د سعد الدين العثماني يكتب: 3- كيف تضر “الفردانية” بقيم الأسرة؟
إذا كانت العقلانية المفضية إلى الانقطاع عن الوحي هي السمة الأولى المؤثرة على تطورات الأسرة في الفكر الغربي الحديث، فإن السمة الثانية هي الفردانية. وفيها يكون الفرد في مركز مختلف الاهتمامات والخطابات، ونقطة البداية لكل جهد معرفي/ علمي أو واقعي/ عملي. وهو المبدأ الذي تطور ليتجه نحو تضخيم الفرد وجعله فوق أي سلطة أخرى.
ومن المهم أن نؤكد على أن نشأة توجه الفردانية في بداية تطور الحضارة الغربية كان في جزء مهم منه رد فعل على تقاليد سحق الفرد وقمع حريته وإبداعه، بما يجعله ذائبا في المجموع. وشهدت الفلسفة الغربية صراعا طويلا بين نوعين من الفردانية: النوع الأولى فردانية تهتم بحقوق الإنسان الأساسية وباهتمامه بذاته في تكامل مع الانتماء للأسرة ومع الروح الجماعية وبمصالح المجتمع، النوع الثاني فردانية يحمل بذور الأنانية والاكفاء الفرد بذاته والدوران حول رغباته. وقد سجل إميل دوركايم مبكرا في مقالته: “الفردانية والمثقفون”[1] ذلك التعارض أو التنافس الموجود بين نوعي الفردانية.
وبتطور العقلانية في الفكر الغربي نحو الإفراط والإطلاق، إضافة إلى سيادة الليبرالية والرأسمالية بصورة شبه مطلقة، تغلب الاتجاه الثاني وبدأت الفردانية تتجه نحو سيادة نزعة فردانية أخلاقية واجتماعية طاغية، بدون أي حدود في الغالب، وذلك في تواز مع ما يسميه عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان التحول من حداثة صلبة إلى حداثة سائلة، حيث كل شيء أصبح متسما بالهشاشة والإذابة والتمييع.
وهكذا استقر الأمر على فردانية تتسم ب “إنكار أي مبدأ أعلى من الفردية Individualité، وبالتالي اختزال الحضارة – في جميع المجالات – في العناصر البشرية البحتة وحدها”[2]، كما تعني الفردانية “رفض أي سلطة أعلى من الفرد، وأي مصدر للمعرفة أعلى من العقل”[3].
وتحولت الفردية إلى فلسفة سياسية واجتماعية، تعطي قيمة مطلقة لحرية الفرد، وتؤكد عمومًا على الذات المكتفية بنفسها وغير المقيدة. كما برزت الفلسفة النفعية التي نظرت للإنسان باعتباره مخلوقا يبحث عن اللذة ويتحاشى الألم، ويبحث عن منفعته الخاصة وحسب[4].
وفي ظل هذه التحولات أضحى الإنسان في الغالب يعبد ذاته وملذاته سواء كانت مالا أو شهوات أو رغبة جنسية، ويجعلها هدف حياته، ومقياس سعادته، ويمكن أن يصل في ذلك إلى ما يخالف طبيعة تكوينه ويدمر فطرته.
وليست هذه التعابير ابتكارا منا، بل هي تعابير لفلاسفة غربيين مرموقين. فهناك عبادة جسد الأنثى أو الجنس Idolâtrie du beau sexe عند جيل ليبوفتسكي[5]، وهناك عبادة السوق وتوحيده Monothéisme du Marché [6] وعبادة المال argent’ Idolâtrie de lعند رجاء كارودي[7].
ومن المتخصصين في علم الاجتماع من يعتبر الادعاء بسيطرة “الفردانية” بمعنى حرية الفرد واستقلاليته، نوعا من خطاب أيديولوجي للاستهلاك، على أساس أن الفرد اليوم أكثر تبعية منه مقارنة بالأمس، حيث ازدادت تبعية الفرد لأنظمة اجتماعية جديدة “مفروضة”، لا يملك الفرد منها فكاكا، وأضحت الدولة/ السلطة تتدخل في أدق شؤونه. وهو ما عبر عنه زيجمونت باومان بأنه في ظل الحداثة السائلة: “الاكتفاء والاستقلال الذاتيان اللذان ينعم بهما الفرد ربما يكونان سرابا آخر”[8].
ويعبر باومان في مكان آخر عن ذلك التحكم الذي يمارسه المتحكمون في الشركات الرأسمالية، فالفرد خاضع لهم وهو يتوهم أنه حر. يقول بالحرف: “فعلى مدار قرنين من الزمان على الأقل، كان مديرو الشركات الرأسمالية هم من يسيطرون على العالم، فهم من كانوا يفصلون الممكن من غير الممكن، والعقلاني وغير العقلاني، والمعقول وغير المعقول، بل هم من كانوا يحددون ويرسمون نطاق البدائل التي تنحصر فيها مسارات الحياة البشرية، ومن ثم فإن رؤيتهم للعالم، والعالم نفسه، الذي تشكل وأعيد تشكله وفق تلك الرؤية، هي ما كانت تغذي الخطاب المهيمن وتؤكد حقيقته”[9].
وهكذا تحول الإنسان إلى جزء من آلة اقتصادية وبيروقراطية رهيبة، تقلصت فيها حريته، واستهلكت قواه من قبل اللهث للاستجابة لحاجاتها وتقلباتها. وانتزعت منه حريته الحقيقية، حرية اختيار القيم والتوجهات التي يرغب في العيش بها، مقابل فتح الباب لسيولة العلاقات الاجتماعية دون حدود، استجابة لرغبة “السوق” و”الرأسمال” اللذين لا ينظران إلى أفراد المجتمع إلا بوصفهم مستهلكين.
ما هو تأثيرات كل هذا على الأسرة؟
إن الفردانية كما تطورت اليوم في المجتمعات الغربية، وكما تزحف على العالم، أضحت مناقضة لبناء أسرة متماسكة ومستقرة. لقد كان الفرد في السابق ينتمي إلى الأسرة، والآن أصبحت الأسرة هي التي تنتمي إلى الفرد. وفي هذا السياق يستطيع كل واحد أن يفعل ما يريد فيما يتعلق بسلوكه الجنسي والإنجابي. وكلما تعارضت المصلحة الذاتية للفرد مع مصلحة الأسرة إلا وكانت لمصلحة الفرد الأولوية.
كما أن الفرد لم يعد يرغب في التضحية بنفسه من أجل الأسرة، بل هو أصبح يطالب الأسرة ب أن توفر له بيئة مُرضية، دون المساس ب”حريته”.
وهكذا عرفت مكانة العلاقات الأسرية ضعفا متزايدا وتضررت صلات الرحم. فنشأت أجيال تجد نفسها ضمن نسق حضاري مادي فرداني نفعي، لا يولي الاهتمام اللازم لقيم التكافل والتراحم.
وعمليا تعتبر الفردانية مسؤولة عن زيادة الولادات خارج إطار الزواج، وزيادة حالات الطلاق (عموما نصف الزيجات في الغرب تنتهي بالطلاق) وغيرها من المظاهر المضرة بالأسرة، ما دام الأفراد يعطون الأولوية لرفاهيتهم ومتعهم الشخصية ولا يترددون في قطع الروابط الأسرية.
كما تعتبر الفردانية مسؤولة عن ازدياد نسبة الأفراد الذين يعيشون وحدهم مع مرور الزمان. وتبين بعض الإحصائيات أن تلك النسبة تصل إل الثلث في بعض المجتمعات الغربية.
لكن الأخطر أن تلك الفردانية مسؤولة عن انتشار مفهوم تعدد أشكال الأسرة، وزواج شخصين من جنس واحد، ما دامت رغبات الفرد هي الحاكمة، وما دامت القوانين تتجه لتحمي تلك النزغات دون حدود.
[1] – L’individualisme et les intellectuels (1898), édition électronique : http://classiques.uqac.ca/classiques/Durkheim_emile/sc_soc_et_action/texte_3_10/individualisme.pdf
[2] – René Guénon : Crise du monde moderne, p.90
[3] – Idem, p.99
[4] – عبد الوهاب المسيري: دراسات معرفية في الحداثة الغربية، ص 179 وما بعدها.
[5] – Gilles Lipovetsky : La troisième femme ; Gallimard , 1994, p.113
[6] – Idem, p.11
[7] – Idem, p.25
[8] – الحداثة السائلة، ترجمة حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2016، ص 80
[9] – الحداثة السائلة، ص 106