البقالي: للإقبال على الكتاب لا بد من الاهتمام بحلقات الإنتاج المعرفي والتنشئة الأسرية والمدرسية

لطالما جسدت الكتب القدرة البشرية على استحضار عوالم حقيقية ومتخيلة على حد سواء، مما يعطي صوتًا لتنوع التجارب البشرية. إنها تساعدنا على مشاركة الأفكار والحصول على المعلومات وإثارة الإعجاب بالثقافات المختلفة ، مما يتيح أشكالا بعيدة المدى من الحوار بين الناس عبر المكان والزمان.

وفي الواقع، تعد الكتب أدوات حيوية للوصول إلى التعليم والعلوم والثقافة والمعلومات في جميع أنحاء العالم ونقلها وتعزيزها.

وبمناسبة اليوم العالمي للكتاب والمؤلف والذي يحتفي به العالم في 23 أبريل من كل سنة، يؤكد الأستاذ فيصل أمين البقالي؛ الشاعر والمسؤول السابق لقسم الإنتاج العلمي والفكري للحركة، أن تاريخ حركة التوحيد والإصلاح وتاريخ روافدها يشهدان – بما ليس هذا مجال بسطه- على الاهتمام الكبير بما هو فكري وما هو معرفي، حيث جعلت وُكْدَها قضية تجديد الدين وتجويد التدين بأفق حضاري يتداخل مع مجالات اجتماعية مختلفة، حتى صار هذا الاهتمام ملمحا لها ولرجالاتها الذين نبغ منهم في هذا الباب ثلة تعتبر شامَةً بين رجالات الفكر والعلم والثقافة على مستوى العالمين العربي والإسلامي؛ ولذلك لو شاء الإخوان أن يضعوا صورة الكتاب لهم شعارا لما كانوا في ذلك مخطئين، ولو اعتبرنا الاهتمام بالمعرفة والثقافة خصيصة منهجية لحركة التوحيد والإصلاح لما كنا مبالغين. ثم إن النسخة الجديدة لميثاق حركة التوحيد والإصلاح (وهو كتاب أولت الحركة لمراجعة جوانب من رؤيته، ولتجديد بنيته وأسلوبه وبعض طرائق تناوله اهتماما استغرقها ما نيّف على الثلاث سنوات) يعطي للمجال العلمي والفكري قيمة كبيرة ويضعه ضمن مجالات اشتغال الحركة الرئيسة. ولذلك تحرص الحركة في شخص قسمها المركزي للإنتاج العلمي والفكري، وفي مجلس شوراها -الذي يعقد ندوات فكرية سنوية تناقض مجموعة من القضايا الفكرية والمعرفية ذات الراهنية الإصلاحية- وفي إطار شراكات تعقدها مع مراكز بحثية مختلفة، على إخراج الكتاب القاصد النوعي المفيد ما أمكنها السبيل إلى ذلك، محتشدة بما يتيسر لها من ميزانية وسائل، وإن كنا نعترف بأنها تبقى دون ما نطمح إليه، ودون حجم التطلعات التي يقتضيها مشروع الحركة الإصلاحي. ولكن الأمل في الله لا ينقطع، والله ولي التوفيق.

وفيما يتعلق بـ“الكتاب الورقي”، أشار البقالي إلى أنه تضرر في عالمنا العربي تأليفا ونشرا وتوزيعا وتسويقا بشكل واضح وكبير؛ وهو أمر تشتكي منه دور النشر الكبيرة بله الصغيرة، إذ زاد علةً على علَلِه المركَّبة والمتراكِبَة والمتراكِمَة. ذلك أن سلسلة الإنتاج في عالمنا العربي الواهيةِ حلقاتُها من “المنتِج”إلى “القارئ”مرورا بـ”الناشر”فـ”البائع”، هي سلسلة متضررة أصلا، وتشكو من ضعف الوساطة والتسويق الثقافي، ابتداء من ضعف النشاط النقدي الذي يفيد من خلال آليتي النخل والتقويم، ثم التعريف والتقريب، ومرورا بالإعلام الثقافي والمعرفي الذي يمكن أن يلعب دورا عظيما في إشاعة الكتاب وتعريف الناس به، إذ يقتصر غالبا على فعالية موسمية أصابتها الجائحة في مقتل عظبم، وانتهاء بالقارئ العربي الذي يبقى خارج الترتيب إذا ما قيس بغيره من القراء في البلدان التي تعرف صناعة معرفية حقيقية؛ هذا دون الحديث عن البنية القانونية والحكامية في مجال النشر والتوزيع التي تجعل الملكيات الفكرية بدون حماية تقريبا، وعن الكُتّاب والمؤلفين والباحثين الذين تكاد تكون حقوقهم معدومة، ماليا وأدبيا؛ فلا يستطيع الكاتب العربي أن يكون مطمئنا إلى أن كتابه “الناجح” على مستوى المبيعات قد أعيد طبعُه أم لا، ولا يستطيع الناشر العربي “المحترم” أن يحمي استثماره في كتاب أو كاتب أو مترجم من غائلة النسخ والسلخ والمسخ (بتعبير نقادنا الأوائل)، هذا دون الحديث عن الرقمنة التي ما تزال سؤالا محرجا في العالم كله من الناحية التجارية والقانونية والأدبية والأخلاقية.

وعن أهمية استثمار شهر رمضان في القراءة، ذكَّر بعادة أهل العلم في هذا الشهر الكريم من كثرة التحلق على موائد العلم تدبرا ومدارسةً أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي صحَّ عنه أن جبريل عليه السلام كان يأتيه في رمضان فيدارسه القرآن.. وفي رمضان تتخفف النفوس من مطالب الحياة اليومية وشهواتها فتكون أليق بأن تسمو في معارج الروح ومدارج الفكر.. ناهيك على أنه موسم قراءة الكتاب العزيز تلاوة وتدبرا ومدارسة وتفسيرا .. ومن عادة كثير من البلدان الإسلامية قراءة كتب أخرى معروفة ككتب السنة والسيرة، والمغارية يعنون فيه إلى جانب القرآن بالجامع الصحيح للإمام البخاري ولو سردا على سبيل التبرك، وإلا فإن كثيرا من حِلَق العلم تُعقَدُ لدراسته والتعرف على رجاله والاجتهاد في تلقي ما به من كنوز السنة والسيرة والعلم النبوي النافع.. وقد نشأنا مع جيل الصحوة الإسلامية الذي درج على أن يجعل من شهر رمضان الكريم شهر المناشط الثقافية والعلمية والفكرية، ومعارض الكتاب، ومناصرة قضايا الأمة.. وقد رأيت من الشيوخ الأفاضل من كانت لهم عادة بديعة إذ يسردون مع أهل بيتهم مجموعة من الكتب المختارة من القديم والحديث، فيطيب لهم سرد الشفا للقاضي عياض، ويراجعون كتب الصوم في مدونات السنة والفقه، كالصحيحين والكتب الستة، وفي موطإ الإمام مالك رضي الله عنه، وفي شروح الشيخ خليل، وشروح متن ابن عاشر؛ وفي المعاصر يقرأون فقه السيرة للغزالي والبوطي، كتاب السيرة للغضبان المعنون بالمنهج الحركي للسيرة النبوية، ويقرأون الظلال لسيد قطب ويقرأون للقرضاوي وغير هؤلاء من كتّاب الصحوة الإسلامية المباركة.

ونصح بقراءة -أو إعادة قراءة- كتاب “هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس” لماجد عرسان الكيلاني رحمه الله، اعتبارا لراهن قضية الأقصى والقدس وفلسطين، وتنسّما لنفحات التجديد الروحي والفكري والعلمي الذي قادته المدارس التي أخرجت ذلك الجيل في عصر أشبه بتعقيداته ومشاكله وهزائمه بعض ما في عصرنا .. وبقراءة كتاب “تفسير سور المفصل من القرآن الكريم” لسيدي عبد الله كنون رحمه الله، وبكتاب بديع في بابه لأستاذنا الأمين بوخبزة حفظه الله، بعنوان “الفقهاء والفلاسفة في الغرب الإسلامي في القرنين السادس والسابع الهجريين : جدلية القبول والرفض”، أهيب به وبقراءته ففيه فوائد جمة، ونصح أيضا بكتاب شيخنا العالم الأصولي الدكتور أحمد الريسوني بعنوان “الاختيارات المغربية في التدين والتمذهب” .. فهذه كلها كتب قيّمة سهلة الهضم مع جليل الفائدة، وهي مناسبة أيضا لهذا الشهر الكريم، ولكنها غيض من فيض ما يمكن أن يقرأ في رمضان وفي غير رمضان.

ودعا البقالي إلى التعلق والتهمّم فيما يتعلق بالقراءة، فالمنصرف والغافل ومن في حكمهما يحتاج إلى تنبيه وترغيب وتحبيب وتذويق. وفي هذا الإطار ودون الدخول في مناقشة أزمة القراءة بأبعادها المختلفة، يجدر بنا الانتباه إلى أن شرط التعلق والتهمم اللذين ينبعان أساسا من الأسئلة التي تلح على أصحابها فما تزال بهم حتى تحركهم إلى طلب سبل الجواب، وتلَمُّسِ طرق الفهم. ولو قصرنا نظرنا على هذين فقط لبدا لنا كيف “سُرِقَت” من الكتاب شروط التعلق والتهمم هذه بتنوع سبل التبريد عن السؤال من خلال وسائط باتت تنافس الكتاب مجالَه الذي طالما استأثر به.

كما أن انصراف الأذهان إلى منازع أخرى تجد فيها متعتها الذهنية والنفسية بما لا قِبَل للكتاب بمنافسته إلا لمن ذاق حلاوة الكتاب ولذة القراءة، قلت هذا الانصراف ساهم أيضا في مزيد تحوّل عن الكتاب وزهد فيه. والحال أن الناظر في إحصائيات الدول التي ترتفع فيها نسبة المطالعة سيقف على حقيقة أن هذه النسبة إنما ترتفع بالرواية وكتب الجيب بغض النظر عن الطبيعة الفيزيائية للحامل، ورقي هو أم رقمي أم صوتي، إضافة إلى المجلات والدوريات والصحف؛ وهذا معناه أن الكتاب لا بد أن يكون مغريا وممتعا في غالب الأحيان وليس المعوّل فقط على كتب “الوزن الثقيل” إذا صح هذا التعبير.. وليس بين أيدينا اليوم صورة صحيحة عن حال القراءة في عالمنا مع دخولنا بقوة في العالم الشبكي الرقمي مع ما يعرفه مجال النشر عندنا من تسيّب وسطو على الملكيات. ولا بد أن مشكلة الندرة التي كانت عندنا في الكتب المتاحة وفي الولوجية إلى ما هو مكتوب أو مسموع أو مرئي باتت غير مطروحة كما مضى .. وإذن فلا حل يبدو ممكنا القول به إلا تجويد النشر شكلا ومضمونا ثم عرضا وتسويقا، وقبله وبعده الاهتمام بحلقات الإنتاج المعرفي بكاملها وخصوصا الحلقات التي تمثل الأدوار الوسيطة كما أشرت إليها آنفا .. ومن نافلة القول التذكير بأهمية التنشئة الأسرية والمدرسية في هذا الباب ..

الإصلاح

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى