في مقال جديد، الدكتور قرطاح يكتب عن “انعكاس التدين الراشد على وضعية المرأة”

تعد وضعية المرأة داخل مجتمع ما مؤشرا دالا على المستوى الحضاري الذي بلغه ذلك المجتمع، فإذا كانت تعيش آمنة مطمئنة، محفوظة العرض والكرامة، لها من الحقوق مثل الذي عليها من الواجبات شأنها في ذلك شأن الرجل، وتسهم بدور فعال في تنمية مجتمعها؛ فذلك مؤشر قوي على أن المجتمع سائر في طريق الرقي والتقدم. أما إذا صار ينظر إليها نظرة احتقار وتشييء فذلك مؤشر قوي على أن المجتمع آيل إلى الانحطاط والتخلف.

ولم يشذ المجتمع الإسلامي عن هذه القاعدة، فقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المؤشر من خلال حديثه إلى عدي بن حاتم رضي الله عنه. روى البخاري « عن عدي بن حاتم، قال: بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: «يا عدي، هل رأيت الحيرة؟» قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها، قال «فإن طالت بك حياة، لترين الظعينة[1] ترتحل من الحيرة، حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله، – قلت فيما بيني وبين نفسي فأين دعار[2] طيئ الذين قد سعروا البلاد[3] -، ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى»، قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: ” كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة، لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة، يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه، … قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله. وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز ولئن طالت بكم حياة، لترون ما قال النبي أبو القاسم: صلى الله عليه وسلم يخرج ملء كفه»[4].

لقد لخص الحديث النبوي سوء الأوضاع في الجزيرة العربية آنذاك بأمرين اثنين هما انتشار الفقر وعدم استتباب الأمن وشكوى الناس منهما، فيما لخص تحسن الأوضاع المجتمعية بأمرين اثنين كذلك هما: أولا: انتشار قيم الأمانة والعفة، حتى أن الأغنياء يخرجون زكاتهم عن سخاوة نفس فيتعفف الفقراء عن أخذها. وثانيهما: استتباب الأمن واختفاء قطاع الطرق وتمكن المرأة من السفر وحدها قاطعة مسافة طويلة دون أن ينتابها شعور الخوف من أحد.

في ظل هذه الأجواء المجتمعية الآمنة المطمئنة تجد المرأة متسعا لكي تعبد ربها وتنفع مجتمعها فتسهم بدورها في التنمية. ولن تجد المرأة في الدين الإسلامي والتطبيق السليم له إلا ما يحفزها على ذلك. ونتذكر في هذا السياق مواقف أمنا خديجة بنت خويلد رضي الله عنها مع النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي عليه لأول مرة، واستمرارها في مساندتها له بمالها وجاهها إلى أن توفيت رضي الله عنها. ونتذكر كذلك مواقف سميَّة بنت خياط أم عَمَّار مع بني مخزوم، وأسماء بنت أبي بكر الصديق في مواجهة استبداد الحجاج بن يوسف الثقفي. ونذكر نحن المغاربة خاصة وبكل فخر واعتزاز ما أقامته فاطمة الفهرية من صرح علمي وحضاري ـ هو جامع القرويين ـ لايزال مستمرا في عطائه العلمي وإشعاعه الثقافي إلى اليوم.

ثم تخلل التاريخ الإسلامي  فترات أخرى عرفت نكوصا فكريا للمجتمع في جميع المجالات، وانعكس ذلك على نظرته إلى المرأة إلى حد أن أصبح صوتها يعد عورة  ورفعه سببا للعنتها ولو كان ذلك الرفع بذكر الله، وكأنهم لم يقرؤوا قول الله تعالى:]وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً [ [ الأحزاب:32] وقوله سبحانه: ) {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ( [المجادلة: 1] فلست أدري كيف كانت تشتكي في نظرهم؟ وكيف كانت تجادل النبي صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن النكوص الفكري سيؤدي حتما إلى تراجع في الدور المجتمعي الذي ينبغي أن تقوم به.

وأدعوك أيها القارئ الكريم إلى إنعام النظر في الحديث الآتي، وهو حديث يشهد على حالة التراجع والانتقال من وضع المرأة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين وضعها فيما بعد

روى الإمام البخاري في صحيحه عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ حَفْصَةَ (بنت سِيرِين، أم الْهُذيْل الْأَنْصَارِيَّة البصرية، أُخْت مُحَمَّد بن سِيرِين) قَالَتْ: كُنَّا نَمْنَعُ عَوَاتِقَنَا أَنْ يَخْرُجْنَ فِي العِيدَيْنِ، فَقَدِمَتِ امْرَأَةٌ، فَنَزَلَتْ قَصْرَ بَنِي خَلَفٍ، فَحَدَّثَتْ عَنْ أُخْتِهَا (قال ابن حجر في الفتح: قِيلَ هِيَ أُمُّ عَطِيَّةَ، وَقِيلَ غَيْرُهَا، وَعَلَيْهِ مَشَى الْكِرْمَانِيُّ)، وَكَانَ زَوْجُ أُخْتِهَا غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً، وَكَانَتْ أُخْتِي مَعَهُ فِي سِتٍّ، قَالَتْ: كُنَّا نُدَاوِي الكَلْمَى، وَنَقُومُ عَلَى المَرْضَى، فَسَأَلَتْ أُخْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعَلَى إِحْدَانَا بَأْسٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ أَنْ لاَ تَخْرُجَ؟ قَالَ: «لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا وَلْتَشْهَدِ الخَيْرَ وَدَعْوَةَ المُسْلِمِينَ»، فَلَمَّا قَدِمَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ، سَأَلْتُهَا أَسَمِعْتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: بِأَبِي، نَعَمْ، وَكَانَتْ لاَ تَذْكُرُهُ إِلَّا قَالَتْ: بِأَبِي، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «يَخْرُجُ العَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الخُدُورِ، أَوِ العَوَاتِقُ ذَوَاتُ الخُدُورِ، وَالحُيَّضُ، وَلْيَشْهَدْنَ الخَيْرَ، وَدَعْوَةَ المُؤْمِنِينَ، وَيَعْتَزِلُ الحُيَّضُ المُصَلَّى»، قَالَتْ حَفْصَةُ: فَقُلْتُ الحُيَّضُ، فَقَالَتْ: أَلَيْسَ تَشْهَدُ عَرَفَةَ، وَكَذَا وَكَذَا[5].

يسجل هذا الحديث النقاش الذي دار في ذلك العصر بين المسلمين عامة وبين النساء خاصة حول حدود الدور الديني والاجتماعي الذي يمكن للمرأة أن تشغله، فبينما شهد عصر حفصة بنت سيرين تراجع ذلك الدور إلى درجة المنع من حضور صلاة العيدين، أكدت أخت أم عطية أن النساء في عصر النبوة لم يكن يحضرن صلاة العيد فحسب، بل كن يشاركن في الغزو: يداوين الكلمى ويقمن على المرضى، وأنها شاركت بنفسها في ست غزوات إلى جانب زوجها الذي شارك في اثنتي عشرة غزوة. قال الإمام بدر الدين العينى الحنفى (المتوفى: 855هـ) معلقا: ” وَإِنَّمَا قَالَت: (كُنَّا) بِلَفْظ الْجمع لبَيَان فَائِدَة حُضُور النِّسَاء الْغَزَوَات على سَبِيل الْعُمُوم[6].

وبسبب هذا الدور العظيم أثنى الله تعالى عليهن ونوه بشأنهن، فقد قالت أم سلمة رضي الله عنها: يا رسول الله يذكر الرجال ولا نُذكر؛ فنزلت: ]إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِوَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)[[7]

وقد استدلت أخت أم عطية على جواز خروج النساء إلى المصلى بمشاركة النساء في الغزو في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تورد حديثه في الحث على حضور النساء المصلى، وذلك منها استدلال بقياس الأولى قبل الاستدلال بالحديث النبوي، وهو ما يدل على تمكنها من منهج الاستدلال الأصولي، حيث جمعت بين الأدلة عند الاحتجاج بها مع إحسان في ترتيبها وتوضيح لوجه دلالتها على الأحكام.

ثم روت حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يحث فيه النساء وإن كن حُيَّضاً على الخروج إلى المصلى لحضور صلاة العيد وشهود دعوة الخير. ولم  ينته الحديث إلا بتسجيل إبداء حفصة استغرابها من حضور الحائض.

وقد توقف فقهاء الحديث عند لفظة العواتق لتحديد معناها، فقال ابن حجر:” الْعَوَاتِقُ جَمْعُ عَاتِقٍ، وَهِيَ مَنْ بَلَغَتِ الْحُلُمَ أَوْ قَارَبَتْ أَوِ اسْتَحَقَّتِ التَّزْوِيجَ أَوْ هِيَ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَهْلِهَا، أَوِ الَّتِي عَتَقَتْ عَنِ الِامْتِهَانِ فِي الْخُرُوجِ لِلْخِدْمَةِ. وقال بدر الدين العيني: العاتق: شَابة أول مَا أدْركْت فخدرت فِي بَيت أَهلهَا وَلم تفارق أَهلهَا إِلَى زوج[8].

واضح إذن بعد كلام ابن حجر أنه لا مجال لأحد للاختباء وراء السن أو المستوى الاجتماعي لتأويل الحديث وتبرير خروج بعض النساء دون بعض، فسن العواتق اللواتي سيخرجن هو الحلم وسن التزويج، وأعظم من ذلك وأكبر أنهن كريمات على أهلهن، ولم يمنع ذلك من خروجهن.

ومن المبررات التي سيقت لتبرير هذا المنع ما حدث من الفساد في ذلك العصر على خلاف عصر النبوة، وهو تغير لم يقتنع الصحابة الذين عاصروه أنه سبب وجيه لمنع المرأة من الخروج لحضور مجالس الخير. قال ابن حجر: “وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا يَمْنَعُونَ الْعَوَاتِقَ مِنَ الْخُرُوجِ لِمَا حَدَثَ بَعْدَ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ مِنَ الْفَسَادِ وَلَمْ تُلَاحِظِ الصَّحَابَةُ ذَلِكَ بَلْ رَأَتِ اسْتِمْرَارَ الْحُكْمِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”

ومما يعزز قول ابن حجر رحمه الله تعالى ما روى الإمام مَالِكٌ في الموطأ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَاتِكَةَ بِنْتِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ امْرَأَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهَا كَانَتْ تَسْتَأْذِنُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَسْكُتُ، فَتَقُولُ: «وَاللَّهِ لَأَخْرُجَنَّ إِلَّا أَنْ تَمْنَعَنِي فَلَا يَمْنَعُهَا»[9]

قد يقول قائل: ما علاقة هذا بترشيد التدين؟ والجواب ما وضحه ابن حجر من هذا الحديث حيث قال: ” وَفِيهِ أَنَّ الْحَائِضَ لَا تَهْجُرُ ذِكْرَ اللَّهِ وَلَا مَوَاطِنَ الْخَيْرِ كَمَجَالِسِ الْعِلْمِ وَالذِّكْرِ سِوَى الْمَسَاجِدِ”[10]. وما ذكره بدر الدين العيني أيضا عن قَوْله صلى الله عليه وسلم: (وليشهدن الْخَيْر) أَي: وليحضرن مجَالِس الْخَيْر كسماع الحَدِيث وعيادة الْمَرِيض. قَوْله: (ودعوة الْمُسلمين)، كالاجتماع لصَلَاة الاسْتِسْقَاء”[11].ومعلوم أن طلب العلم وحضور مجالسه هو أساس ترشيد التدين، ومنعها من ذلك بدعوى الخوف من الفساد يأتي بالتبع على منعها مما سوى ذلك من مجالس  الخير والأنشطة النافعة.     

وخلاصة القول فإن أي حجر على النساء من شهود أعمال الخير والمشاركة فيها لن يجد له أي مسوغ في نصوص الدين الإسلامي والتجربة التاريخية الراشدة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام. وعليه فإن من الثمار المرجوة لترشيد التدين أن يسمح للمرأة أن تتبوأ المكانة اللائقة بها في المجتمع، وأن تجد المناخ الديني والفكري والأخلاقي لتؤدي دورها الذي يليق بها؛ إذ أن هذا الجهد العلمي والفكري والتربوي سينفي تأويلات الجاهلين وتحريفات الغالين وانتحال المبطلين.

د.مصطفى قرطاح

  • [1]  ـ الظعينة: هو في الأصل اسم الهودج ثم قيل للمرأة في الهودج وقد تقال للمرأة مطلقا.
  • [2]  ـ دعار: جمع داعر وهو الخبيث المفسد الفاسق والمراد بهم قطاع الطرق
  • [3]  ـ سعروا البلاد: أشعلوا فيها نار الفتنة وأفسدوها
  • [4]  ـ صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام.
  • [5] ـ  كتاب الحيض، باب شهود الحائض العيدين ودعوة المسلمين، ويعتزلن المصلى ، صحيح البخاري:كتاب الحج باب: تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، وإذا سعى على غير وضوء بين الصفا والمروة
  • [6] ـ عمدة القاري شرح صحيح البخاري (3/ 303)
  • [7]ـ تفسير الطبري جامع البيان ت شاكر (20/ 269).
  • [8] ـ عمدة القاري شرح صحيح البخاري (3/ 303)
  • [9] ـ  الموطأ ـ كتاب القبلة ـ باب ما جاء في خروج النساء إلى المساجد.
  • [10] ـ فتح الباري لابن حجر (1/ 424).
  • [11] ـ عمدة القاري شرح صحيح البخاري (3/ 304).

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى