د سعد الدين العثماني يكتب: الكوارث الطبيعية وعلاقتها بالعقاب الرباني – الحلقة 2
كنا كتبنا في المقال السابق أن النظر إلى الكوارث الطبيعية بوصفها “عقابا” من الله، لا يستقيم إلا بفهم “العقاب” على أنه كوني قدري قانوني، يمكن للإنسان فهم عوامله أو أسبابه، واكتشاف حركيته، وتطوير طريقة التعامل معه. والمؤسف أن العقل المسلم بقي في كثير من الأحيان ينظر إلى هذا الموضوع بأفكار تنزع إلى التخلف، وتنشئ العجز والسلبية، وقد تفتح المجال للطعن في الدين.
ضرورة التمييز بين الأمر القدري والأمر الشرعي
ومدخل الخلل الذهول عن أصل من أصول فهم القرآن الكريم، وهو التفريق في صفات الله تعالى الذاتية والفعلية بين مستويين:
المستوى الأول – الكوني القدري، والذي يعني خلقه وتقديره وسنن تدبيره للمخلوقات، فالله سبحانه جعل للكون وللوجود الإنساني نواميس منتظمة يسير عليها، كما ورد في الآية: “ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا”. فالجاذبية الأرضية من تلك النواميس، ولما عرفها الإنسان واكتشف كيف تعمل، استطاع أن يستثمرها فيسافر بالطائرة، ويبعث بالمركبات خارج الأرض، وهكذا باقي السنن.
المستوى الثاني – الديني الشرعي، الذي يعني شرعه الذي أنزل على رسله وبينه في كتبه، فهو يثيب مطيعها ويعاقب عاصيها.
وهكذا يقسم العلماء (الأمر) على حسب سياق الآيات القرآنية التي ورد فيها؛ إلى أمر ديني شرعى، وهو المحبوب المراد لله تعالى شرعًا، وإلى أمر كوني قدري، وهو ما قدره الله في خلقه ولا يكون محبوبا له ضرورة.
فمثل الأمر الكوني القدري قوله تعالى: “إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ” (يس/ 82)، وقوله تعالى: “وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ” (الإسراء: 16).
ومثل الأمر الديني الشرعي قوله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ” (النحل/ 90)
ومما يفرق بين المستويين، أن الأمر الكوني القدري قانون جار، يخضع له الانسان برضاه وبدون رضاه، وتترتب عليه نتائجه بوعي منه أو بدون وعيه، وهو لا يحابي المؤمن ولا الكافر، بل من علمه ووعاه، والتزم به، استفاد من “بركاته” وسخره. ومن جهله وصادمه قصمه ودمره مؤمنا كان أو كافرا، متدينا كان أو غير متدين.
بينما الأمر الديني الشرعي هو مناط التكليف، وللإنسان الاختيار في أن يطيعه أو يعصيه، لكنه مأمورا شرعا بطاعته والاستسلام له.
وهذا التمييز يتعلق أيضًا بالقضاء، والإرادة، والمشيئة، والإذن، والكتاب، والجعل، والحكم، والبعث، والإرسال، والتحريم، والإيتاء، والكلمات وغيرها، عندما يسند إلى الله تعالى في القرآن، فكلها يجب التمييز فيها بين القدري من جهة والشرعي من جهة أخرى، ليستقيم فهمها، وفهم معاني الآيات التي وردت فيها.
والخلط بين المستويين موقع في الكثير من الخطأ. فالمؤمن يسلم للأمر الشرعي ويطيعه، بينما عليه أن ينازع الحكم الكوني ويعمل على دفعه. لذلك قال ابن القيم: “وأَمّا التسليم للحُكْم الكَونىّ فمزلَّة أَقدام، ومضلَّة أَفهام، حَيّر الأَنام، وأَوْقع الخِصَام، وهي مسأَلة الرّضا بالقضاء”. ثم قال: “التسليم للقضاءِ يُحمد إِذا لم يُؤْمر العبد بمنازعته ودفعه ولم يقدر على ذلك؛ كالمصائب التي لا قُدْرَةَ له على دفعها. وأَمّا الأَحكامُ التي أُمر بدفعها فلا يجوز له التسليم إِليها، بل العبوديّة مدافعتها بأَحكامٍ أُخْرى أحب عند الله منها”.
لذلك فهم العلماء من قوله تعالى: “وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا” على أنه إخبار بقانون اجتماعي يقضي بأن الترف يؤدي إلى الفسق والفتنة، ثم إلى انهيار الأمم وهلاكها. ولا تعنى الآية أبدا أن الله يريد الفسق ولا أنه يأمر به أمرا شرعيا، لقوله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء”، وقوله: “والله لا يحب الفساد”. وعلق ابن القيم في “شفاء العليل” على هذا التوجيه للآية قائلا: “ولا حاجة إلى تكلف تقدير: أمرنا مترفيها فيها بالطاعة فعصونا وفسقوا فيها، بل الأمر ههنا أمر تكوين وتقدير لا أمر تشريع”.
ومن الأمثلة أيضا قوله تعالى في سورة آل عمران: “قل اللهم مالك الملك توتي الملك من تشاء”، فإن الإيتاء هنا كوني قدري مبني على قوانين وأسباب، يقول محمد رشيد رضا في تفسيره: “إن من الناس من يظن أن معنى إسناد الشيء إلى مشيئة الله تعالى هو أن الله تعالى يفعله بلا سبب ولا جريان على سنة من سننه في نظام خلقه، وليس كذلك، فإن كل شيء بمشيئة الله تعالى (وكل شيء عنده بمقدار) (8: 13)، أي بنظام وتقدير موافق للحكمة ليس فيها جزاف ولا خلل، فإيتاؤه الملك لمن يشاء بمقتضى سننه إنما يكون بجعله مستعدا للملك في نفسه، وبتوفيق الأسباب لسعيه في ذلك …”.
وهكذا جميع صفات الله تعالى الذاتية والفعلية، عندما ترد في القرآن أو في السنة، يبحث أولا هل هي قدرية أو دينية، قبل أن ينظر في معناها. وقد قام بعض العلماء باستقرائها وتصنيفها، ولا يتسع المجال للإطالة في سردها. وهذا يؤسس لنظرة سننية للكون وللاجتماع البشري، وهو المبدأ الذي ورد صراحة في ستة عشر آية قرآنية، مثل قوله تعالى في سورة الأحزاب: “سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا“، وقوله في سورة فاطر: “فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا“. وهذه السننية تعني وجود علاقة مطردة بين أسباب وعوامل وبين نتائج. واطرادها لا يعني بطبيعة الحال بساطتها، بل هي معقدة على حسب تعقد الظاهرة المعنية أو ضخامتها.
وعندما يتحدث القرآن الكريم عن بعض الظواهر لإيقاظ العقل البشري وتبصيره بعظمة الله، فهو يهديه أيضا لاكتشاف السنن الكامنة وراءها والقطع مع العقلية الخرافية التي سادت البشرية لفترات طويلة.
ففي الحج نقرأ: “ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة”، وفيسورة الحديد نقرأ: “اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ”، وعندما ينسب إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض إلى الله تعالى، فهذا لا يعني أن ذلك يكون بفوضى أو عشوائية، بل يتم وفق سنن قدرها الله، ويمكن أن يكتشفها الإنسان، وأن يستثمرها ويرفع درجة تسخيره لها.
طبيعة جزاء الله في الدنيا
وعلى هذا المنوال فإن جزاء الله، ثوابا أو عقابا، قد يرد في النصوص الشرعية بالمعنيين.
فقد يرد بالمعنى الديني الشرعي، والأصل فيه أن يكون في الآخرة. ومنه قول علي بن أبي طالب كما رواه البخاري في صحيحه تعليقا: “اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل”. وهو يعني عمل الإنسان في الدنيا الذي يجازى عليه يوم القيامة.
كما قد يرد جزاء الله، ثوابا أو عقابا، في النصوص الشرعية بالمعنى الكوني القدري، ويهم كل من وافق أو خالف سنن الله في الكون وفي الأنفس وفي الاجتماع البشري، مؤمنا كان أو غير مؤمن. وهو الراجح في معنى قوله تعالى: “ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، من يعمل سوءا يجز به، ولا يجد له من دون اللّه وليا ولا نصيرا”. فلفظا: السوء والسيئة، يردان كثيرا في القرآن الكريم بمعنى الضرر أو المفسدة، ومنه مثلا قوله تعالى في سورة الأعراف: “ولو كنت أعلم الغيب لَاستكثرت من الخير وَما مسني السوء”، يقول البغوي في تفسيره: “أَيِ: الضر والفقر والجوع”. وعلى ذلك جمهور المفسرين.
ومنه قوله تعالى في سورة آل عمران: “إن تمسسكم حسنة تسؤهم، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها”، وقوله في سورة الأعراف: “وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلَهم يرجِعون”. يقول ابن تيمية عن هاتين الآيتين ومثيلاتها: “والذي عليه عامة المفسرين: أن الحسنة والسيئة يراد بهما النعم والمصائب، ليس المراد مجرد ما يفعله الإنسان باختياره، باعتباره من الحسنات أو السيئات”. ويقول القرطبي المفسر عن آية آل عمران: “واللفظ عام في كل ما يحسن ويسوء، وما ذكره المفسرون من الخصب والجدب واجتماعِ المؤمنين وَدخول الْفرقة بينهم إلى غير ذلِك من الأقوال أمثلة وليس باختلاف”.
ومن هنا فقد يقال للعقوبة الكونية الناتجة عن مخالفة الإنسان لمقتضيات السنن الكونية، إما جهلا أو عجزا أو ظلما، بأنها عقاب من عند الله.
ومن أمثلة ذلك تعرض الإنسان لأسباب المرض فيمرض، وإذا أخذ بأساليب الوقاية منه سلم. فعمر بن الخطاب لما وقع طاعون عمواس بالشام وهو في طريقه إلى هناك، اختلف عليه الصحابة هل يدخل الشام وفيه الطاعون، أم يرجع حتى لا يصاب به هو ومن معه. فاستقر رأيه على الرجوع. ولما قال له أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله؟ قال عمر: “لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله”. فإذا خالف الإنسان ما تقتضيه سنة العدوى، وتعرض لعواملها فمرض، فهذا عقاب وفق سنة الله، وقد يقال له عقاب من عند الله.
ومن الأمثلة ثانيا ما يعرفه العالم من تأثيرات التغير المناخي، نتيجةً لظاهرة الاحتباس الحراري التي تتسبب بها العديد من الأنشطة البشرية بشكل أساسي. ومن ذلك ارتفاع سطح البحر والأعاصير وتهديد البيئة في اليابسة والمحيطات والحرائق وغيرها مما يشكل مخاطر كبيرة على البشر وعلى مختلف أشكال الحياة على الأرض. وليست هذه التأثيرات إلا عقابا “كونيا قدريا” على التصرفات “السيئة” للبشر، مثل الاستهلاك المفرط للموارد وللغابات والإفراط في استعمال الوقود الأحفوري وغيرها. فهذا إفساد في الأرض، ينتج عنه عقاب كوني قدري هو ما نراه من تأثيرات على الحياة البشرية.
وتصدق على هذه الأمثلة وغيرها قوله تعالى في سورة الروم: “ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ليذيقهم بعض الذي عملوا، ولعلهم يرجعون”. قال مجاهد: “إذا ولي الظالم أساء بالظلم والفساد، فيحبس بذلك القطر، ويهلك الحرث والنسل. والله لا يحب الفساد. ثم قرأ الآية. وجمهور المفسرين على هذا التفسير للفساد في الآية. وبذلك يكون قوله: (ليذيقهم) يحيل على إذاقة كونية قدرية، أي أن هؤلاء الناس ارتكبوا إساءات للحرث أو للنسل، فترتب عليها الفساد، وهو ما نرى مصداقه في الواقع البشري اليوم.
وهذا يبين لنا سمة مهمة من سمات العقوبة الكونية القدرية، وهي أن بينها وبين ما كسبت أيدي الناس وما اقترفوه حتى يستحقوا العقوبة، علاقة موضوعية. فهي السمة التي تترجم كونها سننا وقوانين. فالعقوبة فيها من جنس المخالفة، والجزاء من جنس العمل.
وهكذا فإن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تتحدث عن عقوبات دنيوية، من غير العقوبات الشرعية التي هي أحكام يطلب من المؤمن تطبيقها، فهي تتحدث عن عقاب كوني قدري، مرتبط بسنن الله في خلقه. وسنرجع بإذن الله في حلقة أخرى للحديث عن أمثلة من ذلك. والحمد لله رب العالمين.