مفكير يكتب: “وأما بنعمة ربك فحدث”
فإن أكبر نعمة من الله بها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة للعالمين، والذي أوجب الله محبته ونصرة وطاعته والاقتداء به، والسير على نهجه وإحياء سنته. ونحن إذ نعيش هذه الأيام ذكرى مولده علينا استحضار سيرته العطرة للتأسي والاتباع رجاء في شفاعته وطاعة لربنا قال تعالى ” أطيعوا الله وأطيعوا الرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ” وقرن سبحانه وتعالى طاعته بطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: “مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ” وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم تتجلى في التزام سنته والتسليم لما جاء به. وما يقال عن طاعته صلى الله عليه وسلم يقال عن اتباعه، فالاقتداء يكون بالاتباع والامتثال للسنة الشريفة، والاهتداء بهديه صلى الله عليه وسلم. وقد أوجب الله تعالى اتباع سنة نبيه، فقال تعالى: “فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِىِّ ٱلْأُمِّىِّ ٱلَّذِى يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَٰتِهِۦ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ” وجعل سبحانه وتعالى اتباع نبيه سبب لنيل محبة الله تعالى “قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ”.
وإذا كانت وظيفته عليه السلام الشهادة والبشارة والنذارة والدعوة ” إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا” فإن وظيفتنا الإيمان والاتباع والمحبة والاقتداء والطاعة” لتومنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا”.
لقد اتصف نبينا عليه السلام بصفات الكمال البشري، وهو خير قدوة لنا، أثنى الله تعالى عليه في القرآن الكريم، وزكى أخلاقه صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: “وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ” وزكى دعوته صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: “وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ”. وقال تعالى: “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا”.
ونبينا عليه السلام قدوتنا في كل شيء، وجواب على سؤالكم المتعلق بالخصال والأعمال النبوية التي يمكن أن نستعين بها من أجل مجتمع متعاون ومتماسك ومتضامن، أؤكد أن نبي الرحمة عنوان لمجتمع السلم والمحبة والتعاون والتمساك والرحمة. فهو الرسول الإنسان الحريص على بناء الإنسان والعمران شهد له الأعداء قبل المحبين والأتباع بالإنسانية الفائقة، وكان مثلاً أعلى في الدعوة إلى التكافل الاجتماعي، وتحقيق التضامن الإنساني بين الأغنياء والفقراء، ليعيش الجميع في كرامة وأمان وسلام، وينعم المجتمع بالاستقرار بعيدا عن الحقد الطبقي والصراعات بين المترفين والمعدمين.
لقد جسد النبي عليه السلام أسس التعاون والتضامن قبل البعثة من خلال مساهمته في بناء الكعبة ورعيه الغنم على قراريط والتجارة في مال خديجة بنت خويلد ومساعدته لعمه في أمور تجارته، وكان نعم الموجه بعد البعثة إلى ترسيخ معاني الألفة والمحبة والتعاون والتضامن قولا وعملا، وكانت وما زالت توجيهاته النيرة تظلل المجتمع المسلم بشبكة تكافلية ومظلة اجتماعية إنسانية تحقق المؤاخاة الإنسانية الحقة بين الغني والفقير، وتجعل المسلمين يكفل بعضهم بعضا، ويوفر قادرهم احتياجات غير القادر منهم، وتنشط هيئات المجتمع المدني لتوفير احتياجات المحتاجين، وتكاد جهودها تمثل مظلة تغطي كل جوانب الاحتياج للمحتاجين. هذه الجهود التكافلية النابعة من توجيهات ووصايا رسولنا العظيم صلى الله عليه وسلم تضفي على الحياة صورة طيبة من التكافل بين الناس، وهي جهود دائمة ومتنوعة وتحفظ للمحتاج كرامته، وتضمن له حياة مستقرة بعيداً عن الامتهان الذي يعانيه كثير من أصحاب الحاجات في مجتمعاتنا اليوم نتيجة تجاهل وصايا الرسول وتوجيهاته القويمة.
وقد جمع عليه السلام صور التكافل الاجتماعي في الإسلام قوله ” لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، والمسلم لا يحب لنفسه ماديات الحياة فحسب، وإنما يحب لها أيضاً الحرية والكرامة والعلم والعزة، وكل ما تتحقق به سعادة الإنسان، وعليه فإن الإسلام يعرف من التكافل الاجتماعي أنواعا كثيرة، منها ما هو أدبي، ومنها ما هو علمي، ومنها ما هو أخلاقي، ومنها ما هو اقتصادي، ومنها ما هو إنساني، ومنها ما هو معيشي.. إلى غير ذلك من مجالات الحياة المختلفة.
ومن هنا كانت مؤسسة الزكاة والصدقات للاهتمام بذوي الحاجات من الفقراء والمعدومين والغارمين يقول الحق سبحانه: “خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم”، ولعل من آثار الزكاة الاجتماعية والاقتصادية تماسك المجتمع وصلابة بنائه، وقدرته على الصمود أمام التحديات الداخلية والخارجية، ونزع عوامل الحقد والحسد والخوف والكراهية من نفوس الفقراء وتفرغهم للعمل والإنتاج، ونزع مشاعر الخوف لدى الأغنياء من المحتاجين الفقراء، ومن ثم يأمن الأغنياء على أموالهم وأنفسهم، وتتاح الفرصة أمامهم لتوسعة مشروعاتهم وتنمية أموالهم، ومن ثم بناء التنمية وتحقيق التقدم ورفع مستوى معيشة الناس. وشعور الفقراء بمسؤولية الأغنياء والمجتمع عنهم، يجعلهم يخلصون في أداء أعمالهم، ويتحملون التبعات التي تلقى عليهم بروح عالية ونفوس مطمئنة.. وكل هذا يؤدي إلى استقرار الأوضاع الاجتماعية، وشعور الجميع بالرضا والسعادة.
وحث عليه السلام على إطعام الطعام “يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام”.. كما قال عليه الصلاة والسلام: “إن أسرع صدقة إلى السماء أن يصنع الرجل طعاماً طيباً ثم يدعو عليه ناساً من إخوانه”. وجعل صلى الله عليه وسلم إطعام الطعام صفة الأخيار فقال:”خياركم من أطعم الطعام”، واعتبره من خير أعمال الإسلام فقال: «ما من عمل أفضل من إشباع كبد جائع» بل هو خير الإسلام لما روى أن رجلاً سأل النبي العظيم: (أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)، ولذا كان إطعام الطعام من أحب الأعمال إلى الله عز وجل حيث جاء رجل إليه عليه الصلاة والسلام وقال: (يا رسول الله، أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال: أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله، سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربه أو تقضي عنه ديناً أو تطرد عنه جوعاً). وأيضا سن القرض الحسن وجعل فعله بمثابة الصدقة فقال عليه الصلاة والسلام: (كل قرض صدقة)، بل إن ثواب القرض أكبر من ثواب الصدقة، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (رأيت ليلة أسرى بي على باب الجنة مكتوباً الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر» فسألت جبريل: ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ فأجابني: لأن السائل يسأل وعنده والمقترض لا يقترض إلا من حاجة). ويأتي قوله صلى الله عليه وسلم: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على مسلم يسر الله عليه)، ليؤكد مدى حرص الرسول عليه الصلاة والسلام على تحقيق التكافل الاجتماعي والإنساني بين المسلمين غنيهم وفقيرهم.
وحث نبينا عليه السلام على التعاون، وشبَّه المؤمنين في اتِّحادهم وتعاونهم بالجسد الواحد، فقال: مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمَّى” وقال صلى الله عليه وسلم” المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا” وقال صلى الله عليه وسلم” يد الله مع الجماعة ” وحثَّ على معونة الخدم ومساعدتهم، فقال: (ولا تكلِّفوهم ما يغلبهم، فإن كلَّفتموهم فأعينوهم).
إن من شأن تمثل هذه التوجيهات النبوية، انتشار المحبة والألفة بين جميع أفراد المجتمع الواحد، والتخلص من البغضاء والضغينة التي قد تسود في المجتمع. قضاء جميع الحاجات الأساسية في المجتمع، دون وجود أي نقص في هذه الحاجات، فيوجد في كل مجتمع الطبيب والمحامي والمهندس
والمعلم وغيرها من التخصصات، التي يقوم بها كل فرد، ويكمل بها دور الأفراد الآخرين. المساهمة في بناء وتطوير وازدهار المجتمع، وذلك لأن جميع أفراده تكون غايتهم تقديم التعاون فيما بينهم في إنجاز جميع المهمات التي يقومون بها. يجعل الأفراد أقرب من بعضهم البعض، فعندما يبادر أي فرد في تقديم العون للغير، تكون فرصة متاحة للتعرف عليه، ومعرفة تفاصيل حياته، فهذه الطريقة مفيدة في تقوية العلاقات الاجتماعية بين جميع الأفراد، والتعرف على عادتهم وتقاليدهم والالتزام بها. يشعر الفرد بالراحة والطمأنينة في نفسه، والشعور بثقة عالية عندما يقدم لغيره المساعدة والتعاون، واستشعاره بأنه فرد فعال وذو أهمية كبيرة في المجتمع الذي يعيش فيه، مما يتكون دافع داخله بالرغبة في تقديم المزيد من المساعدة والعون للآخرين، والقضاء والتخلص من أي نزاع أو تعصب في داخل المجتمع، لأن التعاون يوحد جميع الأفراد ويزيل العقبات والخلافات بينهم. وتحقيق محبّة الله تعالى لعباده: إنّ الله تعالى هو القادر المتصرّف في الكون، وكلّ ما يجري بإرادته، فهو الذي سخرّ الإنسان لإعانة أخاه ومساعدته، فإنّ أعظم أثرٍ ونجاحٍ يمكن للعبد أن يجنيه من خلال تعاونه؛ هو محبّة الله -تعالى- له، والحصول على رضوان الله ومعيّته، والله -تعالى- سييّسر أمور العبد، ويفرّج كربه، ما دام العبد يعين أخاه ويساعده.
ذ. عبد الرحيم بن بوشعيب مفكير