الإدريسي يكتب: في قيمة التَّوحيد -3-

قطعا، إن منظومة القيم القرآنية ترتكزُ على قيمة  التَّوحيد  باعتبارها القِيمة الحَاكمة والكُبرى والناظمة لكل النَّسق القيمي القُرآني، وهذا الأمر يتجلى في كون رسَالة الأنبياء واحدة من لدن آدم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام، مضمونها الجَوهري ومرتكزها المحوري هو توحيد الله تعالى، وهي القيمة التي تؤسس لحقيقة دين الإسلام ورسالة السماء، يقول الله تعالى :﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ  كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ سورة الشورى الآية 13.

 بالإضافة إلى ذلك فإننا نجِد في القرآن الكريم مساحَات تعبيرية واسعة وكثيفة، وآيات عديدة قد أُفردت لقيمة التّوحيد وقضية التوحيد ، لأن كل قيم الدين تنبثق منها، وبالتالي فإن مسَالك التدين تتأثر بها رُشْدا أو سَفَهًا، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: “إن كل آية في القرآن فهي متضَمنة للتوحيد، شاهدة به، داعية إليه؛ فإن القرآنَ إما خبَرٌ عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو التوحيد العِلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلعِ كل ما يُعبَد من دونه، فهو التوحيد الإرَادي الطَّلبي، وإما أمر أو نهي وإلزَام بطاعته في نهيه وأمره، فهي حقوقُ التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن كرامة الله لأهل توحيده وطَاعته، وما فعَل بهم في الدنيا، وما يُكرِمهم به في الآخرة، فهو جزاءُ توحيده، وإما خبر عن أهل الشِّرك، وما فعَل بهم في الدنيا من النَّكال، وما يحلُّ بهم في العقبى من العذاب، فهو خبرٌ عمن خرَج عن حُكم التوحيد؛ فالقرآن كله في التوحيد، وحقوقِه وجزائه، وفي شأن الشِّركِ وأهله وجزائهم”  انظر عَلَقه  النّفيس “مدارج السَّالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين”.

وهذا ما سار عليه الدكتور طه جابر العلواني والدكتور فتحي حسن ملكاوي ورواد المعهد العالمي للفكر الإسلامي، حيث اعتبروا قيمة التوحيد هي الأساس الأول في منْظومة القيم العليا، بل هي أمُّ القيم، لأنه لا معنى للدين الإلهي بغير توحيد الخالق، وتزكية الإنسان المخلوق، لتمكينه من حمل أمانة الاستخلاف في الكون، وعمران هذا الكون وبناء الحضارة فيه، لأن الإنسَان هو المخاطب بالقرآن الكريم المنزل من الخالق الواحد، يؤمن بوحدانيته، ويقر بالعبودية له، ويوظف طاقته العلمية والعملية في إعمار الأرض وترقية الحياة البشرية عليها.

وبالتالي فإن  مصدر العِلل  وسبب الخلل في تدين  الأمم  السَّالفة والحضارات  السابقة  والقرون الماضية، هو  الانحراف  عن  حقيقة  التوحيد   الذي  أخذه  الله تعالى  على آدم عليه السَّلام وذريته، قال  تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أو تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ﴾سورة الأعراف ،الآية 172-173.

 ولذلك كانت دَعوة الرسل عليهم السلام ترتكز على ترسيخ قيمة التوحيد في  وجدان  المؤمنين بالرسالة والمصدقين  بالنبوة،  حتى  لا  ينحرفوا  عن  عبادة  الله   إلى  عبادة  الرجال وتقديس  الأنبياء، وذلك  بنفي  التعدد والمماثلة   والشريك والكفء، وحصر  الألوهية   بالله  تعالى ، يقول تعالى مخلدا دعوة يوسف عليه السلام إلى  التَّوحيد  الخالص، وبيان  بُطلان العقائد  الفاسدة، وهو يكابد  ظلم امرأة العزيز و ظلمات السجن: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ، مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ  إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ  أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ سورة يوسف الآية 39-40.

 ومن تمظهَرات قيمة التّوحيد، هو الجمع بين كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة في الأمة المنتمية لهذا الدين، لأن الوحدة الجامعة في إطار التنوع والاختِلاف تجلٍّ رسَالي من تجليات قيمة التوحيد، لأن القرآن العظيم وصف الأمة بالعبودية لله الواحد ﴿إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ سورة الأنبياء الآية: 92. ومقتضى العبودية الوارد في الآية، هو المقتضى الشمُولي  بأبعاده الإيمانية والاحسانية والرسَاليّة، والذي بينه الحديث النبوي الشريف، الذي رواه الإمام البُخاري، فعن عبد الله بْنِ عُمَرَ رضي عنه قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: “الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا”، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ! قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ: “أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ، قَالَ: “أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ”، وفي ختام الحديث يسأل ذلك السائلُ النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فيجيبه: “مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ” … قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي: “يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟”، قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: “فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ”. رواه الشيخان.

وتجليات التوحيد لا تقتصر على البعد التعبدي المحض، وإنما تشمل مجلات الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية والعلمية والأسرية، وقد فصل في أبعاد التوحيد الدكتور إسماعيل راجي الفاروقي في كتابه “التَّوحيد ومضَامينه في الفِكر والحيَاة” معتبرا أن التوحيد هو لباب الإسلام، وجوهر دين الإسلام، وبالتالي فإن الحضارة الإسلامية تستمد هويتها من التوحيد، وإن أي خلل في مفهوم التَّوحيد يؤدي بالطبع إلى خلل وانهيار مفهوم الدين  بكامله، وهو المعنى  الذي أكده  الإمام  علي بن أب طالب  رضي  الله  عنه  بقوله في  “نهْج  البَلاغة”:” أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ ، وَ كَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ ، وَ كَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ ، وَ كَمَالُ تَوْحِيدِهِ الْإِخْلَاصُ لَهُ …”.

ولذلك كان من خصائص التربية القرآنية لجيل الصحب  الكرام  في بداية  الدعوة الإسلامية، تعميق  الاتجاه  التوحيدي، على  حد  تعبير  الدكتور فريد  الأنصاري في كتابه “التوحيد والوساطة  في التربية  الدعوية”، وهذه  الوظيفة  اضطلع  به  الرسول  عليه  الصلاة والسلام، حيث  كان  يربط  قلب  الصحابة  بالباري  سبحانه وتعالى، وأن  لا  ميزة له-الرسول عليه  السلام- إلا من حيث  يوحى إليه، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ سورة  الكهف الآية  105،  وكان  النبي  عليه السلام  يغرس  هذا المعنى في  وجدانهم  فعَنْ عُمَرَ بن الخطاب – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّمَا أَنَا عَبْد، فَقُولوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ “. رواه الإمام البخاري.، وهو المعنى العميق الذي حاول الرسول عليه السلام تبليغه لذلك الأعرابي فعن أبي مسعود قال: أتى النبي ﷺ رجل، فكلمه، فجعل ترعد فرائصه، فقال له: «هوّن عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القِديد»، صحيح ابن ماجه.

وبالتالي فإن انعكاس قيمة التّوحيد في جميع منَاحي حياة المسلمين كانت هي السمة الأبرز في بداية  تشكل الأمة الإسلامية ، ومسار تطورها، لأن التوحيد كمبدأ منهجي -إسماعيل راجي الفاروقي- يتشكل من ثلاثة مبادئ معرفية، أولها: رفض كل ما لا يتمَاشى مع الحقيقة، والثاني، نفي التَّناقضات النهائية، والثالث: الانفتاح على الدَّليل الجديد، وعلى دليل المخالفة، وهكذا نقل التَّوحيد العقل الإنساني من الأسطورة والسّفهِ إلى الحقيقة والرّشد، وجعله ينظر إلى الحياة بزمانها ومكانها بعين الجد، لارتباط فلَاحه أو خُسرانه بتمثل السنن الإلهية والكونية المتصلة بالزَّمان والمكان والاجتِماع الذي يكدح فيه، و هذا المعنى أكده الدكتور سعيد شبار بقوله: “فأصل التوحيد أصل مهيمن، ولنقل بتعبير بعض الكُتاب: قيمة عليا حاكمة. المفروض أن يكون له حضُور في سائر المفاهيم الأخرى، يزودها بالمعنى ويحدد وجهتها وقبلتها، ويسدد كثيرًا من آليات اشتغالها. لكن للأسف، ضمر هذا الأصل وانحصرت معانيه ودلالاته في التَّداول التاريخي، حتى لم يبق لها حضور في مجالات العلم والمعرفة والمجتمع فلحقها من الآفات ما لحقها”. مقال بمجلة “حراء” العدد 49، تحت عنوان “منظومة القيم في القرآن والبناء التكاملي لوظائف الأسرة”.

د. عبد العزيز الإدريسي / عضو المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى