تلموت يكتب: ثقافة الاستهلاك وهدم القيم عدوان على إنسانية الإنسان
كثير من المتابعين بل المثقفين يتساءلون إنكاريا عن علاقة “الاستهلاك” بمقولة “هدم القيم”، مستغربين ما يعتبرونه حالة إقحام للنقيض في النقيض دون داع لذلكَ، انطلاقا من مسلمة أن الإنسان محتاج بنيويا إلى تحقيق حاجاته وتأمين رغباته الضروري منها بل والترفيهي أيضا، مدافعين عن طرحهم هذا بأطروحة إجمالية محورها الناظم هو أن أصل حركية الحضارة بكل مظاهرها القيمي، والمادي هدفه الأساس هو تحسين شروط العيش الإنساني، وتأمين احتياجاته، الأمر الذي يحيلنا من جديد على مسلمة أن الإنسان كائن استهلاكي بالضرورة.
ولأننا نسلم مع غيرنا بأن الاستهلاك ضرورة إنسانية بل هي من صميم التعابير الخارجية عن إنسانية الإنسان، فإننا نسارع هنا إلى الإقرار بأننا نميز بين الاستهلاك حين يكون سلوكا محدودا بضوابط التوازن التي سنبين حدودها لاحقا في هذا المقال بحول الله، وبين تحوله إلى ثقافة مناقضة لجوهر الإنسانية المتأسسة على مركزية القيم، ومن هنا فإن تحرير العلاقة بين “الاستهلاك” و”القيم” يغدو أمرا ملحا على المستوى المعرفي النظري من جهة، وعلى المستوى العملي التنزيلي من جهة أخرى..
– ما القيم؟
لمصطلح لقيم تحديدات مفهومية متنوعة بحسب السياق الذي يُشتغل فيه، ونحن سنقتصر على تعريف يفي بالغرض من استلهامه تماشيا مع مستوى اشتغالنا، يرى صاحب هذا التعريف أن “القيم هي ما يشكل الأفكار والتصورات التي يعتنقها الأشخاص، والتي توجه الاختيار الحر أو السلوك إلى ما يتوافق مع قبول الجماعة له، وكل خروج عنها يولد شعورا عند الفرد بالخروج عن قاعدة الالتزام
إذا فالقيم لا تخرج عن كونها ممارسة الاختيارات الشخصية في إطار من الاتساق مع الاختيار الجماعي الذي يقتنع الفرد أنه منتسب إليه، ومن خلال هذه الممارسة الراقية للحرية على المستوى الفردي والتي تصير في المحصلة ممارسة طوعية جماعية تتحدد الاختيارات القيمية العامة لهذا الفرد ولهذه الجماعة، وتتشكل بذالك منظومات القيم المتباينة على المستويات الأرحب.
– ما الاستهلاك؟
الاستهلاك خصوصية مميزة للكائنات الحية، إذ بفاعلية الاستهلاك هذه تستطيع هذه الكائنات الاستمرار، وإن كانت مساحات الاستهلاك تختلف تبعا لكل كائن حي على حدة، ولأن وجودها ليس حالة كلية نهائية في الزمان والمكان كالجوامد، بل الكائنات الحية عموما تحتاج إلى حالة مغذية للعلاقة الأفقية بينها وبين الزمان والمكان، هذه الحالة المغذية هي التي تسمى استهلاكا في صورتها المشتركة بين الإنسان والكائنات الأخرى، وللتعبير المباشر نقول أن الاستهلاك عند الإنسان هو “الاستخدام المباشر للسلع والخدمات التي تشبع رغبات الإنسان وحاجاته”.
وبذلك يظهر أن المميز في حالة الإنسان هو اقتصاده في الاستهلاك، بحيث أنه لا ينخرط في سلوك استهلاكي إلا لتغذية حاجة أو رغبة بعينها، وبمجرد تحقق حالة الإشباع للحاجة يصير لاستهلاك حالة منتهية في باب، لكنها تتجدد في طلب للإشباع مرة أخرى، من هنا يظهر جليا أن الاستهلاك ليس مقصودا لذاته، وإنما هو مقصود لغيره، أي أنه مقصود لتحقيق قيمة وظيفية هي قيمة الإشباع للحاجات.
إن الاستهلاك يوم أن يصير مقصودا لذاته، بحيث يتحول إلى فلسفة للحياة “بوعي أو بغير وعي” فإنه يصير بالضرورة نقيضا ل”القيم” لأننا ــــ وكما سلف بيانه ــــ نفهم أن السلوكات الإنسانية تحتاج ل”التقييم”، أي لمنظومات قيم تعطي تلك السلوكات مبررات وجودها وأوجه اتساقها مع حالته الإنسانية، ويظهر ذلك جليا وبوضوح حين نقارن فعل الاستهلاك الإنساني بقرينه عند غيره من الكائنات الحية، إذ في الوقت الذي لا مبرر للحيوان مثلا في الإقبال على العلف سوى ظهوره في محيط تحركه، كما أن لا مبرر يفسر له مدى احتياجه للنظافة قبل وأثناء وبعد الأكل.. وأيضا قد لا يحتاج إلى طرح أي سؤال يتضمن قيمة نقدية للشيء المستهلك، اللهم إلا الاستجابة لدواعي الداخل التي تبرر الاستمرار في الاستهلاك، ومن تم سيظهر جليا أيضا أن الاستهلاك عند الحيوان أمر مقصود لذاته لا لغيره، مما يمكن تفسيره بكون الاستهلاك عند الحيوان يدخل في نطاق الذات ليس الموضوع، على خلاف الإنسان الذي يعتبره موضوعا قابلا للتأمل والضبط بعنصر ذاتي ملازم للإنسان هو عنصر القيم.
الاستهلاك من تغذية الحاجة إلى لتحول لفلسفة في الحياة
إن تحول “الاستهلاك” إلى فلسفة تنتظم حياة الإنسان لهو أمر خطير يستهدف إنسانيته مباشرة، بحيث أن القيمة الوظيفية للاستهلاك تلغى، ويحل معها الفعل لذاته، حتى يصير على درجة من التقديس لا يمكن أن يتقيد بقيم من خارجه، وبيان ذلك أن الإنسان حين لا يستدعي منظومات القيم المرجعية ليُسائل بها فعله الاستهلاكي يتحول الاستهلاك ذاته إلى قيمة مبررة لذاته، فلا داعي لطرح سؤال “الحلية والحرمة” على المستهلك، كما لايُطرح سؤال الفائدة المرجوة من الاستهلاك من عدمها أيا كانت الفائدة صحية، أو مضرة بالصحة مثلا في الغذاء.. بل إن الأمر يتعدى إلى حدود اضمحلال المبرر الوظيفي للمستهلَك من حيث الأصل، كأن يهمل الإنسان البحث عن المبرر الوظيفي الأصلي لاستهلاك المنتج، ومدى تأدية المستهلك منه لمبرر أصلا، فلا يطرح السؤال على أداء اللباس المستهلك لدور الستر من عدمه، أو لأداء الغذاء المتغذى به لدور الإشباع…كل ما يهم هو الخضوع لسطوة الرغبة في الاستهلاك…
دور المؤسسات الإعلامية في تحويل الاستهلاك إلى فلسفة
لما ذكرنا في ما سلف أن الاستهلاك حين يتحول من إشباع الرغبة إلى فلسفة تنتظم الحياة، فإنه يقتل إنسانية الإنسان، وبررنا ذلك بكونه يؤدي إلى إهمال الإجابة عن سؤال القيم، ولو في مستوياتها الدنيا التي هي القيم الوظيفية، فإننا لن نغفل أن هذه النتيجة لا تتحقق ببساطة، بل هي نتاج جهود جبارة يبدلها تحالف المؤسسات الاقتصادية والمؤسسات الإعلامية خصوصا العابرة للقارات منها..
إن الإمبراطوريات الاقتصادية التي صارت تنتج من أجل التسويق ما يحتاجه الناس وما لا يحتاجونه من سلع، تفهم انه لابد من أدوات جبارة لتسويق تلك الإنتاجات خصوصا منها عديم الفائدة من أصله، لذلك عقدت اتفاقية مصالح ضمنية مع المؤسسات الإعلامية التي تخاطب الجمهور، مضمون تلك الاتفاقية هو إقناع المتابع/الإنسان بضرورة الاستهلاك ولو بغير قصد إشباع حاجة، وضرورة الاستهلاك دون طرح أسئلة القيمة على المنتجات المراد استهلاكها، ولأن مرجعية القيم لا مدخل لها إلى بنية الإنسان سوى باب العقل والوعي عبر محاولة إقناع الإنسان باقتراح القيم المضافة للسلع المراد ترويجها، فإن المؤسسات الإعلامية صارت إلى إنتاج خطاب إشهاري للسلع لا يتكئ على مخاطبة الوعي بل ينبني على مخاتلته، ومفاجأة الاوعي بمجموعة مؤثرات تعطل فاعلية العقل، وتجعله كسيحا عن طرح الأسئلة النقدية القيمية، الأمر الذي يجعل الإنسان في نهاية المطاف يستهلك منتوجا معينا فقط لكثرة ورود وصلاته الإشهارية على قنوات الفضائيات، دون أن يهم مضمون تلك الوصلات الإشهارية، فينقرض تدريجيا المنحى الإشهاري الذي كان يراهن لتسويق منتج ما على محاولة بيان مدى قدرته على تحقيق القيمة الوظيفية كحماية اللثة، أو تحقيق قدر كبير من البياض والتنظيف، أو الاحتواء على القيم الغذائية … وتحل مع هذا الانقراض حالة تصير معها الألوان والبهرجة والصخب وكثرة الحركات المرافقة للوصلات الإشهارية هي الأدوات التي تخدر العقل لزمن يكفي ليتلاشى كل شيء بعدها ولا يبقى سوى اسم المشروب الفلاني، أو اللبوس الفلاني، أو المجمعات السكنية الفلانية… لكن لماذا هي دون غيرها، بالتأكيد لن تجد الجواب.
فلسفة الاستهلاك واستهداف القيم، استهداف لإنسانية الإنسان
حين تتعطل فاعلية طرح سؤال القيم على الاستهلاك، ويحل محلها منطق فلسفة الاستهلاك على النحو الذي بيناه، تتلاشى تدريجيا إنسانيته ويحل محلها الكائن المستهلك دون حدود، ودون حاجة، ودون أفق، ودون ناظم… حينها لا يمكن أن تحدث الإنسان بخطاب يتأسس على “قيمه الناظمة” فلا يستطيع الفرد نفسه كبح جماح الرغبة في الاستهلاك داخله بمبرر كون المستهلَك “حراما”، أو كونه “قاتلا على المدى البعيد” أو غير ذلك..
كما لا تستطيع الجماعة تمييز ذاتها عن الغير بالتذكير بكون هذا المستهلك “ملبوسا” مخالفا في قيمته الوظيفية للقيم الدينية، أو للأعراف الاجتماعية الخاصة…
كما لا تستطيع الذات الحضارية أن تدافع بنفسها عن قيمها الجمعية بكون استهلاك المنتوج الفلاني المعين يؤدي بالضرورة إلى دعم الخصوم أو الأعداء، وإلى الإضرار بالتحيزات الخاصة، باعتبار أن هذا المنتوج تبت بالدليل دعمه للاتجاهات الشوفينية التي تستهدف نشر ثقافة العنصرية والكراهية، وبالتالي نقض الهويات الخاصة…
لا تستطيع فلسفة القيم تلك أن تروض حركية الإنسان ليسير وفق منطق إنسانيته التي تلزمه أن يقول للمنتج المستهلَك “نعم” وقت تسمح القيم بقولها، أو “لا” وقت تلزم القيم بقولها، فقط لأن تحول الاستهلاك إلى فلسفة يؤدي إلى الحجر على إنسانية الإنسان، حين يصبح خاضعا لسطوة الاستهلاك، وضحية لمؤامرة الإمبراطوريات الاقتصادية والسياسية من جهة، والإمبراطوريات الإعلامية من جهة أخرى.
“تتحكم السلع )الأشياء( في المنتج )الإنسان( بدلا من تحكمه فيها. وفي المجتمع الاستهلاكي تصبح السلع ذات قيمة محورية في حياة الإنسان تتجاوز قيمتها الاقتصادية وغرضها الاستعمالي، فكأن السلعة أصبحت ذات قيمة كامنة فيها، لها حياتها الخاصة ومسارها الخاص، متجاوزة الإنسان واحتياجاته.وهذا مثل جيد للمرجعية المادية الكامنة في السلعة، والتي تجب المرجعيات المتجاوزة كافة –ومنها المرجعية الإنسانية-“
فلسفة الاستهلاك ومنظومة القيم الإسلامية
إن جوهر ما جاء الإسلام به هو نشر عقيدة التوحيد، بما تعنيه من إخلاص الله تعالى بالعبودية وتحويل اتجاه الحياة الإنسانية في إطلاقها إلى خضوع المطلق للمنظومة القيمية التي سبكها القرآن الكريم في آية جامعة:
” قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)”
وهذه المنظومة بالتأكيد كغيرها من المنظومات القيمية – بل لعلها أكثر منها – تصادم فلسفة الاستهلاك أي مصادمة.
إن منظومة القيم الإسلامية ترنو تتأكيد إنسانية الإنسان حين تستهدف تحريره من كل أنواع العبودية لغير خالقه، إذ حين تتجه سريرة الإنسان إلى إفراد الله تعالى بالتوحيد، فإنه وبالضرورة تتجه همته إلى التحرر من كل صور الاستعباد المتناثرة في الحياة الدنيا، لأن محصلة التوحيد تقنعه بأنه سيد في الحياة وليس عبدا للمخلوقات مهما كانت سطوتها نابعة من داخله فقد أيقن أن الله ” هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)”
وما خلق للإنسان لا يمكن أن يتحول الإنسان إلى مخلوق لأجله !!! وهنا مكمن تناقض منظومة القيم الإسلامية مع “فلسفة الاستهلاك” التي تضرب القيم في مقتل وتحول الإنسان إلى مخلوق لأجل السلع التي تحل محل “الإله”، كما يبين الدكتور عبد الوهاب المسيري، حين يقول: “لكل هذا تصبح السلعة مثل الوثن الذي يعيده الإنسان مركز الكون الكامن في المادة، والهدف الأوحد من لوجود، فينحرف الإنسان عن جوهره الإنساني )في النظم الإنسانية(، وعن ذاته الربانية المركبة التي لا يمكن أن ترد إلى عالم الطبيعة/المادة والأشياء، )النظم التوحيدية(“
من هنا فإن منظومة القيم الإسلامية تبسط مساحة مهمة للحديث عن ترشيد الاستهلاك، حتى يعود إلى حيزه الطبيعي ابتداء بالاستجابة لنداء حاجة، وانتهاء بتلبية تلك الحاجة، وحين نتحدث عن ترشيد الاستهلاك، فإن توجيه الأنماط والعادات الاستهلاكية، يصير ضرورة ملحة، بحيث يتسم السلوك الاستهلاكي للفرد أو الأسرة بالتعقل، والاتزان، والحكمة، والرشادة الموضوعية والمنطقية، ومن ثم يكون استغلال الفرد لما يملك استغلالا متزنا وسلوكه سلوكا معتدلا، يتناسب مع تصوره الاعتقادي والأخلاقي وواجبه تجاه الأمة والمجتمع”
نحاول النظر – على عجل- في مجموع آيات قرآنية لها علاقة بموضوع الاستهلاك محاولين الإشارة إلى ما يمكن أن نسميه “خارطة ذهنية” أولية لمنظومة القيم الإسلامية الهادفة إلى تحقيق ترشيد للاستهلاك.
“قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
تبتدئ معالم هذه الخريطة الذهنية بالتنصيص على ثلاث أمور مهمة واردة في الآية نفسها من سورة الأعراف، حيث تنص هذه الآية على:
– الأمر الأول: وهو أن الله أخرج الطيبات من الرزق للإنسان.
– والأمر الثاني: هو أن اختصاص الإنسان بالطيبات من الرزق يعني عدم امتلاك أحد حق مصادرة هذا الاختصاص.
– والأمر الثالث هو أن خالق تلك الطيبات للإنسان هو من اشترط لها أن تكون من الطيبات لا من غيرها.
ولما أقر القرآن الكريم للإنسان بتكريمه لمقتضى إنسانيته بالرزق المخلوق في الأرض، وضمن له عدم اختصاص أحد بمصادرة حقه في الاستهلاك، مشترطا لهذا الاستهلاك أن ينصب على “الطيبات”، فقد فصل في آية أخرى معلما آخر من معالم الخريطة الذهنية للقيم الإسلامية الناظمة للاستهلاك، ببيان حدوده فقال تعالى:
“وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا (67)”
فقيدت الآية الاستهلاك بتحقيق الإشباع للحاجات دون خضوع لفلسفة الاستهلاك التي تصيره مقصودا لذاته، وهو ما زادت الآية من سورة الإسراء بيانه بقوله تعالى:
“وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا (29)”
ولعل أن يظن ظان أن الاستهلاك رهين بطيبة من الطيبات دون غيرها فإن الآية الكريمة من سورة الأعراف نصت تنصيصا على نعمة اللباس وعلى نعمة الأكل والشرب، “يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)”
بعدما تحدثت الآيتان السالفتان عن إنفاق في المال، أي أن مجموع الآيات يشير إلى الاستهلاك منذ مرحلة إنفاق المال في اقتناء السلع إلى مرحلة الاستهلاك للسلع عينها.
وإذا كان إنفاق المال في تلبية الحاجات الدنيوية مقبولا ما التزمت القواعد القيمية المرتبطة بدم الإسراف والتقتير، وحصر النفس عن الإقبال على الشهوات الطيبات، فإن الآيتين من سورة الإسراء تنبهان إلى أن من أعظم وجوه الإنفاق الملازمة لإنسانية الإنسان، إقباله على أن ينفع الإنسان الإنسان، بأن يجعل الواجد لمن لا يجد نصيبا من الطيبات، فيتَبّت الإنسان بذلك إنسانيته، بأن يتمرد على الخضوع لإغراء الفائض عن احتياجه من السلع، ويعطيه بالمقابل لمن هو في حاجة إليه.
“وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)”
خاتمة:
تلك معالم معضلة بات الإنسان اليوم متجها باطراد للغرق في أتونها، وجب التنبيه عليها عبر صياغة رؤى ومشاريع فكرية تدفع في اتجاه الانعتاق من استحكامها، ذلك أن حركة الإنسان التحررية على المدى الطويل للتدافع مع مشاريع الاستعباد، كانت تتأسس على الاستجابة للإشارات التي ترسلها منارة إنسانيته، وهذا يؤكد أن الإنسان لن يكون مستغنيا عن الرسو في الضفة التي تصدر عنها منارة إنسانيته، بحيث يقبل تغييب جوهر من جواهرها وهو عقله، لا لشيء سوى للاستجابة لنداء الاستهلاك، ويزيد الأمر وضوحا حين نلتفت إلى مدرسة الإسلام التي تجعل الإنسان خليفة لله عز وجل بما هو إنسان، ومن تم فزوال هذه الإنسانية زوال للمرجع المركزي الذي به يستحق مرتبة الخلافة عن الخالق، وبه يستحق التكريم الرباني..
تلموت
المراجع
القرآن الكريم
إشكالية الذوق الفني عند محمود محمد شاكر، “خليفة بن عربي”، صفحات للدراسة والنشر سورية دمشق، الطبعة الأولى 2011م.
النظام الاقتصادي الإسلامي، محمد عبد المنعم عبد القادر / دار المجمع العلمي – جدة 1399 ه – 1979 م.
العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة عبد الوهاب المسيري دار الشروق الطبعة الأولى 1423ه/2002م
ترشيد الاستهلاك في الإسلام، كامل صكر القيسي، دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي، إدارة البحوث، الطبعة الأولى 1429ه/2008م،