محطات لتربية نفس المؤمن خلال شهر شعبان
إن الأيام تمضي، والشهور تنقضي، ويدور العام دورته، وها هي الأيام المباركة تبشِّر بقدوم شهر القرآن، وبين يدي ذلك القدوم أهلَّ علينا شهر شعبان، ليذكرنا بما يحمله لنا من الخير، وهكذا ستكون لنا محطات نقف معها لتربية نفوسنا مع هذا الشهر الكريم:
1ـ مكانة شهر شعبان: شهر رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهو شهر يتشعب فيه خير كثير؛ فقد اختصَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة تفضِّله على غيره من الشهور وتميزه عنها، روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: “كان رسول الله يصوم ولا يفطر حتى نقول: ما في نفس رسول الله أن يفطر العام، ثم يفطر فلا يصوم حتى نقول: ما في نفسه أن يصوم العام، وكان أحب الصوم إليه في شعبان”. فاسأل نفسك أيها المؤمن هل تحب ما أحب رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ هو اختبار عملي في أن تحب ما يحب الله ورسوله “لا يؤمن أحدكم؛ حتى يكون هواه تبعًــــا لما جئت به”.
2ـ شهر شعبان شهر عرض الأعمال على الله: فقد روى الترمذي والنسائي عن أسامة بن زيد من حديث النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: (وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَال إلى رَبِّ العَالمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عملي وَأَنَا صَائِمٌ). محطتك التربوية أيها المؤمن؛ أن تغتنم الموسم الختامي لصحيفتك وحصاد أعمالك عن هذا العام، فبم سيُختم عامك؟ وبماذا تحب أن يرفع عملك إلى الله؟ هي لحظة حاسمة في تاريخك، يتحدد على أساسها رفع أعمالك في العام كله إلى المولى- تبارك وتعالى- القائل:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}[فاطر: 10]. فراجع نفسك أخي المؤمن وبادر بالأعمال الصالحة قبل رفعها إلى مولاها في شهر رفع الأعمال، ودع عنك التهاون والإهمال.
3ـ محطة الحياء من الله: وفي الحديث بُعْدٌ آخر يجب الوقوف معه ، فالناظر إلى حال الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم في شعبان، يظهر له أكمل الهدي في العمل القلبي والبدني ويتجسد الحياء من الله ونظره إليه بقوله:”..وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم”. ففي الحديث قمة الحياء من الله عند رسول الله صلى الله عليه و سلم بألا يراه الله إلا صائمًا، يعني طائعا ذاكرا عابدا فاعلا للخير، أفلا تستحي أيها المؤمن ـ وكلنا ذلك المؤمن ـ من أوقات قضيناها في غير ذكر لله، ومن أعمال لم نخدم بها دينه ودعوته، ومن همم وطاقات وإمكانيات لم نستنفذها في نصرة دينه وإعزاز شريعته، ومن قلم وفكر لم نسخره لنشر رسالة الإسلام والدفاع عنه، ومن أموال ونِعَم بخلنا بها عن دعوة الله، أفلا نستحي من كل ما كتبته الملائكة في صحائفنا من تقاعس وتقصير، أفلا نستحي من كل ما يراه الله في صحائفنا من سوءات وعورات، كل ذلك وغيره يستوجب مني ومنك -أخي الحبيب- الحياء من الله والخشية منه.
4ـ مغفرة الذنوب: شهر شعبان هو شهر المنحة الربانية التي يهبها الله لأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ففيه ليلة عظيمة هي ليلة النصف من شعبان عظَّم النبي صلى الله عليه و سلم شأنها في قوله: “يطِّلع الله تبارك وتعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلاَّ لمشرك أو مشاحن”. هي فرصة عظيمة لكل مخطئ ومقصر في حق الله ودينه ودعوته، هي فرصة لمحو الأحقاد من القلوب تجاه إخواننا، فلا مكان هنا لمشاحن وحاقد وحسود وليكن شعارنا جميعًا قوله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10].
5ـ ولنا وقفة تربوية هنا إذا كان شعبان شهرًا للصوم عند رســول الله صلى الله عليه وسلم، فهو شهر لنوافل الطاعات كلها، ينطلق فيه المسلم من الحديث القدسي: “إن الله تعالى قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه”. ولما كان شعبان كالمقدّمة لرمضان؛ فإنه يكون فيه شيء مما يكون في رمضان من الصيام وقراءة القرآن والصدقة فهو ميدان للمسابقة في الخيرات والمبادرة للطاعات قبل مجيء شهر الفرقان فأروا الله فيه من أنفسكم خيرًا.
وذكر العلماء في تفضيل التطوع بالصيام في شهر شعبان على غيره من الشهور أن أفضل التطوع ما كان قريبًا من رمضان قبله وبعده؛ وذلك يلتحق بصيام رمضان؛ لقربه منه، وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها، فيلتحق بالفرائض في الفضل، وهي تكملة لنقص الفرائض. نعم هو شهر السقي والتعهد والتفقد لما قام به المسلم في سابق أيامه؛ حتى يجني الحصاد بعده، فأدرك زرعك -أخي المؤمن في شهر شعبان، وتعهده بالسقي وتفقده ألاَّ يصاب بالجفاف.
6ـ مقاومة غفلة بشرية: قال الحبيب صلى الله عليه و سلم: “ذلك شهر يغفل عنه الناس”. شهر شعبان هو الشهر الذي يغفل الناس عن العبادة فيه؛ نظرًا لوقوعه بين شهرين عظيمين؛ هما: رجب الحرام ورمضان المعظم، وفيه قد انقسم الناس بسبب ذلك إلى صنفين: صنف انصرف إلى شهر رجب بالعبادة والطاعة والصيام والصدقات، وغالى البعض وبالغ في تعبده في رجب حتى أحدثوا فيه من البدع والخرافات ما جعلهم يعظمونه أكثر من شعبان. والصنف الآخر لا يعرفون العبادة إلا في رمضان، ولا يقبلون على الطاعة إلا في رمضان، فأصبح شعبان مغفولاً عنه من الناس، ولذلك قال أهل العلم: هذا الحديث فيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله عزَّ وجلَّ، وقد كان بعض السلف يستحبون إحياء ما بين العشاءين بالصلاة، ويقولون: هي ساعة غفلة. فهي دعوة لوقفة مع النفس، هل صرنا من الغافلين عن شهر شعبان وفضله؟ وهل أدركتنا الغفلة بمعناها المطلق؟ ولنعرض فيها أنفسنا على قوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، وقوله تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الغَافِلِينَ} [الأعراف: 205]،
ذ. سعيد منقار بنيس