من لاهوت التحرير إلى تحرير اللاهوت – بنداود رضواني

لاهوت التحرير وإعادة الكثلكة، الكرونولوجية والخلفية

لئن بَدت كنيسة رومة مُنْتَشِيَّة بتفوقها على كنائس الأغيَار ومن تنعتهم بالمبتدعة والمُهَرْطِقين1 من حيث عدد الأتباع ودور العبادة..!!، إلاَّ أنَّ امتداد الفكر الإشتراكي خلال ستينيات القرن الماضي نحو كثير من دول العالم أضحى تحدِّياً ملموساً لسلطة البابا، تكَشَّف على إثره وعيٌ ثوري واسع، وتفاعل كبير مع فكر ماركس في بعده الاجتماعي مِمّا عجَّل بانحياز الأساقفة الذين ينهضون بالمَهمَّة الرعوية نيابة عن البابا بالبلدان الإفريقية والأسيوية والأمريكولاتينية لمطالب الفئات المعدومة.

في أمريكة اللاتينية بوجه خاص، تفَطَّن الفقراء الكاثوليك إلى غياب كنيسة تسوسهم وباقي الأتباع بالتساوي والعدل، وبات في نظرهم أنها كنائس جدُّ متباينة وأحيانا متصادمة، وليست كنيسة جامعة2 ومُوَحَّدة كما هو رائج. عزَّز هذا الانطباع الضبابية التي وسمت العلاقة التاريخية للفاتيكان بالمشاريع الكولونيالية التوسعية، حيث ” التّحالف الوثيق بين كنيسة رومة والإمبراطورية الاستعمارية الإسبانية ثم مع الأوليغاريشية الزراعية، ثم مع البرجوازية الوطنية “3، في انصهار كلي لرجال الدّين الكاثوليك في بوتقة الأهداف الذاتية والمنافع الشخصية…!، أما اصطفافهم إلى جانب الرأسمالية في محاربة الشيوعية فقد أكَّد لهؤلاء الفقراء بأنّ الممثلين المُفترضين لمملكة المسيح يعاكسون طموحاتهم وآمالهم في العيش الكريم.

ومع وطأة الضغوط، صار الكرسي الرَّسولي مُرْغَماً على إعمال نظره وتعديل خطابه من جديد، وبالأخص ذاك الذي يُعْرِب فيه عن موقفه من تراجيديا الفقر والفقراء. فكان من نتائج المَجمع الفاتيكاني الثاني 1965م/ 1962م الإقرار بشكل تدريجي بما صار يُنعت لاحقا في التداول المسيحي بلاهوت التحرير، لاهوت يعتقد أنصاره بأن الرّب يكلم البشرية عبر المحتاجين والمعوزين، وبأن الكتاب المقدّس لا يُفسَّر إلا عن طريق آلامهم ومعاناتهم…!

في الظاهر، لربما بدا هذا الإقرار تضامناً صريحاُ مع هذه المطالب والاحتياجات الإنسانية، واعترافا ضمنيا ب ” اليسار الكاثوليكي “، وتراجعا عن نعوت الابتداع والهرطقة4 التي أُلْزِقَت إِلزاقا بكل جهد ثوري ذي طابع اجتماعي، إلاَّ أنه ومع ذلك، فلم يُقوّض اعتراف الكرسي الرسولي بلاهوت التحرير الشكوك المتوارية خلف استبدال مشروع ” الكثلكة 5 المتهم بممارسة الاستعلاء والإقصاء بمشروع ” إعادة الكثلكة ” الزاحف، والذي يجر معه آليات إضافية للاحتواء والاستيعاب لكن بإغراءات اجتماعية وتضامنية، الغاية من ذلك إظهار كنيسة رومة من جهة غير مَعنِيَّة بالممارسات الإقصائية والاستعلائية، ولتبدو أمام العالم من جهة ثانية بأنها متكيِّفة إنسانيا مع رعاياها الفقراء حيثما كانوا..!

ورغم محاسن التصريحات المُعلنة، والعبارات المُدَغْدِغَة للمشاعر، فإنّ مشروع ” إعادة الكثلكة ” لم يُسْتقدم فقط كبديل للكثلكة ” في إدارة الضَّبط الداخلي للكاتدرائيات والأسقفيات عبر الآليات التنظيمية الكلاسيكية، وإنَّما جيء به اولاً لبثِّ المزيد من التَّأييد لدور المركزية البابوية في التحكيم اللاهوتي، لإيمان هذا المشروع بامتداد الحبر الأعظم الطبيعي والصحيح للإرث الرسولي…!، ولمقصد ثاني مرتهن بتقليص مجالات التبابن والاختلاف من خلال تكثيف ومضاعفة ” البرامج والمشاريع المبشرة بكنيسة رومة ممثلا أوحداً للمسيح بين المجتمعات الإنسانية بوجه عام، وبين الجماعات المسيحية البَيْنِيَّة كذلك، بل وحتى بين التيارات الكاثوليكة الليبرالية والشعبية 6…. !، وبالمجمل، فاستدعاء مشروع ” إعادة الكثلكة ” بديلاً عن ” الكثلكة ” كفلسفة رعوية كِرَازٍيَّة إنما جاء في سياق تعزيز مبدأين اثنين يوجِّهان مُجمل جهود الفاتيكان الحالية، وهما: – مبدأ الكونية الرَّعوية 7 وأهميته في توجيه الكرسي الرسولي، – والمبدأ الثاني: تعزيز المركزية البابوية في تحديد الاختيارات اللاهوتية للكنيسة، ” بوصفها المرجع الأقدس في شرح أصول العقيدة المسيحية” 8.

والواضح أنَّ تماهي لاهوت التحرير بالمفهوم الفاتيكاني مع مشروع إعادة الكثلكة تحت مُسمّى “تعليم الكنيسة الاجتماعي “، جعل من سهام النَّقد التي نالت من ” إعادة الكثلكة ” كمشروع تنصيري كوني…! يُلغي التَّعددية ويُقصي التنوع والاختلاف، هي السِّهام نفسها التي كشفت عن نفسية الاحتواء التي حركت حكومة البابا بولس السادس لقَبول لاهوت التحرير اللاتيني، وهي ذاتها التي عَرّت عن المرامي الخفية للمشروع “، فلاهوت التحرير في إدراك المؤسسة البابوية لا يعدو أن يكون إحدى محطَّات الزمن الكاثوليكي لاستيعاب وتطويع المخالفين عامة، والكنيسة الشعبية اللاتينية بوجه خاص.

لاهوت العصمة وسؤال التّحرير

قال البابا فرنسيس في المقابلة العامة مع أتباع كنيسة رومة يوم 2 يناير 2019: ” طوبى للفقراء، للودعاء وللرحماء ولمتواضعي القلوب، هذه هي ثورة الإنجيل. حيث يكون الإنجيل تكون هناك ثورة.”، ونشر موقع أخبار الفاتيكان ” أن يوم الأحد 17 ماي 2020، ترأس البابا القداس في كابلة بيت القديسة مرتا بالفاتيكان رفع خلاله الصلاة من أجل عاملي النظافة…”، الواضح أن توجهات الحبر الأعظم منذ اعتلائه كرسي البابوية وهي تشي بشيء من الوعي الاجتماعي الثوري تجاه المعدومين والبؤساء، وهو سلوك مأنوس عن أسقف لم يكن مشدوداً وجدانيا إلى الغرب خلافا لسابقيه من البابوات، وغير مستغرب عن راهب لاتيني ترأس أسقفية بيونس آيرس وعايش مخاض ولادة ” لاهوت التحرير ” اللاتيني، لكن – للأسف – وبعد مضي أكثر من سبع سنوات على تنصيبه بابا للفاتيكان لم تُرَاوِح التعاليم الكاثوليكية وتطبيقاتها مكانهما، لسببين إثنين، أولهما: سيطرة التيار النًّزَّاع إلى التقليد، وتغليب الأنساق النمطية الخادمة للجمود والرتابة أثناء قراءة التراث الإنجيلي، وبالموازاة، الإعراض عن الفتوحات المعرفية والإسهامات البحثية الجديدة التي قدمتها المدارس النّقدية للكتاب المقدس، سواء الغربية منها أو الإسلامية. وأما السبب الثاني: فلوجود قاعدة واسعة من رجال الفاتيكان تتعارض مصالحها الشخصية مع دعوات الحركات المعارضة للإرث اللاهوتي الكاثوليكي.

في المذهب الكاثوليكي – كما في المسيحية الأم – لا يوجد سفر واحد…، ولا أنبياء بالمعنى الإسلامي، بل هم كُتَّاب مُقَدَّسون ألهم روح القُدُس أفكارهم، وصوّب أعمالهم وسدّد خطاهم أثناء كتابة سيرة المسيح ووصاياه وعِظاته…!، وهذا الإلهام القدسي لم يتفرد به جيل دون آخر…، فالوحي بالمفهوم الكاثوليكي هو الذي يقف خلف كتابة الحواريين وأعمال القِدِّيسين وقرارات المجامع المسكونية وآراء البابوات…!، فلا مسوّغ – إذن – للاندهاش حين تطالعنا كنيسة رومة بترسانة من المصطلحات والمفاهيم اللاهوتية التي تحوم حول كلمة الرسول: كالكرسي الرسولي، الإرساليات، الرسائل…، مع ما تستصحبه من دلالات التّنزيه والعصمة من المثالب والعثرات التي لا تَنْفَكّ في الغالب عن أقوال الإنسان وتصرفاته.

والملاحظُ أن المحاولات الاحتجاجية على لاهوت العصمة البابوية، الصادرة عن الجسم الكاثوليكي والمُعترضة على تقديس الحبر الأعظم تبقى جد عزيزة ونادرة، كتلك التي نهض بها في 1970م هانس كانغ 9 في كتابه الأول: “هل يوجد شخص معصوم من الخطأ ؟!”، إذ انتقد فيه عصمة البابا وشبهها بسلطة ملوك وسلاطين العصور الوسطى…، وهو الانتقاد نفسه الذي أجٍّج الخلاف التاريخي بين الحبر الأعظم من جهة والأرثوذكسية واللوثرية من جهة أخرى. أما الكنيسة الكاثوليكية في أمريكة اللاتينية فحتى الراهن لم تَصْدَع بنقائص لاهوت العصمة ومعايب السلطة المقدسة للبابا..!، ولئن كان تحرير الإنسان من البؤس والفقر هما الأساس الذي قام عليه دستور لاهوت التحرير، ومع ذلك، فالسلطة المطلقة لبابا تبقى بالنسبة للتيار الليبرالي التحرري الكاثوليكي جديرة بالنضال وخليقة بالتحرير، فالرائج في الخلاصات النقدية للكاثوليكية أن مجمل المزالق والمطاعن اللاهوتية أُسُّها وأساسها تنزيه البابا عن الأخطاء المعرفية والإيمانية ورفعه فوق العيوب الأخلاقية والإنسانية.

حديث الإقصاء والحاجة إلى لاهوت إنساني

” ليكن حبّ بعضكم لبعض كما أنا أحببتكم “، إنجيل يوحنا.

يشاع أن الغرب في زمن العولمة يشهد صحوة لافتة للدين وانتعاشا في ساحات التدين، وهذا صحيح إلى حد ما، وفي حدود التجليات الطقوسية: كارتياد القُدَّاس وحضور التعميد والجنائز وطقوس الزواج وغير ذلك.

أما جوهر علاقة الفرد بالدين المسيحي فموسومة في المجمل بالانكماش، فالتَّدين في الفضاء الغربي لا يعدو أن يكون مسألة فردية وقناعة شخصية. خلافا لمؤسسة الفاتيكان التي تناضل وبصورة مؤثرة في صناعة القرار السياسي في الغرب، وصياغة الوعي الجمعي داخله، فنفوذها الديني والدنيوي لا يضاهيه أي نفوذ لأية مؤسسة دينية رسمية في العالم رغم أنها تتمركز داخل فضاء علماني لا ديني..!، ولقد عَبَّر عن واقع التأثير هذا بلهجة إنكارية جون كندي في إحدى خطاباته الشهيرة حين قال: ” أؤمن بأمريكة التي تفصل فصلا مطلقا بين الكنيسة والدولة، فلا يملي أسقف كاثوليكي على الرئيس كيف يدير الأمور ” 10.

وتبقى أبرز المعوِّقات اللاهوتية التي تواجه نزعة الأنسنة داخل الكاثوليكية، استحضار اتباعها للدين غالبا ما يتم عبر معايير مزدوجة في محاكاة صريحة لرجال الكنيسة الرومانية، خصوصاً في نظرتهم إلى الآخر، كما الحال مع تلك التصريحات المُسيئة للإسلام للبابا السابق بنديكت السادس عشر والتي لا تمثل رأيا شخصيا فحسب، بقدر ما عبَّرت عن رأي تيار فاعل داخل أروقة الفاتيكان، وفكر مُقيد بأغلال الصدامية المتحكمة في عقلية القرون الوسطى، حيث الهوس برواية الكوميديا الإلهية المحتفى بها بابويا لدانتي الكاثوليكي، والمسرحية الآسنة ” محمد ” لفولتير. وفي الغالب ما يتم استحضار نفسية التجريح والازدراء التي أُلِّفَت بهما كل من الرواية والمسرحية وأمثالهما لتأجيج المزيد من مظاهر الإسلاموفوبيا، وإحماء العنف الرمزي والمادي ضد الثقافات المغايرة، ويكمن عَدُّ خطاب اليمين المتطرف تجاه الهويات المخالفة أوضح تعبير شعبي يحاكي الأحاديث الأُحادية الجانب لبعض رجال الفاتيكان. وللأسف، لا نلحظ مقابل ذلك غير بيانات يتيمة ومتداعية لا تتجاوز حدود الشفاه صادرة عن الكرسي الرسولي تستنكر سيكولوجية العداء هاته، في غياب محاولات عميقة وحوار جدِّي يحرر الوعي الغربي من قيود المفاهيم الخاطئة والتَّصورات المُجحفة تجاه الفضاءات الحضارية الأخرى.

إنّ قلق عدد من علماء اللاهوت 11 المُسْتَقِلِّين نابع منزلة الآخر في الثقافة الكاثوليكية، فهو لا يتربع على عرش المركزية الكونية، ولا يتمتع بالسيادة على ما سواه من الموجودات كما الشأن بالنسبة للمسيحي واليهودي، فإنسانية الآخر ليست بالأساس ولا الغاية الأولى من اللاهوت الكاثوليكي، وإلاَّ بم نُعَلِّل- عدم اعتذار الكنيسة للمسلمين حتى الساعة – عن مآسي محاكم التفتيش مثلما اعتذرت لليهود إبان المجمع الفاتيكاني الأخير عن كل ما تجرعوه من إضطهاد عبر القرون، بل قامت – أكثر من ذلك وإرضاء للتيار الصهيوني بِنَفِيّ مُتعمّد للاهوت الاستبدال والذي طالما ناضل من أجله آباء كنيسة رومة الأوائل. 12.

——–

الهوامش:

1- الهرطقة كلمة يونانية الأصل معناها ( الرأي المستقل ) أو ( الاجتهاد الفردي ). الامبراطورية الرومانية بين الدين والبربرية. اسحاق عبيد. ص 240. دار المعارف. ط 1972. وفي التداول الكاثوليكي فالهرطقة هي الرأي الديني المدان كنيسيا بسبب مناقضته للإيمان الكاثوليكي.

2- المشهور في التداول الكاثوليكي أن إغناطيوس الأنطاكي أول آباء الكنيسة استعمالاً لهذا المصطلح.

3 ” لاهوت التحرير في أمريكا اللاتيني. نشأته، تطوره، مضمونه. “، الأبُ ولْيَم سٍيدْهم. دار المشرق، بيروت، لبنان. ط 1993، ص 34.

4- وهذا الأمر ليس بالجديد عن اعتنقت نظريات اجتماعية كانت تتعارض مع نظام المُلكية السائد “. الهرطقة في المسيحية، تاريخ البدع المسيحية. ج، ولتر. تعريب جمال سالم، دار الفاربي. بيروت. ط 2007.

5- ” الكثلكة بالمعنى اللاهوتي الأدق، هي إحدى علامات الكنيسة، العلامة التي تشير الى جهدها المتواصل للتوسع في العالم بأسره “. تاريخ الكثلكة إيف برولي، ترجمة جورج زيناتي، دار الكتاب الجديدة المتحدة.ط الأولى، 2008. ص 5

6- تطلق الكنيسة الكاثوليكية٠ لفظة ” الليبراليين ” على من خالف سياستها على مستوى الداخلي و لم يسايرها في مشاريعها التوسعية خلف اسوار حاضرة الفاتيكان.

7- الكونية الرعوية: يقصد بها جهود كنيسة رومة لتنصير العالم

8 -البابوية وسيطرتها على الفكر الأوربي في القرون الوسطى. أحمد علي عجيبة. ص 35، مكتبة المهتدين، ط 1991.

9- هانس كانغ سويسري الأصل، من علماء اللاهوت المسيحي، كاثوليكي المذهب، خاض صراعا مع التيار المحافظ داخل الفاتيكان، تعرض للطرد من كنيسة رومة. عُرف بمواقفه المنصفة للإسلام، ودفاعه عن نبوة محمد عليه الصلاة والسلام.

10- http// www.youtube.com/match?v=x2Jr3ADQmk

11- كتاب: ” الإسلام: تاريخا وحاضرا ومستقبلا “، لهانس كانغ، ففي أكثر من…. صفحة يتحدث المؤلف عن إنسانية الديانات الإبراهمية الثلاث. ورسالتها من أجل خدمة الإنسان.، لا أن يكون الإنسان خادما لرجال الدين ومؤسساتهالكاثوليكية، ف ” البدع الإنجيلية في القرون الوسطى غالبا ما.

12- لاهوت الاستبدال يعني: أن الكنيسة قد حلَّت محل شعب إسرائيل في خطة الله وأن الوعود المزعومة التي تُرَوِّج بأنها أعطيت لشعب إسرائيل في الكتاب المقدس تتحقق اليوم في الكنيسة المسيحية، وليس في إسرائيل. ولذلك، فالنبؤات في المذكورة في الكتاب المقدس عن البركة واسترجاع إسرائيل لأرض الموعد هي وعود روحانية أو رمزية من الله بمباركة كنيسته

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى