النموذج التنموي وجائحة كورونا..لمن سترجح المراجيح؟ – الحبيب عكي
لاشك أن اللجنة الوطنية المكلفة بإعداد النموذج التنموي الجديد، تواجه مهمة جد صعبة في بحر لجي من الإكراهات والمتناقضات، أولا باعتبار تقنوقراطييها الذين يطغون على تركيبتها في الغالب بينما يرى الآخرون أن الإشكال شئنا أم أبينا هو سياسي قبل كل شيء، ثانيا، باعتبار هذه اللجنة ستكون في مواجهة مكشوفة مع نموذج تنموي طالما ساد التغني به من طرف أباطرته والتطبيل لمنجزاته المبهرة في نظرهم، بينما الرأي الرسمي يعلن عن فشله، بما لم يؤدي إلا إلى مغرب مهدد بالسكتة القلبية في عهد، ويسير بسرعتين حينما حاول النهوض والسير في عهد، وتغيب فيه العدالة الاجتماعية والمجالية، وفشلت سياساته المتعاقبة في تحسين مستوى عيش المواطن، وإنالته حظه من الثروة الوطنية على قدم المساواة.
وتزداد هذه الصعوبة عندما تجد هذه اللجنة نفسها أمام خيارات أحلاها أقسى من قاسية. فهل ستكون لها الجرأة على التجديد والإصلاح الفعلي، أم ستقع ضحية المسكنات والاجترارات المتهالكة، حبيسة تنمية التخلف ولو بأصباغ براقة ولكنها هالكة؟ هل ستستطيع في طرحها التنموي التخلص من أسباب فشل النموذج القديم وتجديد النخب والسياسات وتجاوز لوبيات الإفشال؟ كيف هي مع مغاربة التعدد والتنوع والصراع المحتدم، تحسبهم جميعا بحكم المقدسات والإجماع الوطني، وقلوبهم في المصالح والأيديولوجيات شتى متناطحة؟ كيف هي مع ثقافة الاستهلاك بدل الإنتاج وكثرة الطلبات والاحتياج وقلة الإمكان والإنتاج؟
عقودا من الهذر التنموي وتشويه نموذجه المستدام والمجالي والإنساني، كثرت المجالات والقطاعات المتضررة، وأصبح منتظر حظه من التنمية – خاصة في العالم القروي والمدن النائية – كصاحب حقل ينتظر في حقله وصول الماء ليسقيه،والساقية على امتدادها من الحقل إلى العين،ثقوب وثقوب، بل خروق وخروق، ضاع عبرها وعبر قراصنتها كل الماء، وأصبح المواطن المنتظر يتساءل وقد كاد جزاء انتظاره يكون مجرد الانتظار، بأي الخروق سيبدأ هذا النموذج؟ بأي حقل وبأية ساقية وبأي عين؟ وهكذا لبدت أفقه كل الأسئلة الحارقة، سؤال المقاولة المواطنة التي شلت الجائحة حركتها، سؤال الجهوية واللامركزية، سؤال البطالة والشباب، سؤال الهجرة والكفاءات، سؤال الأسرة والطفولة، سؤال القيم وتخليق الحياة، سؤال العالم القروي، وسؤال..وسؤال..؟؟
لكن سؤال الأسئلة هو هل لا تزال العين لم تنضب بعد وفيها بقية ماء يتدفق؟ أم سيمدونها بعيون أخرى؟ وكيف، ومتى، ومن أين، من الداخل أم من الخارج؟ أم سيبحثون عن الماء في نفس الحقل وعن مصادر الانتعاش في عين المكان؟؟
وفعلا، انطلقت أشغال اللجنة وبدأت تتحرك، ولكن في أي اتجاه ولأي غرض وبأية سرعة ودمقرطة المشاورات، يبدو أن هناك بعض التذبذب، وهذا طبيعي كما يقول التنمويون، فمن لم يحدد في البداية وجهته فكل الوجهات تنتهي به إلى لا شيء،و هكذا فقد تم الاستماع إلى بعض الهيئات دون البعض، وعقدت لقاءات مع شباب دون شباب، وعبئت طاقات دون طاقات ومواطنين دون آخرين، وطبعا قبل أن تأتي الأرقام والإحصائيات الرسمية لتفحم الجميع كالعادة، جاءت – والعياذ بالله – جائحة “كورونا”، وكشف “الكوفيد 19 ” المشؤوم والفظيع عن كل المستور، وكلل المُر المُمرر، والعلقم المصبوغ، وبين بما لا يدع مجالا للشك أن الجميع كان يغرد خارج السرب، وكأن لا أحد يعرف ذاته أو يخطط لغيرها، نعم،رب محنة في طيها منحة، وكفى بمحنة “كوفيد 19” – رفع الله وباؤها وبلاؤها عنا وعن العلمين – ما قطعت أو ستقطع معه من تلك “الألعاب” السيئة الذكر التي اعتادت قلب الصور والحقائق في أعين الناس والدفاع عن ذلك باستماتة:”الجفاف…الصحراء…تعليمات وأوامر عليا…الظروف الإقليمية والدولية…”، وغير ذلك مما كانت تصلب على جدرانه انتظارات المواطنين باسمهم وهم يدرون ولا يدرون.
نعم، أعتقد مع الكثيرين أن جائحة كورونا – رغم فظاعتها – فقد كانت خير خبير استراتيجي للجنة النموذج التنموي الجديد وخير موجه استراتيجي لبوصلتها وأشغالها وجرأتها ونزاهتها، “كورونا” أظهرت أولويات حصل حولها الإجماع الوطني ولا مبرر للجنة بتجاهلها أو ترتيبها في غير مراتبها، أو برمجتها بأقل مما سيحققها على أرض الواقع، في الزمان والمكان والشكل والحجم والوتيرة المطلوبة، ومن ذلك:
1- مجال الصحة العمومية وتأهيلها
2- التعليم وإصلاحه والاستثمار فيه
3- الرقمنة الإدارية والعمل عن بعد
4- السجل الاجتماعي للمواطن وهيكلة القطاع غير المهيكل
5- الاستثمار في اقتصاد المعرفة والبحث العلمي والصناعة الوطنية
6- تنمية ما حصل من الثقة والتقارب بين المواطن ورجل الأمن والسلطة
7- العناية بفئة الأطباء والعلماء والأساتذة والخبراء بدل الدعاية الفارغة لقدوات التفاهة الهدامة
8- تنمية القيم المواطنة والاستثمار في المبهر مما ظهر من الذكاء الاجتماعي للمغاربة خلال الجائحة
9- مركزية المجتمع المدني وحقه الدستوري في المقاربة التشاركية والانخراط في صلب العملية التنموية بحق
10-الأسرة والطفولة والشباب، باعتماد سياسات تحارب التفكك والهشاشة، وتدعم الاستقرار والمودة والسكينة
وكل هذا في إطار عام ولوحة قيادة بوصلتها البارزة عنونها هو :”الإصلاح السياسي” الذي يضمن حق الشغل والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية مما يصلح البلاد والعباد، فعسى أن ترجح له كل المراجيح التنموية لا لغيره، وعسى أن تشرق للتنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان في بلادنا معاني وقيم وطنية جديدة، على الأقل فيما هو ممكن، وكل شيء – كما أظهرت نجاحاتنا ضد “كورونا” – إذا خلصت النوايا، وقويت العزائم، وتظافرت الجهود..، كان كل شيء أمكن من ممكن.