الإفتقار إلى الله
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعود بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، واشهد أن محمدا عبده ورسوله عليه الصلاة والسلام.
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك عبد وإياك نستعين، فالعبد مفتقر دوما للتوكل على الله والاستعانة به كما هو مفتقر إلى عبادته فلابد أن يشهد دائما فقره إلى الله وحاجته في أن يكون معبودا لله وان يكون معينا له فلا حول ولا قوة إلا بالله ولا ملجأ إلى اله إلا إليه.
فالمؤمن محتاج إلى الله من جهة أنه ربه ومن جهة أنه إلهه، إياك نعبد وإياك نستعين، فلا بد للعبد أن يكون عابدا لله ولا بد أن يكون مستيقنا به ولهذا كان فرضا على كل مسلم أن يقول إياك نعبد وإياك نستعين في كل صلواته وألا يغفل عن معاني هذا التوجه لكيلا يصيبه ما يصيب الغافلين من ذبول وموات لشجرة الإيمان، لأننا جميعا مفتقرون إلى الله سبحانه وتعالى في وجودنا، مفتقرون إلى الله سبحانه وتعالى في استمرار هذا الوجود، وفي إمداداتنا وفي حاجاتنا وفي قيامنا وفي قعودنا وفي سمعنا وفي بصرنا وعقولنا، ولا شك أن موضوع الافتقار إلى الله سبحانه وتعالى نحتاج أن نذكر به ونتواصى به، ويحتاج إلى مستوى عال من اليقظة والانتباه حتى لا نغفل عنه التي بطبيعتها تستدعي الافتقار إلى الله وطلب الاستعانة منه، وهناك حالات أخرى قد يغفل عنها الإنسان وقد يدخل عليه من باب الاستغناء أو يعتقد أنه يمكن أن يستغني عن طلب العون من الله، وهذا في خضم أعمالنا اليومية ونجاحاتنا وفشلنا في بعض الأحيان نحتاج إلى أن نتواصى به وانتبهوا معي إلى أننا في الصلوات الخمس وكلما قرانا سورة الفاتحة يكون هذا التوجيه “إياك نعبد وإياك نستعين” دليل على أن طلب الاستعانة من الله تعالى في جميع الأحوال.
ولعل محطات الصلاة هي محطات للتذكير بأن فيما بين الصلوات يجب ان يكون حاضر هذه المرتبة ألا وهي الافتقار إلى الله وطلب العون منه سبحانه، والاعتقاد بأن كل ما ينجزه الإنسان قبل أن يقوم به وأثناء القيام به وبعد النجاح في إنجازه كله رهين بطلب العون والتأييد من الله سبحانه وتعالى.
فإن من أخص خصائص العبودية الافتقار المطلق لله سبحانه وتعالى فهو حقيقة العبودية ولُبُها قال تعالى “يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد”، وقال الله تعالى في قصة موسى عليه السلام “قال رب إني لما انزل إلي من خير فقير”، فالافتقار إلى الله تعالى أن يجرد العبد نفسه وقلبه من كل حظوظها، ومن كل أهوائها ويقبل بكليته إلى ربه عز وجل متذللا ين يديه مستسلما لأمره ونهيه متعلقا قلبه بمحبته وطاعته ويتحقق هذا الإحساس وهذه المرتبة، هذه الحالة التي يجب أن نكون في أعلى مستويات اليقظة لاستحضارها في جميع أحوالنا يتعلق هذا الأمر بأمرين اثنين : أولا إدراك عظمة الله وجبروته، والثاني الإحساس بضعف الإنسان وعجزه، وهما معا يحتاج الإنسان في كل لحظة وفي كل أعماله وفيما بينه وبين نفسه أن يستحضر عظمة الله وفي المقابل عجزه مهما كانت قوته ونجاحاته وإنجازاته لكي يضمن هاته اليقظة وهذه الاستمرارية وهذه الاستدامة في استحضار حالة الافتقار لله تعالى لكي يتحقق إياك نعبد وإياك نستعين.
فكلما كان العبد أعلم بالله تعالى وبصفاته وأسمائه كان أعظم افتقارا إليه وأعظم تذللا بين يديه، قال تعالى “إنما يخشى الله من عباده العلماء”، أما الشق الثاني فهو إدراك ضعف المخلوق والإحساس بعجزه أمام عظمة الله سبحانه وتعالى، فمن عرف قدر نفسه وأنه مهما بلغ من الجاه والسلطان والمال فهو عاجز ضعيف لا يملك لنفسه صرفا ولا عدلا تصاغرت نفسه وذهبت كبريائه وذلت جوانحه وعظم افتقاره لمولاه والتجاءه إليه وتضرعه بين يديه، قال عز وجل “فلينظر الإنسان مما خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب إنه لرجعه لقادر يوم تبلى السرائر فما له من قوة ولا ناصح”، والتذكير والتواصي بحالة ومرتبة الافتقار إلى الله سبحانه وتعالى نحتاجه كأفراد ودعني أقول نحتاجه كذلك كمؤسسة وكتنظيم وهيئات ومنظمات، فالافتقار الحقيقي إلى الله سبحانه وتعالى هو الافتقار المستدام على جميع الأحوال وهذا أمر غير متيسر بل تأتي الغفلة وتأتي حالات أخرى قد تنسي وقد يغفل عن هاته الحالة :
فأولى الحالات التي يجب أن نستحضرها وهي أن يرى الإنسان النعم وهي موجودة لا حينما يفتقدها وهنا نفتقر إلى الله سبحانه وتعال في دوام نعمه الجارية، نعم كالبصر والحركة يقوم الإنسان بها ومع الايام يصبح لا يلتفت إليها على أنها عطاء ومنة من الله سبحانه وتعالى وعليه أن يخشى زوالها وأن يخشى أن يتغير هذا الحال فهو محتاج لكي يضمن استمرار هاته النعمة أن يطلب من الله تعالى ولو أنها جارية، دوام هذه النعمة وأن يخشى وأن يتعوذ من زوال النعمة، وهذه الحالة يحصل فيها الغفلة ولا يتوجه إليها الإنسان فعلينا في كل صلاة ونحن نقول إياك نعبد وإياك نستعين أن نشكره على هاته النعم الجارية.
الحالة الثانية حينما يكون الإنسان في حالة ضيق وكربة وتضييق ومعاناة وأزمة لا شك أن هنا حالة الافتقار إلى الله تكون في أعلى مستوياتها لأن من طبيعة الإنسان عند الشدة وعند الكربات وعند الضيق يلجا المؤمن إلى الله لكي يفرج كربته .
الحالة الثالثة في الحالة الاستعداد للقيام بعمل ما والرغبة في النجاح فيه وهنا ثلاث حالات :
إما أنه يعد الأسباب كلها ويستعد الاستعداد الحسن ويلجأ إلى الله سبحانه وتعالى ويطلب منه الاستعانة والعون.
وإما أنه يغيب الأسباب ويعتمد فقط على طلب العون.
وإما أنه يجمع بينهما أي الاستعداد الكامل وإعداد كل السنن المساهمة في إنجاح العمل معه ذلك وقبله وأثناءه يطلب العون من الله، وهاته حالة أتمنى مع العمل اليومي وخاصة نحن كمؤسسات مع البرامج والمخططات وإعداد المؤشرات ألا نغفل أن هذا لا بد أن يكون بشكل جيد أن نحسن وأن نتقن في هذا الإعداد ولكن ألا ينسينا هذا الإعداد عنصر أساسي وهو طلب العون من الله سبحانه وتعالى بالتأييد والاستعانة والإحساس بالافتقار إليه في كل هاته الأعمال كأشخاص وكمنظمات.
الحالة الرابعة هي بعد إنجاز العمل والنجاح فيه وهنا يكون الإنسان لديه هدف يطلب الله تعالى أن ينجح فيه فحينما يحققه قد يغفل على أن هذا النجاح يحتاج إلى استمرارية وعلى شكر الله سبحانه وتعالى ويحتاج الى استزادة واضطراد وهنا تستدعي حالة الافتقار إلى الله تعالى فيدخل هذا النجاح في حالة النعم المتوفرة الجارية كذلك، حينما ينجح الإنسان وينجز عملا من الأعمال عليه أن يستحضر هذا الآمر وأن يطلب من الله سبحانه وتعالى العون وألا يصاب بالغرور وألا يعتقد في الاستغناء فالمؤمن الصادق يشهد فضل الله عليه في كل أعماله، وغير المؤمن شعاره “إنما أوتيته على علم من عندي”، وهذا منزلق، حتى ولم يقلها وغفل على أن هذا العمل وهذا النجاح وهذا الإنجاز هو منة من الله سبحانه وتعالى فقد يغيب عنه حالة الافتقار وحالة الاحتياج إلى الله سبحانه وتعالى في الأحوال كلها.
فالافتقار إلى الله عز وجل وفي التوفيق إلى الأعمال الصالحة وهو الافتقار إليه في أمر الهداية وعدم حصول العجب، فالعاملون في سبيل الله قد يمتدحون بالجهاد وبالكرم وبالدعوة وبأنواع المدائح الشرعية فالعبد المؤمن مفتقر إلى الله سبحانه وتعالى في عبادته ويعرف أن منازله التي يحصلها والعبادات التي يوفق لها هي محض توفيقه عز وجل ومنة منه تعالى، فيفتقر إلى الله للهداية لذلك يقول بعد إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم، فهو يشهد نعمة الله عليه وعلى غيره ويسأله الهداية ليل نهار ويعلم أن التوفيق من عند الله تعالى وانه لا يثبت على الخير لنفسه بل يثبته الله عز وجل ومقلب القلوب ومصرف القلوب سبحانه وتعالى، فهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا في أمر الدين كما لا يملكه في أمر الدنيا.
وقد قسم مجموعة من العلماء ووضعوا علامات مرتبة الافتقار إلى الله تعالى منهم ابن القيم وبعض المعاصرين سأتطرق لواحدة منها وهي الوجل والخوف من عدم قبول العمل، فها أنت حضرت عملك ويسر الله فيه ولكن من حالة الافتقار هو حينما تضع هذا العمل هل هو مقبول أم غير مقبول فتلجأ إلى الله سبحانه وتعالى وتستعين به لكي يكون مقبولا، فمع شدة إقبال العبد على الطاعات والتقرب إلى الله بأنواع القربات إلا انه مشفق على نفسه أشد الإشفاق يخشى أن يحرم من القبول، فعن عائشة رضي الله عنها قالت سألت رسول الله عليه الصلاة والسلام عن هذه الآية : “والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة ” أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال لا يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات، على الرغم من حرصهم على أداء هذه العبادات الجليلات فإنهم لا يركنون إلى جهدهم ولا يدنون بها على ربهم بل يزدرون أعمالهم ويظهرون الافتقار التام لعفو الله ورحمته، وتمتلأ قلوبهم مهابة ووجلا يخشون أن ترد أعمالهم عليهم، وأقول هذا الكلام على عموم المؤمنين وعلى الذين يستحضرون الافتقار إلى الله تعالى وفي الغالب يكون هذا الكلام عل كل فرد فرد، فأتمنى هذا الحسا وهذا التذكير وهذا التواصي أن يكون على المؤسسة بأكملها، لأنه يمكن أن يعيش التنظيم حالة من الغرور أو حالة من الغفلة عن احتياجه وافتقاره لطلب العون من الله ، حتى عندما لا ينجز عمل من الأعمال نبحث عن الأسباب في الإعداد والسنن ولكن هل نستحضر ما هي الأسباب الأخرى هل كان حاضرا ذلك الإحساس وطلب العون والتأييد كأفراد أثناء الصلاة والدعاء، ويكون نفسا عاما في خطابنا في كلامنا وفي احتياجاتنا للافتقار إلى الله سبحانه وتعالى الذي يحمي من حالة الاستعلاء والغرور، وأن الذي أنجزه التنظيم الفلاني أو الجماعة فمن شطارة أبنائها ومن تصورها وهذا له نصيبه، ولكن ألا ينسينا الشق الآخر وهو الإحساس بالتوفيق الرباني والإحساس بالافتقار إلى الله سبحانه وتعالى في جميع الحالات.
إن قبول الأعمال إنما هو فضل من الله ورحمة منه ومنة، ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام : “والله لا ادري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم”، فإن كان هذا حال سيد ولد آدم عليه أفضل الصلاة والسلام فكيف بغيره من الناس، فالمؤمن ينسب ما به من نعمة وما عنده من طاعة إلى ربه ومولاه عز وجل فلله الفضل والمنة ولا يزعم أن ذلك من حوله وكده.
ومن علامات كذلك الإحساس بالافتقار هو أن العبد لا يؤمن على نفسه الفتنة فكما أن زوال النعم الجارية من بصر وسمع وصحة وعافية يخاف أن تزول فعليه أن يحس بالافتقار إلى الله، كذلك عليه أن يخشى من حالة الانقلاب الحال ويسقط في الفتنة، فالعبد لا يؤمن على نفسه الفتنة، فقد ثبت في الحديث الصحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال “إن قلوب بني آدم كلها بني أصبعين من أصابع الرحمان كقلب واحد يصرفه حيث يشاء”، فالعبد مهما بلغت منزلته لا يؤمن عل نفسه الفتنة، ويخشى أن تجرفه رياح الأهواء والفتن، ولهذا كان من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام (اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك)، ومن أجل ذلك نحتاج إلى مداومة الذكر والاستغفار فالعبد يجتهد في إظهار فاقته وحاجته وعجزه ويمتلأ قلبه مسكنة وإخباتا ويرفع يديه تذللا وإنابة فهو ذاكر لله تعالى في كل شأنه في حضره وسفره وفي دخوله وخروجه، وفي أكله ومشربه، ومن يطلع على أذكار اليوم والليلة يجد أحد مقاصدها أن يبقى استحضار الحاجة والافتقار إلى الله تعالى في كل هاته الأحوال، ولا يغفل ساعة ولا ادني من ذلك على الاستعانة به والالتجاء إليه ومقتضى ذلك أنه لا يركن إلى نفسه ولا يطمئن إلى حوله وقوته ولا يثق بماله وجاهه، وصحته ونجاحاته وعطائه، بل على العكس من ذلك يحس على الدوام أنه في حاجة وافتقار إلى تأييد الله سبحانه وتعالى في كل الأحوال، وأن يكثر من الدعاء (اللهم أعن على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).
نسأل الله تعالى ألا نغفل عن هاته المرتبة وعن حالة الافتقار إلى الله سبحانه وتعالى والتي كما قلت نحتاجها لشكره على النعم الجارية، ونحتاجها عند الكرب والضيق، ونحتاجها عند الإعداد للأعمال، ونحتاجها بعد الإنجاز والنجاح كي تحمينا من حالة الغرور، وأن نحس دائما بمنة الله تعالى علينا لكي نستفيد ونستمر في استفادة من عطاءاته سبحانه وتعالى والحمد لله رب العالمين.
المهندس محمد الحمداوي / سلسلة تبصرة