“أداء تبعات ما حملنا في الدنيا قبل الآخرة” للدكتور الحسين الموس

الحمد لله حمدا كثيرا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عليه السلام نبيُ الرحمة وكاشفُ الغمة الذي نسخت شريعتُه كلَ شريعة وشملت دعوتُه كلَ أمة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين اهتدوا بشمسه المنيرة واقتفوا آثاره اللائحة وأنواره الواضحة وضوح الظهيرة ، أما بعد

أحبتي في الله. يقول الله تعالى في كتابه العزيز: {قلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } [النور: 54]. هذه الآية أصل في تحميل كلِّ فرد ما يجب عليه من التكاليف والمهام والمسؤوليات، وأنه لا يحمِل أحدٌ عن أحد حِملَه ولا أثقالَه وإن كان من أقرب الناس إليه ( في اللغة الحمل بالكسر ما يحمله الانسان والجمع أَحمال، وفيه المادي والمراد هنا الحمل المعنوي أي التكاليف والمسؤوليات التي حُملها الانسان). وما تحمله الإنسان هو التكاليف الشرعية، والتي يسميها العلماء الأحكام التكليفية..

وبدأت آية النور ببيان أن النبي المصطفى مسؤول ومحاسب على ما حُمل كبقية الخلق. ” عليه ما حُمل”، وبعده تأتي مسؤولية بقية الناس. قال ابن عطية في المحرر الوجيز : ” والذي حُمل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو التبليغ ومكافحة الناس بالرسالة وإعمال الجهد في إنذارهم، والذي حُمل الناس هو السمع والطاعة واتباع الحق”. وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: ” { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ } أي: إبلاغ الرسالة وأداء الأمانة، { وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ } أي: من ذلك وتعظيمه والقيام بمقتضاه”. وقال ابن عاشور: ” فَإِنْ تَوَلَّوْا وَلَمْ يُطِيعُوا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ مَا حُمِّلْتَ مِنَ التَّبْلِيغِ وَعَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا مِنْ تَبِعَةِ التَّكْلِيفِ. كَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ” فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ” فِي سُورَةِ النَّحْلِ [82]” .  وقال الشيخ الشعراوي رحمه الله: ” كأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يقول لنبيه: قُلْ لهم وادْعُهم مرة ثانية لتريح نفسك .. وإنْ كنت غير مكلَّف بالتكرار، فما عليك إلا البلاغ مرة واحدة”.

إقرأ أيضا: الموس: ذكرى المولد النبوي مناسبة لربط النشء بالسيرة النبوية

إن تبعة التقصير في القيام بالتكاليف، أو إهمال ما حُملنا من واجبات لا يحمله علينا غيرنا يوم القيامة. قال الله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [الأنعام: 164]. وقال أيضا: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر: 18]. قال ابن عطية: “هذه الآية في الذنوب والآثام والجرائم، قاله قتادة وابن عباس ومجاهد، وسببها أن الوليد بن المغيرة قال لقوم من المؤمنين اكفروا بمحمد وعلي وزركم ، فحكم الله تعالى بأنه لا يحملها أحد عن أحد”. وقال ابن كثير رحمه الله: ” وإن تدع نفس مثقلة بأوزارها إلى أن تُسَاعَد على حمل ما عليها من الأوزار أو بعضه، { لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } ، أي: ولو كان قريبًا إليها، حتى ولو كان أباها أو ابنها، كل مشغول بنفسه وحاله” وهو ما يؤكده قوله تعالى: { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } ] [عبس: 34-37](5). وحذر الله المؤمنين من الاستجابة للمثبطين الذين يزعمون أنهم سيحملوا خطايا الناس فقال: {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ }. وإذا كان أهل الضلال يحملون يوم القيامة أوزارهم وبعض أوزار من أضلوهم، فإن المؤمن يوم القيامة يسعد بما قدمه من حسنات، وبما تسبب فيه من هداية وصلاح للناس، روي في الصحيح عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: ” مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى , كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ , كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا “.

أيها الأحبة الكرام إنه على قدر الاصطفاء تزداد التكاليف وتعظم الأحمال التي يتحملها الانسان. وقد خاطب الله الأنبياء فقال لهم: {لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [الزمر: 65] وقال الله تعالى لنساء النبي رضي الله عنهن: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } {مَنْ يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا } [الأحزاب: 30-31 ]. وكان النبي عليه السلام وخلفاؤه يقدمون أهل القرآن للمهام الشديدة. واستشعر الصحابة رضي الله عنهم هذه الحقيقة، فجاهدوا في الله حق الجهاد، وتفرقوا في بلاد العالم ينشرون الرحمة النبوية ويعرفون الناس بهذا الدين العظيم، ولم يلتفتوا لما أصابهم من قرح أو بلاء، ومنهم من مات بعيدا عن الحرمين مجاهدا في الثغور كأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه الذي يرقد حاليا بتركيا….

ولقد تحمل النبي عليه السلام جزءا كبيرا مما حُمل وبالغ عليه السلام في حمله، حيث لم يترك فرصة لتبليغ الناس دين ربهم إلا انتهزها، وظل متأسفا على عدم استجابتهم حتى قال له ربه سبحانه: { {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا } [الكهف: 6]وقال له أيضا: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].  ورأى الزمخشري ووافقه ابن عاشور أن البخع مشتق من الْبِخَاعِ وَهُوَ عِرْقٌ مُسْتَبْطَنٌ فِي الْقَفَا فَإِذَا بَلَغَ الذَّابِحُ الْبِخَاعَ فَذَلِكَ أَعْمَقُ الذَّبْحِ، والآية كناية عن شدة أسف النبي عليه السلام من إعراض قومه عن اتباع الحق( والأسف الحزن العميق).  وقوله على آثارهم قيل في معناها أنها تشبيه لحال النبي عليه السلام فِي شِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى اتِّبَاعِ قَوْمِهِ لَهُ وَفِي غَمِّهِ مِنْ إِعْرَاضِهِمْ. وَتَمْثِيلَ حال قومه فِي النُّفُورِ وَالْإِعْرَاضِ بِحَالِ مَنْ فَارَقَهُ أَهْلُهُ وَأَحِبَّتُهُ فَهُوَ يَرَى آثَارَ دِيَارِهِمْ وَيَحْزَنُ لِفِرَاقِهِمْ..

رمال: المقاربة التوعوية التي تخاطب عقل ووجدان المواطن تجعله في مستوى تحمل مسؤوليته في انتشار الوباء

ومن اطلع على السيرة النبوية يدرك كيف كان النبي عليه السلام يجهد نفسه في دعوة قومه إجهاداً يكاد يهلكها، وما ذاك إلا لشعوره بالمسؤولية. وظل عليه السلام يدعو إلى ربه، ويجاهد بكل ما أوتي من طاقة، ولا يدخر مناسبة لتبليغ دعوة الله إلا انتهزها. وحين هاجر إلى المدينة وأذن الله له برد عدوان المعتدين وقتالهم قام بذلك أحسن قيام، ولم يلتفت للمرجفين ممن يثبطون ويبحثون عن الأعذار الواهية لترك الواجبات والتكاليف دليله في ذلك توجيهُ اللهِ تعالى له بأن يجاهد ولو بقي وحده، وألا يكلف أحدا ممن تقاعس قال الله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ } [النساء: 84]. وقد رأى ابن عطية أن الأمر فيها ليس خاصا بالنبي عليه السلام، وإنما فيه دعوة إلى أن يتحمل كل مسلم المسؤولية ولو بقي وحده، وقال في ذلك:  ” هو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه، أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له { قاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك } ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يستشعر أن يجاهد ولو وحده ، ومن ذلك قول النبي عليه السلام « والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي » وقول أبي بكر وقت الردة : « ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي »”.

إن الدعوة والتبليغ مسئولية كل من اتبع هذا النبي الخاتم، كل حسب علمه ومقدرته قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]، إنها مسؤولية وجب أن نجتهد في إتقانها وأدائها على أحسن الوجوه. ولا ينبغي أن نشغل عنها أو نقصر فيها. فرسالة النبي الخاتم رحمة للبشرية، فكيف نقصر في ايصالها ونُحرم من الأجر الذي يناله من تسبب في هداية الخلق. روى أبو داود عن سهل بن سعد الساعدي – رضي الله عنه – : أَنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال : «والله ، لأنْ يُهْدَى بِهُدَاكَ رَجُل واحد خير لكَ من حُمْرِ النَّعَم ».  وقد فهم هذه الحقيقة ابن الجوزي وهو يتكلم في صيد الخاطر الحيرة التي لازمته وهو يستثقل الحِمل الذي حمله ورأى أن الجبال عجزت عنه وخاصة ما له علاقة بالاشتغال بدلالة العباد على الله. وقال عنها بأنها هي حالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين آثروا تعليم الخلق، على خلوات التعبد، لعلمهم أن ذلك آثر عند حبيبهم..”

فاللهم اجعلنا ممن يدعون إلى الهدى وثبتنا على ذلك آمين.

كلمة تربوية بالمكتب التنفيذي بتاريخ 21 نونبر 2020

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى