د أوس رمّال يكتب: بين “الكدّ والسّعاية” و “تثمين العمل المنزلي”.. إنصاف؟ أم تقويض لمؤسّسة الأسرة؟

في خضمّ النّقاش المستمرّ الذي أريدَ له أن يطول حول تعديل مدوّنة الأسرة، يُطرح -بإصرار مستميت- موضوعٌ مثير للجدل تحت مُسمّى: “تثمين العمل المنزلي للمرأة”، ويتمّ تقديمه باعتباره إنصافًا نوعيّا جديدًا للمرأة المغربية، واعترافًا بجهودها في تدبير حياتها داخل بيت الزوجية.

لكن خلف هذا الطّرح؛ الذي يبدو في ظاهره نبيل المقصد؛ يَكمُن خطرٌ حقيقي على الأسرة المغربيّة، وعلى استقرار العلاقات الزّوجية، وعلى رغبة الجيل الجديد في الإقبال على الزّواج أصلًا.

وقبل التسرّع في التشريع أو الانسياق خلف بعض الشعارات البرّاقة، لا بدّ من التمييز بين مفهومين مختلفين:

الأوّل: الكدّ والسّعاية… اجتهاد فقهي منصف

إنّ حقّ الكدّ والسّعاية اجتهاد أصيل في الفقه المالكي؛ خاصة في التجربة المغربية، ومبناه أن المرأة إذا شاركت فعليًّا في بناء الثّروة الزوجية، سواء في الحقول أو التجارة أو الإنتاج ولو في مهنة خاصة تمارسها داخل بيت الزوجيّة، فإنّ لها نصيبًا مما ساهمت في بنائه، ويُثبت ذلك بالبيّنات أو القرائن.

وهو اجتهاد منصف ومتوازن يؤكّد مبدأ: “من اجتهد وكدّ، له نصيب من الثمرة”، دون المساس بمبدأ القِوامة ولا تحميل أحد الزوجين ما لا يلزمه.

والثّاني: تثمين العمل المنزلي… مفهوم مستورد ومربك

أما المفهوم الجديد المستورد من بعض النماذج الغربية (الفاشلة بالمناسبة في مجال الأسرة)، والذي يُراد إدراجه في القوانين، فمعناه أن المرأة يُفترض تعويضها ماديًّا على عملها المنزلي طيلة سنوات الزّواج، حتى لو لم تكن تمتهن شيئًا أو تشارك في إنتاج أو ثروة ملموسة، وحتى في غياب أي اتفاق صريح.

وهذا يطرح عدة إشكالات:

الرّجل من يعوّضه؟؟؟

إنّ كلّ معالم الكدّ والسّعاية ثابتة واقعا عِيانا في حقّ الرّجل بدون حاجة إلى بيّنات أو قرائن؛ فهو الذي يَعُول، وينفق، ويكفي، ويقوم بواجبه كاملًا تجاه أولاده وزوجته و-في كثير من الحالات- بعض من أقاربها، دون أن يطالب أحدا بتعويضه على كلّ ذلك. فكيف يُمهِر، وينفق، ويكدّ، ويسعى على الجميع؛ ثم يُراد أن يُحمَّل فوق ذلك كلّه تعويضًا جديدا غير مستحَقّ عند الانفصال؟

الحياة الزّوجية ليست عقدَ شغل

إنّنا حين نجعل المرأة خادمة عند زوجها، ونُقحِم منطق المساومة والأجر والمقابل المالي في صميم الحياة الزوجيّة؛ فإنّنا نُفرغها من معناها الإنساني، وندخلها في منطق تعاقدي جاف لا يليق بروح المودّة والسّكن والرّحمة التي أرادها الحكيم الخبير في قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم 21)

علاقة قائمة على الشكّ لا على الثقة

إنّ هذا الطرح يُزرع ويُدسّ -عنوة- في قلب العلاقة الزوجية؛ فهل الزوجة “خادمة عاملة عند زوجها”؟ وهل عليه في كل لحظة أن يحتاط لمآلات الطّلاق -ولو كان بسببها واختيارها وبقرار منها- من تحمّل “تكاليف مالية” إضافية لا طاقة له بها؟ أو أن يفكّر في مآل ميراثه بعد وفاته حين يُغتصب بعض من حقّ أولاده وورثته الشّرعيين، ويُقتطع ليذهب مع الزّوجة إلى بيت رجل آخر؟

ثالثًا: التبعات الخطيرة لهذا الطّرح

إنّ هذا التصوّر وإن بدا في ظاهره إنصافًا للمرأة، فهو في الحقيقة “سمّ مدسوس في عسل”؛ لأنّه تقويض لبنية الأسرة، وضرب لثقة الأزواج، وتشجيع ضمنيّ على التّفكك لا على الاستقرار.

بل إنّ الشّباب المغربي المتردّد أصلاً في الإقدام على الزّواج، سيزداد عزوفًا حين يرى أن العلاقة الزوجية صارت -قبل الدّخول فيها- محاطة بقيود وتعويضات لا يُطاق احتمالها. فإذا أوصدنا أمام هذه المرأة -التي نزعم أنصافها- فُرص الزّواج؛ أين ينفعها بعد ذلك مثل هذا التّشريع وما شابهه؟

وهنا يكمن جوهر الخطر:

أن يتحوّل الزّواج من ميثاق غليظ له سموّه الذي يتميّز به عن سائر العقود المدنية والتّجارية؛ إلى علاقة قانونية هشّة، قائمة على الحذر والتّوجّس والمتابعة والمحاسبة والمساومة والمشاحّة، لا على المودّة والرّحمة والحِلم والثقة.

وأن نُفرغ الأسرة من بعدها التربوي والوجداني، فنختزلها -قبل أن تنشأ- في حسابات ما بعد الانفصال وما بعد الوفاة.

وأن نُكرّس نموذجًا ماديًّا فردانيًّا دخيلًا على ثقافتنا الإسلامية ومجتمعنا المغربي.

خاتمة: نحو مقاربة إصلاحية متّزنة

إنّني شخصيّا؛ لطالما أكّدتُ في لقاءات وندوات وحوارات أن الغاية من هذا التبيين ليست مناكفة حقوق المرأة، بل الدّعوة إلى الإنصاف الموضوعي المتوازن، والاحتكام إلى مقاصد الشريعة، والتّفكير في مآلات أي تشريع قبل إقراره.

وإنّني إذ أؤكّد على ضرورة صيانة كرامة المرأة؛ التي منها الأمّ ومنها الزوجة ومنها الأخت ومنها البنت؛ إنّني أُحذّر في الآن نفسه من توسيع هوّة الشكّ والرّيبة بين الأزواج، وتقويض ما بقي من استقرار الأسرة المغربية، وتشجيع حالة العزوف التي صارت تطبع تفكير كثير من الشباب؛ حتّى الذي كان قاب قوسين أو أدنى من الإقدام على الزّواج.

وختاما أقول: نعم؛ نريد قوانين منصفة؛ لكن ذكيّة، ونرفض أن تكون على حساب وحدة مؤسّسة الأسرة، وثقة الأزواج، وسلامة البناء المجتمعي. فالأسرة هي نواة المجتمع، التي إذا انهارت؛ فلا خير في أي تشريعٍ بعدها. والله من وراء القصد وهو يهدي السّبيل.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى