ليلة القدر.. ليلة العفو والمحبة والسلام
نعيش في هذه الأيام، نفحات مباركة من ايام العشر الأواخر من شهر مرضان المبارك، وفيها ليلة القدر، وهي ليلة مباركة خير من ألف شهر، ليلة أُنزل فيها القرآن، وتتنزل فيها الملائكة الكرام، ليلة من قامها إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه، ولا يُحرَم خيرها إلا محروم، وهي ليلة القرآن، وليلة القيام، وليلة الدعاء، وليلة الذكر والاستغفار.
وهي كذلك ليلة العفو والصفح، وليلة المحبة والإخاء، وليلة لتطهير القلوب من الغل والحقد والحسد والكراهية والبغضاء، وفي الحديث عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَت: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي، فهي ليلة يتفضل فيها الله على عباده بالعفو والمسامحة والغفران، فمن رغب في نيل عفو الله في هذه الليلة، فليتجمل وليتخلَّق بخُلق العفو والصفح، وليسامح لوجه الله عز وجل، فليلة القدر لن ينتفع بها إلا ذو قلب سليم.
إن القطيعة بين الناس والمخاصمة حرَمت المسلمين من العلم بليلة القدر، فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَال: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ”، كما أنها تحرم العبد قَبول أعماله، ونيل عفو الله ومغفرته، ففي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا”.
ولهذا أمر سبحانه وتعالى بالصلح بين المتخاصمين وحث عليه، فقال تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾ [الأنفال: 1][12]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾ [الحجرات: 10]، فالسعي في الإصلاح بين المتخاصمين تجارة رابحة، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه من أفضل الأعمال والقربات، فعن أنس أن النبي صلى الله عليه وَسلم قال لأبي أيوبَ: “أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى تِجَارَةٍ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: صِلْ بَيْنَ النَّاسِ إِذَا تَفَاسَدُوا، وَقَرِّبْ بَيْنَهُمْ إِذَا تَبَاعَدُوا[13]، وإنما أمر الشرع بالصلح والإصلاح بين المتخاصمين؛ لأن الأخوة والمحبة من أعظم المقاصد التي من أجلها شرع الدين؛ قال تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103].
وقد وصف الله تعالى حال الأولين من المؤمنين فقال: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10]، ولهذا شبه صلى الله عليه وسلم حال أفراد الأمة بالجسد الواحد، فعن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى).
ومن أعظم الأمور المنهي عنها في هذا المقام، النميمة، وهي نقل الكلام بين الناس بغرض الإفساد، وهي من أقبح القبائح لما فيها من مفاسد عظيمة، ومنها: إفساد العلاقة بين الناس والسعي للإضرار بهم، ولهذا استحق النمام أن يكون من شرار الخلق لا من خيارهم؛ فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “خِيَارُ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ اللَّهُ، وَشِرَارُ عِبَادِ اللَّهِ الْمَشَّاؤُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ”.
ولهذا علينا أن نجعل ليلة القدر ليلة للمحبة والأخوة والتراحم وصلة الأرحام، وليلة سلام وحب ووئام.
الإصلاح