذلك أكبر دافع لاستقامته الأخلاقية ونباهته الدراسية، كما يشهد بذلك أساتذة التعليم العتيق على تلاميذ تهم في مختلف المستوىات الابتدائي والإعدادي والثانوي، وما يجمعونه على العموم من النباهة والاستقامة ومزايا الاجتهاد ومهارات المعرفة وفضائل السلوك.

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى