ليس للعبادةِ والاستقامةِ تاريخُ صلاحية، أو أوانُ انقطاع

الحمد لله قال وهو أصدق القائلين الذي جعلَ في السَّماءِ بُروجًا، وجَعَل فيها سِراجًا وقَمرًا مُنيرًا، وهو الذي جَعَلَ اللَّيْلَ والنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أو أَرادَ شُكورًا،

والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد القائل:” النَّاسُ غَادِيَانِ: فَمُبْتَاعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا، وَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُوبِقُهَا )( رواه الامام احمد(

ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعلَ لكلِّ أجَلٍ كتابًا، ولكلِّ عملٍ حسابًا قال في الحديث القدسي(يا عبادي، إنَّما هي أعمالُكم أُحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إيَّاها، فمَن وجد خيرًا فليحمدِ الله، ومَن وجد غيرَ ذلك، فلا يلومنَّ إلاَّ نفسَه) ؛ رواه مسلم.

ونشهد أن سيدنا و نبينا ومولانا محمدا عبد الله و رسوله رسله الله شاهِدًا ومُبشِّرًا ونَذِيرًا، وداعِيًا إلى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وسِراجًا مُنِيرًا، بلَّغ الرسالةَ، وأدَّى الأمانة، ونصح الأُمَّة، وجاهَد في الله حقَّ جهاده حتى أتاه اليقين،

صلى الله عليه وسلم من نبي أمين، ناصح حليم، وعلى آله وصحابته و التابعين، وعلى من حافظ على دينه و شريعته واستمسك بهديه وسنته إلى يوم الدين .

أما بعد ، من يطع الله ورسوله فقد رشد واهتدى، وسلك منهاجا قويما وسبيلا رشدا ومن يعص الله و رسوله فقد غوى واعتدى، وحاد عن الطريق المشروع ولا يضر إلا نفسه ولا يضر أحدا، نسأل الله تعالى أن يجعلنا و إياكم ممن يطيعه ويطيع رسوله، حتى ينال من خير الدارين أمله وسؤله، فإنما نحن بالله و له .

عباد الله : ودعنا رمضان الكريم وودعنا أيامه الفاضلة ولياليه الزاهرة ودعنا رمضان وقد أودعناه ماشاء الله أن نُودِع من الأعمال والأفعال والأقوال، حسنِها وسيئها، صالِحها وطالِحها، والأيامُ خزائنُ حافظةٌ لأعمالنا، ندعى بها يوم القيامة حيث يُنادي علينا ربنا الذي لا يظلم الناس شيئًا، بل يُوَفِّيهم أجورَهم ويزيدُهم من فضله، قال تعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]

ودعنا رمضان وودعنا أسواقه الرابحة وسلعه الغالية، رَبِح فيه مَن ربح، وخَسِر فيه مَن خسر، فمَن كان محسنًا، فليحمدِ لله، وليسألِ الله القَبولَ، فإنَّ الله – جلَّ وعلا – لا يُضِيع أجْرَ مَن أحسن عملاً، ومَن كان مسيئًا فليتبْ إلى الله، فالعُذر قبل الموت مقبول، والله يحبُّ التوَّابيـــن، نسأل الله أن يغفرَ لنا ولكم ما سَلَف من الزَّلل، وأن يُوفِّقنا وإيَّاكم للتوبة النَّصوح قبلَ حلول الأجل.

ودعنا رمضان وإنَّ لنا في انقضاءِه عِبرةً وعظة، عشنا شهرا فَرِحينَ متنعمينَ بأيامه و لياليه ، ثُمَّ انقضى وكأَنه طيفُ خيالٍ، ودعنا مرحلةً مِنْ حياتِنَا لَنْ تعودَ إلينا أبدًا، وإنَّما يبقى لنا ما أودعنَاهُ فيها مِنْ خيرٍ أو شرٍّ، وهكذا الأيامُ التي تمرُّ علينا تنقصُ منْ أعمارِنا، وتُقرِّبنا مِنْ آجالِنا، قال الحسن البصريُّ – رحمه الله -: “ابنَ آدمَ، إنَّما أنت أيَّام، إذا ذهبَ يومُك ذهبَ بعضُك“.

تَمُرُّ بِنَا الْأَيَّـــــــــــامُ تَتْرَى وَإِنَّمَـا         نُسَاقُ إِلَى الْآجَالِ وَالْعَيْنُ تَنْظُرُ

فَلاَ عَائِدٌ ذَاكَ الشَّبَابُ الَّذِي مَضَى       وَلاَ زَائِلٌ هَذَا الْمَشِيــبُ الْمَكَدَّرُ

أيُّها الأحبَّة في الله: لقد كان الشَّهرُ الراحلُ ميدانًا لتنافُسِ الصالحين بأعمالهم، ومجالاً لتسابُقِ المحسنين بإحسانهم، لكن بعض الناس و هم كثير ما إن خرجوا من رمضان إلى شوَّال حتى خرجوا من الواحة إلى الصحراء، ومن الهداية إلى التِّيه في البيداء، كنا نراهم في رمضان مجتهدين في الطاعة، فلا تقع عين الواحد منا عليه إلاَّ ساجدًا راكعا ، أو تاليًا للقرآن باكيًا متخشعا، حتى ليكاد يُذكِّرك ببعض عُبَّاد السلف، وأخيار الخلف فما انقضى الشهرُ حتى عاد إلى التفريط والمعاصي، غافلا عن يوم يساق فيه العصاة المجرمون إلى النار بالأقدام و النواصي، فبعدَ أن عاش شهرًا كاملاً مع الإيمان والقرآن وسائر القُربات، انتكس إلى الوراء كأنه ما صام ولا صلى، و لا استفاد مما سمع من آيات الله تتلى، وهؤلاء هم عبادُ المواسم، لا يعرفون ميدان الفضل إلا تبعا للناس، فالعبادة عندهم طقس و عادة، لم يتذوقوا لها معنى و لم تزدهم في إيمانهم زيادة يكاد يصدق عليهم قول القائل:

صَلَّى الْمُصَلِّي لِأَمْرٍ كَانَ   يَطْلُبُهُ ♦♦♦ لَمَّا انْقَضَى الْأَمْرُ لاَ صَلَّى وَلاَ صَامَا

هؤلاء يُودِّعون في رمضان قيدًا ثقيلاً غَلَّهم عن شهواتهم الخسيسة، و أحوالهم النحيسة، فهم يفرحون لذَهابه فرحَ السجينِ إذا أُطلق من العقال، ويزهون زهو المحرومِ إذا نال، سرعان ما يتمردون على رمضان التمرد المعروف، ويبتهجون بشوال ابتهاجهم المـألوف، لسان حالهم مع قول القائل يقول:

فَإِنْ شَالَ شَوَّالٌ نُشِلْ فِي أَكُفِّنَا ♦♦♦ كُؤُوسًا تُعَادِي الْعَقْلَ حِينَ تُسَالِمُهُ

او قول من يقول :

رَمَضَانُ وَلَّى هَاتِهَا يَا سَاقِي ♦♦♦ مُشْتَاقَةً تَسْعَى إِلَى مُشْتَاقِ

حمق و مجون، و فسق و جنون، ليسوا مِن رمضانَ ولا مِن أهله، أنسهم بالغزل والهيام، ومعاقرة الحرام، مَنهم من يعود إلى شِيشته ونرجيلته، وسيجارته وقناته، ومنهم من يعود إلى صفحات الإنترنت غير اللائقة، وغُرفها الماجنة المارقة، هؤلاء عافانا الله وإياكم من حالهم ليسوا من رمضان ولا مِن أهله، ولا من عتقاء آخره أو مرحومي أوله.

وهناك صِنفٌ نقاهم رمضان بنقائه، و صفاهم الصيام بصفو صفائه، تألَّموا على فراقه وتحرقوا على اشتياقه ؛ لأنَّهم ذاقوا حلاوةَ العافية، فهانت عليهم مرارةُ الصبر؛ عَرَفوا حقيقة القرب الى الله ليلة القدر وضعف ذواتِهم مع العجز و الفقرِ، نعم الفقر الى الله وطاعته، والحاجة إلى ربِّهم و فضله ورحمته لأنهم صاموا حقًّا، وقاموه شوقًا، فتحققوا بالمعرفة ذوقا فأخلصوا لله تعبدا ورقا، فأخبِرْني أخي المؤمن وأخبريني أختي المؤمنة بربِّكما مِن أيِّ الصنفين أنتما؟ وبالله هل يستويان؟! الحمد لله، بلْ أكثرهم لا يعلمون؛ ﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾ [ص: 28.

عباد الله: انتهى رمضانُ، فرأينا أناسًا على العبادةِ استقاموا، وعلى عملِ الخيرِ والبرِّ استمرُّوا، وعلى جليلِ الطاعةِ داوموا، وهذا ديدنُ المؤمنين وهِجِّيراهم، إذ المؤمنُ لا يعرفُ العبادةَ في زمنٍ، ثم ينفكُّ عنها، أو ينشطُ لها في أوان، ثم يَهجرُها، إذ المرادُ من العبدِ ما قصدَه الله من عباده فيما خَلقَهم له أن يَعبدوه وحده لا شريكَ له، وأنْ تدومَ عبادتُهم له؛ قال الله – تعالى -: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162] ، وقال – تعالى -: ﴿ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 71]، وقال – تعالى -: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾[الحجر: 99].

فليس للعبادةِ والاستقامةِ تاريخُ صلاحية، أو أوانُ انقطاع، أو زمنُ نهايةٍ، قبلَ أَنْ تضعَ الرُّوحُ عصى الترحالِ، أو تُسلِمَ إلى باريها الحالَ.

يقول الله – تعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت: 30]،أينَ الذين عمروا المساجدَ في رمضان، وازدحموا في ليلةِ سبعٍ وعشرين، وختم القرآن؟! أين الأصواتُ المدويةُ بتلاوةِ التالِين؟! أينَ الذينَ تكاثروا على المساجدِ والمراكزِ الخيرية؛ آداءً للزكاةِ، ودفعًا لصدقة الفِطرِ؟! هل زاغتْ عنهم الأبصارُ، أو تخطفهم طيورٌ مِنَ السماء، أم حلَّتْ بِهم قارعةٌ في الدِّيار، أم أصابتْهم نازلةٌ أقعدتْهم على الفُرُشِ، أم أصابتهم سِهامُ المنايا فجعلتهم جثثًا هامدةً؟!

نعوذُ بالله مِنَ العمى بعدَ البصيرة، ومن الضلالِ بعد الهدى، وإنَّ تلْكُمْ لمأساةٌ كُبرى، وخسارةٌ عُظمى أنْ يبنيَ الإنسانُ ثم يهدم، وأَنْ يستبدلَ الذي هو أدْنى بالذي هو خيرٌ. قال تعالى وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا (النحل 92)

فيا أيها الصائمونَ القائمون، الداعونَ المتصدِّقون في رمضان، لا ترجِعُوا بعدَ الجماعةِ في المسجدِ إلى الصلاةِ في البيوتِ فُرادَى، ولا بعدَ القيامِ مع الإمامِ في الصلاةِ إلى القيامِ على الشاشة، والسَّهَرِ الحرام.

فحذارِ حذارِ مِنَ النُّكوصِ على الأعقابِ، حذارِ – يا عبد الله – بعدَ أَنْ كنتَ في عدادِ الطائعين، وحزبِ الرحمنِ المفلِحين، فأُسبِلَ عليكَ لباسُ العفو والغفران، أَنْ تخلَعهُ بالمعصيةِ فتكونَ من حِزْبِ الشيطان.

إنَّنا نقولُ لِمنْ صاموا وقاموا وتصدَّقُوا، وصلُّوا العيدَ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 33]، لا تُبطلوا صيامَكم وقيامَكم، ودعاءَكُم وإنفاقَكُم في رمضان بتَرْكِ الطاعةِ فيما بعدَه، فكما أَنَّ الحسناتِ يُذهبنَ السيئات، فكذلكَ السيئاتُ تأكل الحسنات         و تذهب ببهاء نورها بتراكم الظلمات. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ ( كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) ) .رواه الترمذي (وقال : حسن صحيح) و الرين هو الغشاوة و الطبع طبع على القلوب بالغفلات وارتكاب الذنب بعد الذنب من غير توبة و لا ندم و لا استغفار. عباد الله اذكروا قول الله تعالى﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾]. الأنفال: 2- 4[

نفعني الله و إياكم بالذكر الحكيم و كلام سيد الأولين والآخرين سبحان ربك رب العزة عما يصفون،

الخطبة الثانية

الحمد لله على نواله وإفضاله، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد النبي الأمي، الصادق الزكي، و على آله ، وعلى جميع من تعلق بأذياله ، ونشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده و رسوله وبعد :

أيها المومنون لَئِنِ انْقضتْ أيّامُ صيامِ رَمضانَ؛ فإنَّ الصيامَ لا يزالُ مَشروعًا -وللهِ الحمدُ-في كلِّ وقتٍ. فقد سنّ رسولُ الله-صلى الله عليه وسلم-، ورغّبَ في صيامِ أيامٍ غيرِ رمضان، ومِن ذلك: صيامُ سِتٍّ مِن شوال. فقدْ ثبَتَ في الحديثِ الذي أخرجَهُ مسلمٌ عنْ أبي أيوبٍ الأنصاريِّ -رضي الله تعالى عنه-، عنِ النبيِّ-صلى الله عليه وسلم- أنه قال “مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ؛ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ ” [رواه مسلم] ومعنى الحديثِ -أيها المؤمنونـ أنَّ مَنْ صامَ رمضانَ كاملاً فَلَمْ يكنْ عليهِ مِنْهُ قضاءٌ لِعُذْرٍ، ثم صامَ بعدَهُ مِنْ أيامِ شوالَ -غيرِ يومِ العيدِ- سِتّةَ أيامٍ؛ كان كمَنْ صامَ السَّنَة كلَّها. أما مَنْ كان عليه قضاءُ أيامٍ أفْطَرَها مِنْ رمضانَ لِعُذْرٍ؛ فَلْيُبادِرْ إلى صيامِها، فالفرضُ أولى بالتّقديم، ثم يُتْبِعُها بصيامِ سِتٍّ مِنْ شوالَ؛ لِيَتَحَقَّقَ له بذلك إكمالُ الصيامِ المفروضِ، ويَتِمَّ له إدراكُ فضْلِ السِّتِّ مِنْ شوالَ بعد ذلك.

وهنا مسائلُ ينبغي التنبيهُ عليها، تتعلقُ بصيامِ السِّتِّ مِنْ شوالَ:

فمِنْ ذلك: أنَّ بعضَ الناسِ يكونُ عليه قضاءُ يومٍ أو يومين مِنْ رمضان، فإذا صامَها في شوال؛ جَعَلها معدودةً مِنْ صِيامِ سِتّةِ أيامٍ مِنْ شوال! وهذا خلافُ الصواب. قال ابنُ رجبٍ – رحمه الله تعالى- : ((ولا يحصلُ له فضلُ صيامِ سِتٍّ مِنْ شوالَ بِصَوْمِ قضاءِ رمضان؛ لأنّ صيامَ السّتِّ مِنْ شوالَ إنما يكونُ بعد إكمالِ عِدّةِ رمضان)) اهـ كلامُه.

أيها المؤمنون بعضُ الناسِ من يصوم السِّتِّ من شوال يُنكِرُ ويَعيبُ على مَنْ تركَ صِيامَها أو صيامَ بعضِها، وهذا الإنكارُ في غيرِ محلِّه؛ لأنَّ صيامَها مِنْ باب الترغيبِ في الخيرِ، لا مِنْ بابِ الوجوب على المكلَّفِ ولكنْ مَنْ تركها؛ فقدْ تَرَكَ فَضْلاً عظيماً.

ومِنْ ذلك أيضًا: أنّ بعضَ الناسِ يتحرجُ مِنْ صِيام السِّتِّ مِن شوالَ بِحُجّةِ إنّهُ إذا صامَها -ولو سَنَةً واحدةً-؛ أصبحتْ واجبةً عليه في كلِّ سَنَةٍ بعدها! وهذا خطأ؛ لأن أصلَ صِيامِها ليسَ واجِبًا في أصْلِ الشرعِ، بلْ مَنْ صامَها؛ فَهُوَ مأجُورٌ، ومَنْ تركَ صِيامَها؛ فهو غيرُ مأزُورٍ، ولكنّهُ فَرّطَ في خَيْرٍ كثير.

ومِنْ ذلك أيضًا: أنّ بعضَ الناسِ يعتقدُ أنّ فضيلةَ صيامِ السّتِّ مِنْ شوالَ تكونُ بعدَ العيدِ مُباشرةً، وأنّ فضلَها ينقصُ كلّما أخّرَها عن أوّلِ الشهر! وهذا غير صحيح؛ إذْ إنّ وقتَها مفتوحٌ طوالَ شهرِ شوالَ، فمَنْ شاء؛ صامَها في أولِ الشهر، أو في أوسطِه، أو آخرِه، وفي كلٍّ خير.

ومِنْ ذلك أيضاً: أنّ بعضَهم يَظُنُّ أنّ فضلَ صِيامِها لا يتحقّقُ إلا بالتتابُعِ في أيامِها! وهذا كسابِقِه لا دليلَ عليه، والأمرُ في ذلك واسع؛ فيجوزُ صومُها متتابعةً سَرْدًا، ويجوزُ صومُها مُتفرِّقةً خلالَ الشهر. فلا فرْقَ بين أنْ يُتابِعَها أو يُفَرِّقَها مِنَ الشهرِ كلِّه، وهما سواءٌ. نعم، يصح أن يُقالَ: إنّ المبادرةَ في أولِ الشهر بِصومِها مُتتابِعَةً مِنْ بابِ المسارعةِ إلى فِعْلِ الخيراتِ.

سعيد منقار بنيس

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى