العدوني يكتب : الأسرة في يومها العالمي

يحتفي العالم باليوم العالمي للأسرة في الخامس عشر من شهر ماي من كل سنة،  وذلك بموجب قرار الجمعية العامة  للأمم المتحدة الصادر سنة1993، مما يعكس الأهمية التي يوليها المجتمع الدولي للأسرة، كما يتيح هذا اليوم الفرصة للتذكير بقيمة هذه المؤسسة وأدوارها وواجباتنا تجاهها.

وإذا كانت الأسرة تعبر عن شبكة من العلاقات المتعددة الأبعاد ( علاقة زوجية، بنوة/ أبوة، أجداد/أحفاد أعمام / أخوال، أصهار …)، وأدوارها متنوعة ( تربوية، ثقافية، تنموية…) فإن ذلك يستدعي التفكير في الأسرة بنظرة شمولية مركبة تستحضر مختلف الأبعاد والمكونات والادوار.

ولذلك خصها الشرع الإسلامي بنصوص كثيفة سواء في القرآن المجيد أو في السنة النبوية، همت مكانة الأسرة والقيم البانية والناظمة لها، فقد جعل الشرع الحكيم من الزواج ميثاق غليظا، ونص على قيم السكينة والمودة والرحمة، كما في قوله”وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” (الروم: 21) ، وشدد على البر  بالوالدين ورعايتهم بالحسنى ، وحسن تربية الأبناء ، وصلة الأرحام بين الأقارب ….

أما على المستوى الأممي فقد عرفت قضايا الأسرة اهتماما متزايدا منذ ثمانينات القرن الماضي. ففي سنة 1983 دعا المجلس الاقتصادي والاجتماعي إلى تعزيز الوعي بين صانعي القرار والجمهور بشأن مشاكل الأسرة واحتياجاتها، كما دعا المجلس في 29 ماي 1985 الجمعية العامة إلى الاهتمام “بدور الأسرة في عملية التنمية”، ومازالت تقارير المنظمات الدولية تحث على حماية الأسرة وتعزيز أدوارها. ( آخرها تقرير قبل أيام حول تنفيذ أهداف السنة الدولية للأسرة ومتابعة تنفيذيها من قبل المجلس الاقتصادي والاجتماعي).

إن الاحتفاء الأممي بمؤسسة الأسرة يعتبر وقفة احترام وتقدير لمؤسسة الأسرة، ووقفة اعتراف بأدوارها التربوية والتنموية،  كما أنها مناسبة أيضا لتقييم موقع الأسرة ضمن السياسات العمومية ببلادنا، خاصة وأن الدستور المغربي يعتبر في الفصل  32 منه أن ” الأسرة القائمة على علاقة الزواج الشرعي هي الخلية الأساسية للمجتمع” و”تعمل الدولة على ضمان الحماية الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية للأسرة، بمقتضى القانون، بما يضمن وحدتها واستقرارها والمحافظة عليها”. فهذا يفترض أولا مساءلة الدولة حول سياساتها تجاه الأسرة،

في غياب تقرير جامع يفترض أن تصدره الجهات الرسمية لتبيان مدى احترامها للنص الدستوري المشار إليه، يمكن تسجيل تساؤلات أولية، من قبيل صورة الأسرة المغربية في الإعلام وخاصة في شقه العمومي؟ والقيم الأسرية التي  بشيعها في بيوت المغاربة؟ هل هي قيم المودة والرحمة والتماسك والتكامل، أم هي قيم التفكك والصراع والتنازع؟. ويمكن أيضا التساؤل عن موقع الأسرة في الكتاب المدرسي؟ وإلى أي حد يحترم القيم التي تضمن الحماية لمؤسسة الأسرة ووحدتها واستقرارها؟، صحيح أنه في السنوات الأخيرة بذل جهد معتبر في توفير الحماية الإجتماعية، وأن هناك أعمال هنا وهناك لصالح الأسرة، لكن كل ذلك يتم في غياب الالتقائية والاستمرارية والتكاملية في السياسات العمومية الموجهة للأسرة.

كلمة الأستاذ عبد الرحيم شيخي بمناسبة اليوم العالمي للأسرة 15ماي

كما أن الاحتفاء اليوم يأتي بعد مضي أربع سنوات من إحداث المجلس الاستشاري للأسرة والطفولة الذي صدر لتنظيمه القانون رقم 78.14 بالجريدة الرسمية منذ 15 غشت 2016؟ وهو المؤسسة التي أناط بها الدستور بموجب الفصل 169 منه “مهمة تأمين تتبع وضعية الأسرة والطفولة، وإبداء آراء حول المخططات الوطنية المتعلقة بهذه الميادين، وتنشيط النقاش العمومي حول السياسة العمومية في مجال الأسرة، وضمان تتبع وانجاز البرامج الوطنية، المقدمة من مختلف القطاعات، والهياكل والهيئات المتخصصة”.

ومن جهة أخرى يمكن أن نطبق هذه التساؤلات على مستويات مختلفة ذات علاقة بتفعيل الفصل 32 من الدستور، لكن هل الأسرة هي قضية سياسية فقط؟ هل هي قضية حكومية؟ تكفيها أن توضع نقطة باسمها ضمن البرامج الحكومية؟. بكل تأكيد بالجواب بالنفي، فالأسرة قضية مجتمعية بامتياز، قضية مرتبطة بثقافة وقيم المجتمع، وبالتالي لابد من مسائلة دور المجتمع المدني والأحزاب السياسية ومراكز الدراسات حول مساهمتهم في النهوض بالأسرة الخلية الأساسية للمجتمع؟

وإذا كانت مؤسسة الأسرة محاطة بهذا الاهتمام، سواء في مرجعيتنا الإسلامية أو في المواثيق الدولية أو في وثيقتنا الدستورية، فإن من أهم الأولويات التي تحتاجها مجتمعاتنا – فضلا عن التشبث بهذه المؤسسة وقيمها الرفيعة البانية- هو الاهتمام بالخطوة الأولى في بناء الأسرة، فمثلما يتعلم ويتأهل الإنسان أشياء كثيرة لخوض غمار الحياة، فإنه من الاحتياجات التكوينية لكل إنسان هو تأهيله في المجال الأسري، خاصة في ظل تعقيدات الحياة المعاصرة. ففضلا عن الحاجة الضرورية إلى تيسير شؤون الزواج والتشجيع عليه وتحريره من التكاليف المادية المبالغ فيها، فإن الشباب بحاجة إلى التأهيل والتكوين من أجل النجاح في المشروع الأسري.

ويتطلب ذلك أيضا مواكبة الأسر في تدبير شؤونهم الأسرية بالمعروف والإحسان، وتأهيل المجتمع على تحمل مسؤولية حماية الأسر وضمان وحدتها واستقرارها، من خلال إحياء مؤسسات وجهود الوساطة وإصلاح ذات البين، وهي جهود أصيلة في شريعتنا، ومنظمة بموجب القوانين الجاري بها العمل في بلدنا.

صحيح أن مؤسسة الأسرة في عالمنا المعاصر اجتاحتها عوامل التعرية والتفكك المؤسسة على فلسفة ورؤية مادية، وإذكائها لخطاب منفصل عن القيم والأخلاق، يعلي من شأن الفردية والحريات الغير منضبطة … مما أنتج أعطابا خطيرة في المجتمعات المعاصرة، من قبيل وضعية المسنين وانتشار الأطفال غير الشرعيين وارتفاع نسب الطلاق … كل ذلك يفترض أن يشكل جرس إنذار كاف للمبادرة الجماعية بتصحيح اختلالات هذا النموذج، بالاستناد إلى مرجعيات وقيم تعيد الاعتبار للإنسان والأسرة والمجتمع، بدل الرؤية المادية المعادية للإنسان والقيم والدين.

إن خصوصية الاحتفاء هذه السنة يتزامن مع انتشار جائحة فيروس كورونا المستجد، وما ترتب عنه من إقرار للحجر الصحي في مختلف الدول ومن ضمنها بلادنا، مما جعل الأسر هي التي تتحمل العبء الأكبر لهذه الأزمة، وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يستدعي مضاعفة الجهود الموجهة لحماية الأسر وضمان استقرارها،  ويمكن التوقف عند ظاهرة العنف الأسري في ظل الحجر الصحي – ورغم أن الوقت مازال مبكرا لإطلاق أحكام حول التحولات الجارية في فترة الحجر الصحي – وعلى عكس ما روجت بعض وسائل الإعلام، فإن النيابة العامة باعتبارها الجهة الرسمية المسؤولة عن تنفيذ السياسة الجنائية قد أوضحت – في دورية رقم 20 صادرة بتاريخ 30 أبريل2020-  أن معدل العنف ضد النساء تراجع بمعدل 10 مرات خلال الفترة ما بين 20 مارس المنصرم و20 أبريل الجاري، مقارنة بالمعدل الشهري لهذا النوع من القضايا. حيث سجلت ما مجموعه 892 شكاية تتعلق بمختلف أنواع العنف ضد النساء (الجسدي والجنسي والاقتصادي والنفسي…)، بينما تم تحريك الدعوى العمومية في 148 قضية فقط من هذا النوع، ويستفاد من ذلك أن عدد المتابعات من أجل العنف ضد النساء قد انخفض خلال الفترة المذكورة عشر مرات عن المعدل الشهري لهذا النوع من القضايا (148 متابعة بدلا من 1500 متابعة شهريا في الأحوال العادية)”.

ربما يعني ذلك أن أكبر عدد من جرائم العنف يرتكب خارج مؤسسة الأسرة، وأن هذه الأخيرة وبالنظر للمخزون القيمي الذي تكتنزه يحميها من اللجوء للعنف لتدبير شؤونها، علما أن الكثيرين توقعوا أن ظروف جل الأسر  بفعل تداعيات الوباء الاقتصادية والاجتماعية يمكنها أن تشجع على تنامي التوترات وما يليه من عنف وتنازع.

وعليه ينبغي الوقوف مليا عند الدور الذي لعبته الأسر وما تزال في حفظ الصحة العامة، وضمان الاستقرار في المجتمع فضلا عن مساهمتها في تحمل مسؤولية التعليم عن بعد – رغم إكراهاته-  وتراجع مؤشرات العنف… كلها إشارات تستدعي من الجميع مؤسسات رسمية ومدنية، مواطنين ومواطنات الاعتراف لهذه المؤسسة الشامخة والاحتفاء بها، باعتبارها أهم اللبنات التي يقوم بها المجتمع سواء في فترات الشدائد والمحن أو في مراحل الرخاء.

تستحق الأسرة كل الأيام… وما هذا اليوم إلا للتذكير  بهذه القيمة. يقول ربنا عز وجل ” وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ” (النحل: 72)

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى