رؤية إنجيلية لعقيدة التنصير – بنداود رضواني
أولا: الأناجيل والتنصير، تناقضات واختلافات
لن نقف عند تلك المسلّمة التاريخية والعلمية المتعلقة بانقطاع السند بين نصوص الأناجيل القانونية الأربعة (متى – مرقس – لوقا – بوحنا)، وبين المسيح عليه السلام، فالكثير من نقاد الكتاب المقدس من مسيحيين وعلمانيين تواطأت أبحاثهم على تأكيدها، وأما علماء الإسلام فقد فرغوا من تثبيتها منذ أمد بعيد، إلا أن القضية الذي تحتاج الى المزيد من البحث هي تلك التي تبحث في شرعية التنصير وأصالته من خلال النصوص الإنجيلية، التي كانت ولا تزال القاعدة الأساس للعمل الإرسالي والمشاريع التوسعية في العالم.
لقد ورد في إنجيل متى “فاذهبوا و تلمذوا جميع الأمم و عمّدوهم باسم الأب والابن و الروح القدس”، وجاء في إنجيل مرقس “اذهبوا إلى العالم و اكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها”، أما في إنجيل لوقا فجاء فيه “وقال لهم هكذا مكتوب وهكذا كان ينبغي ان المسيح يتألم وتقوم من الأموات في اليوم الثالث ، وأن يكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم” .
ثمة دراسات قد تعرضت لهذه النصوص الداعية الى عالمية المسيحية بالنقد والتحليل، ويمكن تلخيص مضامينها في النقط التالية:
أولا: تعد خاتمة انجيل متى من الفقرات الدخيلة و المشكوك فيها ، فهي تنسب للمسيح قوله لتلاميذه اذهبوا و تلمذوا جميع الامم، وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس، ومصدر هذا الشك هو أن صفة التثليت التي تتكلم عن الأب والابن والروح القدس غريب ذكرها على لسان المسيح، و لم يكن لها وجود في عصر التلاميذ، بل انفرد بها متى عن مرقس ولوقا ، فالقول بالتثليت وألوهية المسيح لم يتقررا في العقيدة المسيحية إلا في مجمع نقية سنة 325م مما يؤكد أنها فقرات إلحاقية.
ثانيا: أما ما ورد في خاتمة إنجيل مرقس حول العالمية :”إذهبوا إلى العالم أجمع وأكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها”، فيعد من أهم المشكلات التي أكد عليها المحققون، إذ أوضحوا أن هذا النص مضاف لهذا الإنجيل في فترة لاحقة لزمن كتابته ، وأنها كذلك إلحاقية شأنه شأن النص السابق الوارد في إنجيل متى.
ثالثا: كثير من الباحثين ذهبوا إلي أن النص الذي تحدث فيه لوقا عن تخليص المسيح لجميع البشر وقال لهم هكذا مكتوب، وهكذا ينبغي أن يكرز بإسمه بالتوبة و مغفرة الخطايا لجميع المومنين مبتدأ من أورشليم قد أضيف إلى إنجيله من زميله بولس المنصر (شاؤول اليهودي).
لنا أن نتساءل بعد هذه الخلاصة النقدية لهذه النصوص الأسئلة التالية :
: هل يمكن أن يتأسس كل هذا الصخب التنصيري على أدلة مشكوك في أصالتها وشرعيتها؟ وهل يمكن أن تكون دعوة المسيح للأمم مبنية على ثلاثة نصوص فقط؟ ولنا أن نتساءل سؤالا ثالثا: أية الأدلة تكتسي طابع الأصالة و المصداقية؟، هل هذه الأدلة الداعية إلى التنصير. أم تلك الأدلة الأخرى المانعة من التنصير والتي وردت على النحو التالي:
جاء في إنجيل متى 1/ 20 “فستلد إبنا وتدعو إسمه يسوع لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم” ،وورد في نفس الإنجيل 10/85 “هؤلاء الإثنا عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلا: إلى طريق الأمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة، وفيما أنتم ذاهبون أكرزوا قائلين قد اقترب ملكوت السموات”، وجاء فيه كذلك ” وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم خرجت إليه قائلة : “ارحمني يا سيد يا ابن داود، إبنتي مجنونة جدا، فلم يجبها بكلمة، فتقدم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين إصرفها لأنها تصيح وراءنا فأجاب : لم أرسل إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة” 15/.2422، ويقول متى في موضع آخر، “ومتى جلس الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم أيضا على اثني عشر كرسيا تدينون أسباط إسرائيل” 19/2827، أما في إنجيل يوحنا ففيه نص يؤكد ما ورد في إنجيل متى جاء فيه: ” إلى خاصته جاء و خاصته لم تقبله” 1/1110.
فالباحثون في اللاهوت المسيحي لا يشكون في أن كُتّاب الأناجيل قد تأثروا في كتاباتهم بما دوّنه بولس في رسائله والتي تعد أقدم الأسفار المسيحية، على الرغم أن بولس هذا لم يكن قط من تلاميذ المسيح ، إلا أنه أول من استحدث عالمية النصرانية، يقول في رسالته الأولى إلى كورنثوس 9/2420، “فصرت لليهودي كيهودي لأربح اليهود ، وللذين تحت الناموس كأنني بلا ناموس مع أنني لست بلا ناموس لله ، بل تحت ناموس المسيح لأربح الذين بلا ناموس ، صرت للضعفاء كضعيف لأ ربح الضعفاء ، صرت للكل كل شئ لأخلص على كل حال قوما ، وهذا أنا أفعله لأجل الإنجيل لأكون شريكا فيه”.
التنصير، ثنائية الهدم والتشييد !!
من المؤكد أن الفكر الكنيسي حتى هذه اللحظات لم يستطع أن يبدد هذه التناقضات اللاهوتية التي أفرزتها الحركة البولسية، وبدل أن توجه الإمكانات المادية و العلمية في اتجاه البحث قدر الإمكان عن لاهوت متكامل و منسجم يجمع بين النظر والتطبيق ويوفق بين الفكرة والحركة، نجد التيار البولسي داخل كنيسة روما أكثر إصرارا على إنتاج المزيد من التناقضات، وذلك باستدعاء تأويلات تأصيلية وتقنينية وتفسيرات لاهوتية، بمنأى عن توجيهات ووصايا النص الإنجيلي.
إن خلاصة منطوق الأناجيل والمعترف بها كنيسيا هو أنه لا المسيح ولا الذين عاصروه، سمعوا أو شاهدوا المسيح يدعو غير بني إسرائيل، وبمعنى آخر فالحركة التنصيرية منذ نشأتها عقب نهاية الحروب الصليبية وحتى اليوم لا تستند إلى نصوص إنجيلية تدعم مشاريعها وأنشطتها. لذا فالسؤال هو حول ماهية أهداف الكنيسة التي ترجوها من وراء هذه المشاريع التنصيرية ؟
إن الكاشف الموضوعي لطبيعة الأهداف التي تتغياها الكنيسة من وراء هذه المشاريع، هو ما صرح به زعماء التنصير أنفسهم على اختلاف طوائفهم، يقول صمويل زويمر منشئ مجلة العالم الإسلام الإنجليزية وأحد رموز التنصير البروتستانتي خلال الربع الأول من القرن الماضي:إن لنتيجة إرساليات التبشير في البلاد الإسلامية مزيتين: مزية تشييد، ومزية هدم … وفي نفس السياق يلخص البابا يوحنا بولس الثاني أهداف هذه المشاريع التوسعية في عبارة واحدة وهي ” إعادة تنصير العالم”، وهو ما قام بإعلانه سنة 1982 في كميوستيل بإسبانيا.
فالهدف إذن ليس دينيا كما يروجون، ولو كان الأمر كذلك لكانت الكنيسة أولى المؤسسات التزاما واحتراما و تطبيقا لما ينسب إلى المسيح من أقوال وأفعال، بل الهدف الحقيقي هو التمكين لمركزية الرجل الغربي وإعادة تثبيت تفوقه على باقي الأجناس، لكن هذه المرة باسم الكنيسة لا باسم المسيح عليه السلام كما يدعي زعماء التنصير بهتانا وزورا.