احتفالية برشيد (5) – عبد الرحيم مفكير

بقيت الاحتفالية عصية على الاتهامات والتفسيرات المجانبة للصواب سواء منها التي أرادت خندقتها في حيز ضيق يتهم ب”لغيبية” و”الزاوية”، و”الحزب” ، و”الشطحات” ،… وفرضت نفسها لتكون أكثر شمولية وفاعلية، وأشد التصاقا بروح اللحظة التاريخية وبمستجداتها المختلفة…. الاحتفالية كانت وما زالت مشروعا مجتمعيا ، هي في جوهرها تصور للواقع والتاريخ والإبداع ، حركة متجددة لا تلغي الآخر، راهنت على المستقبل ,الاحتفالية الحقيقية هي ما سوف يكون، وأجمل إبداعاتها ما سوف يكتب ـــ أدبيا وسنوغرافيا ــــ وأخطر طروحاتها النظرية ما سوف يأتي مستقبلا ، وبهذا راهنت على الممكن المفتوح.

عن حقيقة الاحتفالية ـــ تجهد وجهاد من أجل المسرح الآخر والإنسان الآخر والمجتمع الآخر ــــ غالبا ما تغيب عن كثير من الأذهان ، لذلك يتم النظر إليها من زوايا مختلفة ومختلفة، لم تنتظر الاحتفالية دعما رسميا ، لأنه لا يؤسس إبداعا مسرحيا ، وإن قدر للاحتفالية أن تنجح رسميا وشعبيا فما الضير في ذلك، إنها ملتقى كل الجهات المتناقضة والمتضاربة،دخلت الجامعات والأكاديميات، ودرست في المؤسسات التربوية، وبذلك امتلكت شهادة الانتماء إلى الناس والوطن والتاريخ ،[1] لقد شغلت البلاد والعباد.

يقول حسن المنيعي ” إن الاحتفالية كانت هي المدرسة المغربية التي حاولت أن تدخل بالنص إلى مجال آخر، وبناء على هذه العلاقة التي تربط بين الاحتفالية والنص الاحتفالي يبرز البعد القائم بينها على النمو على الكتابة التقليدية التي تحاكي النموذج الأرسطي” .[2]

الاحتفالية كمنظومة فكرية وفنية أكبر من أن تختزلها كلمة واحدة ، كلمة هي الحفل أو الاحتفال،…. الاحتفالية موصولة بشروط موضوعية حقيقية،

إن الاحتفالية موقف بالأساس … موقف متعدد الأبعاد والمستويات والزوايا. فهي موقف من الذات ، وذلك من خلال مستويين اثنين : مستوى الوعي، ومستو اللاوعي، ومن خلال بعدين أيضا، البعد الآني والبعد التاريخي.

وهي أيضا، موقف من الآخر، سواء كان فردا أو جماعة، الآخر المتجسد في الفكر والفن والصناعات والآداب والأخلاق والمعتقدات. إن هذا الموقف بالأساس موقف من العلاقة، أو من طبيعة تلك العلاقة التي كانت دائما علاقة ميكانيكية …. علاقة  تقوم على الفعل ورد الفعل وعلى ثنائية الصوت والصدى والشيء والظل. وجاءت الاحتفالية لتحدث انقلابا في هذه العلاقة، وأن تجعل منها علاقة جدلية متحركة، علاقة تقوم على الحوار والجدل، وعلى تبادل الفعل والانفعال والتأثير والتأثر.

كما أن هذه الاحتفالية أيضا هي موقف من التراث … التراث وهو في بعديه القومي والكوني والجهوي والعالمي . إن التراث هو ذاكرة حية ، وفي هذه الذاكرة الجماعية نخبئ إرثنا الثقافي والفكري والفني. [3]

تنتمي الاحتفالية ثقافيا وسياسيا واجتماعيا إلى ما بعد هزيمة67 ، هذا على المستوى العربي ، أما على المستوى الغربي فقد جاءت بعد ثورة الطلاب بفرنسا 68 وبعد الانتفاضة العالمية التي عرفها المسرح والتي تولدت عن المناخ النفسي والثقافي الذي أفرزته حرب الفيتنام. لقد تزامنت مع الانقلاب الذي عرفته الأغنية العربية وذلك بظهور الشيخ إمام ومحمد يوسف نجم وجيل جلالة وناس الغيوان. لقد أحيت واقعها بوعي نقدي ، ظهرت في زمن الجماعات سواء الغنائية أو التشكيلية أو المسرحية. [4]

الاحتفالية تقوم على شيئين أساسيين:

الأول: طبيعة الفكر الذي ترتبط به الاحتفالية، أو لنقل أحسن جوهر هذا الفكر، والذي هو جوهر حقيقي وإنساني، والذي يرتكز على أساس إنسانية الإنسان وحيوية الحياة ومدنية المدينة، وعلى أن يكون الإنسان هو ذلك الذي يملك حق التعبير، وذلك على الرأي الحر، في المجتمع الحر.

الثاني: هو طبيعة العلاقة التي تربط الاحتفالية بهذا الفكر ــــ أو بجوهره ـــ والتي هي علاقة جدلية بالتأكيد، علاقة تنبني على وجود موقف نقدي متحرك. موقف يفعل وينفعل، ويؤثر ويتأثر . إنها إذن علاقة صدامية، وليست علاقة تبعية . وهذا ما يميزها عن كل العلاقات التقليدية الأخرى، والتي كانت مبنية على أساس تقديس الفكر الغربي واجترار مقولاته وطروحاته في ببغاوية وآلية . [5]

لقد حاولت الاحتفالية أن تكون قريبة من العلم بعيدة عن الإيديولويجا، وبذلك تأسست في شكل ورشة مفتوحة للتجريب الميداني. [6]

2 ــ البدايات :

 يقول برشيد: إن الأساس إذن، هو تأسيس الصناعة المسرحية أولا، أي تأسيس هذا المسرح المختلف والمخالف، وذلك انطلاقا من شروطه الذاتية والموضوعية معا، وانطلاقا من سياقاته التاريخية، وانطلاقا من خليته التي يحملها داخله، والتي هي أساس مولد كل مسارح العالم، وهذه الخلية المؤسسة لحياة المسرح هي: الاحتفال ولقد رافقني هم التأسيس ـ وإعادة التأسيس ـ عبر كل مسيرتي الفكرية والإبداعية، ولقد رأيت دائما أن الأمر يتطلب القيام بفعل مزدوج ومركب، أي أن نبدع المسرح أولا، نبدعه طقسا ونصا وإخراجا وفضاء، وأن نفكر بالمسرح وفي المسرح وبلغة المسرح ثانيا، وأن يكون هذا التفكير شيئا يسمى الإبداع المسرحي، هذا بالإضافة إلى إيجاد شيء آخر يسمى الفكر المسرحي، أو يسمى العلم المسرحي، أو يسمى الفقه المسرحي، أو يسمى التنظير المسرحي، والذي يمكن أن يرقي ليصبح في درجة الفلسفة.

واقتنعت أيضا، أنه لا يمكن تأسيس أي جديد من الفراغ، وذلك لأن كل وجود هو بالأساس تفكيك وتركيب، وهو إعادة تنظيم لشيء قديم، وآمنت بأن هذا الفعل التأسيسي لا يمكن أن ينوب عنا فيه الآخرون ليقيموه لنا، وذلك لأنه وجودنا، أو لأنه ظل وجودنا، أو لأنه عنوان وجودنا، وعليه، فإنه لا أحد يمكن أن يستعير وجوده إلا من ذاته ومن كينونته التي هي معطى وجودي، وإن هذا الوجود المسرحي الإضافي، هو الذي فكرت ـ فكرنا في تأسيسه دائما، أو في إعادة تأسيسه، وبهذا، فقد كانت من مهام الإنسان العربي دائما أن يتولى هذا الفعل الثقافي والحضاري، وأن يمارس المسرح الحق، وأن يؤسس المسرح الممكن، وأن يبدع الفكر المسرحي.
إن الأساس إذن، هو تأسيس الصناعة المسرحية أولا، أي تأسيس هذا المسرح المختلف والمخالف، وذلك انطلاقا من شروطه الذاتية والموضوعية معا، وانطلاقا من سياقاته التاريخية، وانطلاقا من خليته التي يحملها داخله، والتي هي أساس مولد كل مسارح العالم، وهذه الخلية المؤسسة لحياة المسرح هي: الاحتفال
ولقد رافقني هم التأسيس ـ وإعادة التأسيس ـ عبر كل مسيرتي الفكرية والإبداعية، ولقد رأيت دائما أن الأمر يتطلب القيام بفعل مزدوج ومركب، أي أن نبدع المسرح أولا، نبدعه طقسا ونصا وإخراجا وفضاء، وأن نفكر بالمسرح وفي المسرح وبلغة المسرح ثانيا، وأن يكون هذا التفكير شيئا يسمى الإبداع المسرحي، هذا بالإضافة إلى إيجاد شيء آخر يسمى الفكر المسرحي، أو يسمى العلم المسرحي، أو يسمى الفقه المسرحي، أو يسمى التنظير المسرحي، والذي يمكن أن يرقي ليصبح في درجة الفلسفة.

واقتنعت أيضا، أنه لا يمكن تأسيس أي جديد من الفراغ، وذلك لأن كل وجود هو بالأساس تفكيك وتركيب، وهو إعادة تنظيم لشيء قديم، وآمنت بأن هذا الفعل التأسيسي لا يمكن أن ينوب عنا فيه الآخرون ليقيموه لنا، وذلك لأنه وجودنا، أو لأنه ظل وجودنا، أو لأنه عنوان وجودنا، وعليه، فإنه لا أحد يمكن أن يستعير وجوده إلا من ذاته ومن كينونته التي هي معطى وجودي، وإن هذا الوجود المسرحي الإضافي، هو الذي فكرت ـ فكرنا في تأسيسه دائما، أو في إعادة تأسيسه، وبهذا، فقد كانت من مهام الإنسان العربي دائما أن يتولى هذا الفعل الثقافي والحضاري، وأن يمارس المسرح الحق، وأن يؤسس المسرح الممكن، وأن يبدع الفكر المسرحي….
ولكي يكون هذا المسرح حرا، حرية حقيقية، فقد كان من الضروري أن يكون المجتمع حرا أيضا، وبهذا قد كان دور هذا المسرح ـ المشروع أكبر وأخطر من أن يكون منحصرا في إنتاج الفرجة البصرية، والتي يمكن أن تنتج أحسن منها الكباريهات والمنتديات الليلية والقنوات التلفزيونية المتعددة، وذلك لأن الأساس هو إنتاج الحقيقة، وهو إنتاج المعرفة، وهو إنتاج الجمال، وهو إنتاج النظام، وهو تحرير الإرادة العامة في المجتمع، ولعل أخطر ما تقوله هذه الحقيقية، هو أن الإنسان حر أو لا يكون، مما يجعل مسرحنا مطالبا بأن يكون مسرحا ثوريا، لأن من طبيعة الحقيقة أنها ثورية دائما وأبدا، ولقد جاء هذا المسرح المشروع من أجل مراجعة كل الأعطاب والاختلالات، والتي هي أعطاب تتمثل في الفقر الفكري أولا، وفي البؤس الجمالي ثانيا، وفي النقص الحاد في الديمقراطية والحرية ثالثا، وفي التربية الجمالية رابعا، وفي الرصيد المعرفي والفكري والفلسفي خامسا، وفي الفن العالم سادسا، وفي المخيلة سابعا.

إن وجود مسرح ثوري، يحتاج بالأساس إلى تثوير المجتمع، ويحتاج إلى فكر ثوري، وهذا هو ما سعى إليه المسرح الاحتفالي دائما، سواء من خلال بياناته، أو من خلال كتبه النظرية، أو من خلال إبداعاته، أو من خلال مواقفه الجريئة والمخاطرة، والتي يتداخل فيها الاجتماعي مع السياسي، ويتحاور فيها الفكري مع الفني، ويتجاور فيها المنهجي مع التقني، ومن المقولات الأساسية في هذا الفكر الاحتفالي نجد التأكيد على ما يلي:

ــ على أن المسرح أساسا هو (التعبير الحر للإنسان الحر في المجتمع الحر)

ــ على أن هذا المسرح الاحتفالي يسعى إلى تحقيق (إنسانية الإنسان وحيوية الحياة ومدنية المدينة)
ــ على أن الأصل في الإبداع الحقيقي هو أن ينطلق دائما من النحن، ومن الآن، ومن الهنا، مما يدل على إن كل إبداع هو فعل إنساني وتاريخي وجغرافي، وعليه، فإن لا وجود لإبداع يمكن أن يتشكل في المطلق وفي الفراغ، وهو بالضرورة إبداعنا نحن ـ الآن ـ هنا، وعليه، فهو محكوم بأن يشبهنا وأن نشبهه، وأن يكون عنوان وجودنا، وعنوان عقلنا، وعنوان روحنا الخلاقة.

فقد اخترت أن تكون هذه المحطة علامة فارقة في تاريخ المسرح الاحتفالي، وأن تتوج بصدور بيانات ثلاثة في بيان واحد، وأن تكون تحت مسمى واحد هو: (بيانات عمان للاحتفالية المتجددة).

وتتشكل بنية هذه البيانات في إطار العناوين الأساسية التالية:

ــ في البدء كانت الفكرة.

ــ مدخل البيانات: لابد من البيان وإن طال الزمان.

ــ البيان الأول: بيان الاحتفالية المتجددة.

ــ البيان الثاني: بيان الاحتفالية ومعضلة النقد

ــ البيان الثالث: بيان ما معنى أن تكون احتفاليا..[7]

ويضيف برشيد :الاحتفال حياة وحرية الحياة ضرورات واختيارات، فماذا اخترت ؟ هذا هو السؤال الضمني الذي تواجهنا به الأيام والليالي كل ساعة وحين، وهي بهذا تشعرنا بأن فعل الاختيار ليس اختياريا، ولكنه إجباري، ولقد وجدنا من يقدم لهذا السؤال التحدي الإجابة التالية:

 ( اخترت الحياة يا ولدي.. فالحياة أحسن الاختيارات والموت أسوأ الضرورات )

هكذا تحدثت شخصية مسرحية في تلك المقامات البهلوانية التي تحمل توقيعي، وتحمل شيئا مني ومن طقسي ومناخي، وتقاسمني نفس أحلامي وأوهامي في عالم الناس والحجارة.

الاحتفال حياة وحيوية، هكذا عرفته وعشته، وهكذا عرفته دائما في كل كتاباتي النظرية والنقدية، أما شرطه الأساس، فإنه لا يمكن أن يكون إلا الحرية، فبهذه الحرية الخلاقة يكون، وبدونها لا يمكن أن يكون أبدا، ومنذ الكتابات الاحتفالية الأولى، تم التأكيد في الأدبيات الاحتفالية على هذا المعنى، والذي هو أن (الاحتفال هو التعبير الحر للإنسان الحر في المجتمع الحر) وبحثا عن هذه الحرية المتكاملة، في بعدها الذاتي وفي مستواها الموضوعي، فقد قال ذلك الاحتفالي كلمته التالية ( إنني أريد أن أكون مواطنا حرا، وذلك في وطن حر، وفي زمن يكون زمنا للحرية والانطلاق وللإبداع والخلق والاحتفال والتلاقي وللشعر والفكر والعلم والحكمة، وأن أجد نفسي مكرما مع المكرمين، وألا أجد نفسي مضطرا لأن أكون ضيفا على مائدة اللئام)
وأعرف أن الحرية بغير كرامة لا تكفي،وأومن بأن الحرية بدون مسئولية فوضى غير منظمة
وأرى أن الحرية بدون اختيارات عاقلة لا معنى لها، وأعتقد أن الحرية، بغير رشد نفسي وذهني ووجداني وروحي، ما هي إلا انتحار غير معلن. ثم إن هذه الحرية، إذا لم تساهم في تجميل الجميل وفي تجديد الجديد وفي إحقاق الحق وفي تعديل كفة العدالة، فإنها لن تكون إلا كلمة خادعة ومخادعة ومزيفة ومضللة، وهكذا هي اليوم في العالم الغربي والشرقي معا، أي مجرد كلمة للاستهلاك السياسي والإعلامي، وهي توظف توظيفا سيئا وميكيافيليا، وتوضع في غير موضعها، وفي غير مكانها وفي غير سياقها الحقيقي، وتصادفنا اليوم تماما كما صادفتنا بالأمس الأسئلة الجوهرية والحيوية التالية:

ما معنى هذه الحرية إذن، إذا كانت مدخلا لتدمير الذات؟ ذات الفرد وذات الجماعة معا؟
وأية قيمة يمكن أن تكون لها إذا كانت مرادفة لبيع الجسد الآدمي في سوق النخاسة الجديد؟ وأي معنى يمكن أن يكون لها، إذا كانت حرية لمصادرة العقل، ولاعتقاله بعقال المخدرات، وكانت حرية سلبية لممارسة الهروب والغياب؟

وهل يمكن لهذه الحرية في معناها الحقيقي أن تكون حرية حيوانية ووحشية، وأن تكون فعلا متوحشا في الغاب، وليس فعلا مدنيا وحضاريا مسئولا في المدينة الإنسانية؟

شيء مؤكد أن كل شذوذ يمكن أن يخرج عن ثوابت المؤسسات المدنية والحضارية لا يمكن أن يكون إلا فعلا وحشيا، وعليه، فقد كان المعنى الحقيقي للحرية يكمن فيما يلي:

أن تكون إنسانية أو لا تكون، أما حرية الحيوانات والوحوش فلا كلام عنها، وليس هذا السياق الجمالي والفكري والأخلاقي سياقها..

وعندما يضيق بنا هذا العالم المادي، يصبح من حقنا أن نهاجر إلى العوالم الافتراضية الأخرى، وأن نبحث مثل عبد السميع عن عالم أوسع وأرحب وأصدق وأجمل وأكمل، عالم ( لا يدركه الليل) والإنسان فيه خارج كل الضرورات والجبريات والجاذبيات المختلفة، وعليه فإنه ( لا تلحق به الشيخوخة والمرض والموت)
عالم ( لا فقر فيه ولا جوع ولا عذاب ولا ألم ولا اختناق ولا أعلى ولا أسفل) ومثل هذا العالم لا يمكن أن يصل إليه إلا من كان مثل عبد السميع ( له عيون طفل وأحلام طفل وقلب طفل) .

إن الأصل في الاحتفال أنه جزاء، وذلك لأن من حق الأحياء ومن حق المجتهدين ومن حق الناجحين ومن حق العاملين أن يحتفلوا، أما الأموات، فلا تجوز إلا الرحمة على أرواحهم، وأما الغائبون والنائمون والهاربون والمختبئون، فبأي شيء يحتفلون؟ ولماذا يحتفلون أصلا؟ ولعل هذا هو ما يبرر أن دعاة الكسل العقلي هم أول من حارب التنظير الاحتفالي، ولقد كانوا أول من خاصم هذه الاحتفالية المؤسسة والمجددة والمجتهدة، وكانوا أول من خاصم فيها صدقها ومصداقيتها، وحارب فيها جهادها واجتهادها، ومن الطبيعي أن يخاصم العدميون الوجود الموجود، وأن يحارب الظلاميون النار والنور، وأن يتضايق الكسالى من الاجتهاد ومن المجتهدين ومن الفعل والفاعلين.

إن الاحتفال لحظة استثنائية في فضاء الزمن الاستثنائي، لحظة مشرقة تعنى الرضا عن الذات أولا، وتعني المصالحة مع الآخر ثانيا، وتعني التوافق مع المحيط الاجتماعي ثالثا، وتعني التكيف مع المناخ الطبيعي رابعا، وتعني الإحساس بجماليات الوجود والموجودات خامسا.

ومثل هذا الرضا، في معناه الحقيقي، لا يمكن أن يكون إلا درجة من درجات العيش والحياة، درجة عليا في سلم الوجود بكل تأكيد، ويرى الاحتفاليون أنه لا يمكن أن يصل إلى هذه الدرجة إلا السائرون على الجمر، ولا يمكن أن يبلغها إلا المسافرون والراحلون والمهاجرون والمؤمنون الصادقون والمشاءون في دروب الحق والحرية، والسائرون في شعاب الجمال والكمال والحكمة والفضيلة، أما القاعدون أو المقعدون والقانعون بأحلام اليقظة، فإنهم لا يمكن أن يحققوا أي فتح، وعليه، فإنه ليس من حقهم أن يحتفلوا، أو أن يعيدوا..
وبحكم أن درجة هذا الاحتفال الصادق، لا يمكن أن تكون إلا درجة عالية وسامية، وبحكم أنها بعيدة وصعبة، وأنها شاقة ومكلفة، فقد كان الوصول إليها يحتاج وبالضرورة إلى جرعة مهمة من المخاطر، وفي هذا نتفق في ذلك الشيخ الحكيم الذي قال ( في المخاطرة شيء من النجاة ) وبقدر زيادة جرعة هذه المخاطرة، فإن فرص النجاة تكون أكبر أيضا، ويصبح من حق الناجين وحدهم أن يحتفلوا.. يحتفلوا بالحياة التي أخرجوها من دائرة الموت، ويحتفلوا بالعدل الذي حرروه من براثن الظلم والظالمين، ويحتفلوا بالنور الذي أخرجوه من جوف الظلمة والعتمة، ويحتفلوا بالغنى النفسي والذهني والروحي الذي حرروه من غول الفقر والبؤس.
إن الاحتفال وجود بين حدين متقابلين ومتكاملين دائما، أي بين حد الميلاد وحد الموت، فمن هذا الاحتفال الوجودي نبدأ إذن، وإليه ننتهي نهاية مؤقتة، وما هذه الحياة إلا سلسلة متماسكة ومترابطة من الاحتفالات الوجودية والاجتماعية والدينية والوطنية والكونية، احتفالات يتبع بعضها البعض، وهي تسير في خط دائري، تماما كما تدور الأيام والليالي، وكما تدور الكواكب السيارة في مداراتها، ففي ساعة المولد نحتفل بالحياة التي نستقبلها، وفي الموت نحتفل بالحياة التي نودعها، وفي إقامة الذكرى نحتفل بالحياة التي عشناها، وباللحظة التي نستعيدها وجدانيا.

إن من طبيعة الاحتفالي أن يكون مشاء، وأن يكون مسافرا دائما، وأن يعيش متنقلا بين الأمكنة والأزمنة، وبين الحالات والمقامات، وبين الأفكار والتصورات، وأن يكون هذا المشي السفر هروبا من شيء، أو بحثا عن شيء، ويبقى صديقنا (السندباد) برحلاته البحرية السبع، رمزا للبطل الاحتفالي الباحث دوما عن معنى ما لوجوده ولحياته، وإلى جانبه نجد شخصية الحلاج الصوفي، والذي هو بطل احتفالي بامتياز، وهما معا، السندباد والحلاج، لهما وجود في الكتابات الإبداعية الاحتفالية (سالف لونجة مثلا) ويتردد اسمهما كثيرا في الدراسات وفي الأبحاث وفي الحوارات الاحتفالية، وإذا كان السندباد يرحل خارج جسده، وكان يسافر في فضاء الزمان والمكان المحدد والمحدود جغرافيا، فإن الحلاج لا يرحل إلا داخل جسده المادي، وداخل نفسه وروحه، وفي هذا الداخل الروحي مسافات وأبعاد ومواقع كثيرة غير محدودة و لا محددة، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي  إن الموجود لا يهمني، وهو لا يرتقي إلى مستوى طموحي وتطلعي، وهو بالضرورة ( ضعيف في همتي كشعرة في مفرقي كما قال عمنا المتنبي.

وفي سفره يختار هذا الاحتفالي الطريق الصعب والشاق دائما، وهو بهذا يؤمن بالمثل الصيني ( أقصر الطرق أطولها) ولذلك فقد اختار أطول الطرق وأصعبها وأكثرها غموضا وخطرا.

[1]  ــ الاحتفالية : مواقف ومواقف مضادة (ص 44).

[2]  ــ د حسن المنيعي الملتقى المسرحي الثاني بأكادير ـــ تجربة النص المسرحي بالمغرب ــ جريدة أنوال 11 غشت 1990 ص 16 نقلا عن  ص 51

[3]  ــ الاحتفالية :  مواقف ومواقف مضادة ص  60 ــــ 61.

[4]  ــ نفسه ص 63.

[5]  ــ نفسه ص 120.

[6]  ــ نفسه ص 121.

[7]  ــ الندوة الفكرية الموسعة، والتي تدخل ضمن فعاليات الدورة الرابعة للمهرجان العربي للمسرح، والذي نظمته الهيئة العربية للمسرح بالشارقة، بتعاون مع نقابة الفنانين الأردنيين. مداخلة الكاتب المسرحي المغربي عبد الكريم برشيد في مهرجان عمان المسرحي.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى