خلق الصبر
الحمد لله والصلاة والسلام وعلى رسول الله وعلى اله وصحبه ومن والاه
اللهم لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضى ولك الحمد كما يليق بجلال وجهك وعظيم سلطانك، اللهم لك الحمد عدد خلقك ورضى نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم تسليما، صلاة كثيرة وسلاما كثيرة وشفعه اللهم فينا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
كلمتي التي أحببت أن ألقيها بين يدي إخواني وأخواتي في هذا اللقاء حول خلق من الأخلاق الإسلامية الرفيعة إنه خلق الصبر، وقبل الحديث عن هذا الخلق أحببت أن أوطئ لهذا الحديث بتوطئة موجزة حول قضية الأخلاق التي كانت ومازالت غاية بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وغاية الرسالة الإسلامية من قوله صلى الله عليه وسلم :”إنما بعث لأتمم مكارم الأخلاق”، فالنظر الدقيق في العبادات وأحكام المعاملات وباقي التشريعات يؤكدان الغاية والمقصد من وراءها هو مكسب الإنسان المسلم مكارم ومحاسن الأخلاق، فحينما نتأمل في مقاصد العبادات ومقاصد الأحكام ومقاصد التشريعات فالنتيجة الطبيعة المباشرة التي نخلص إليها هو ما من حكم وما من شعيرة من شعائر الله وأحكام الله إلا وغايتها وهدفها ومقصدها هو إكساب الإنسان المؤمن محسان ومكارم وفضائل الأخلاق.
فالقران الكريم نفسه هو عبارة عن منظومة أخلاقية متكاملة جاءت لكي تؤطر سلوك الإنسان في علاقاته كلها، في علاقته بخالقه، وفي علاقته بنفسه، وفي علاقته بمحيطه، لذلك صدقت السيدة عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت كان خلقه القرآن، والخلق هي صفة مستقرة في النفس فطرية ومكتسبة، ذات آثار في السلوك محمودة ومذمومة، وقد جاء تأكيدا لهذا المعنى للأخلاق في المسألة الثانية من قصد الشارع في وضع الشريعة التكليف بمقتضاه عند الإمام الشاطبي أن الأوصاف ضربان فالصنف الأول هو ما كان مكتسب واستدل على ذلك بخلق العلم وخلق المحبة، استنادا إلى قوله صلى الله عليه وسلم :”أحبوا الله لما يغدو عليكم من نعمه وأحبوني لحب الله وأحبوا أهل بيتي لحبي”، والظاهر تعلق الجزاء بهذا الصنف المكتسب لأنها مسببات لأسباب يمتلك الإنسان الخبرة في التحكم فيها، لذلك فالجزاء سواء كان ثوابا أو كان عقابا فهو متعلق بهذا النوع من الأخلاق أو من الصفات.
أما الصنف الثاني فهو الصنف الفطري غير المكتسب، ومثل له بخلق الأناة والحلم والشجاعة، والنظر في هذا الصنف من وجهين : الوجه الأول من حيث كونها محبوبة أو غير محبوبة للشارع، والنظر الثاني من حيث تعلق الجزاء بها سواء كان ثوابا أو كان عقابا، فمن حيث الظاهر من خلال نصوص الشرع على تعلق الحب والكره بها من طرف الله عز وجل سواء كانت صفات بدليل قوله صلى الله عليه وسلم لصحابي إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله، وذكر الحلم والأناة، ولقوله عليه الصلاة والسلام “إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفاسفها”، ثم تعلق الكره والحب بها كأفعال بدليل قول الله تعالى:” لا يحب الله الجهر بالسوء”، وتعلق كذلك الحب والكره بها كذوات بدليل قول الله تعالى :”إن الله يحب المحسنين” و”الله يحب الصابرين” و”الله لا يحب الظالمين”.
أما من حيث النظر الثاني في كونها يتعلق الجزاء والثواب بها أو لا يتعلق الثواب والجزاء بها، ففي ذلك رأيين، الرأي الأول في عدم تعلق الجزاء والثواب بها بدليل أن في ذلك نوع من التكليف بشيء لا يطاق، ولكن الرأي الثاني أن الحب والبغض من الله عز وجل هو إنعام وانتقام، وبالتالي فتعلق الجزاء بها ثابت في حق من يتصف بهذه الصفات التي تسمى بالفطرية.
والراجح تعلق الجزاء والثواب بها بدليل الدعوة إلى التحلي بها من خلال العديد من النصوص القرآنية ومن خلال العديد من النصوص النبوية كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الطبراني وصححه الإمام الألباني قوله :”إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم”، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي أورده الإمام البخاري :”ومن يتصبر يصبره الله”، فحتى ولو تكن هذه الصفات مستقرة في النفس بالفطرة فالدعوة إلى أن تكون مستقرة في النفس بالاكتساب.
والخلق الذي ذكرت أني سأتحدث عنه في هذه الكلمة هو خلق الصبر، وهو قوة خلقية مكونة من الإرادة التي تمكن صاحبها من التحمل ومن ضبط النفس، والصبر نصف الدين، فقد جاء عن الإمام ابن القيم رحمه الله أن الإيمان نصفان نصفه صبر ونصفه شكر، والدليل على ذلك في قوله تعالى :”إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور”، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي جاء فيه :”عجبا لأمر المؤمن أن أمره كله خير فإن أصابته سراء حمد الله وشكر وإن أصابته ضراء حمد الله وصبر”، فمنازل الإيمان كلها تتراوح بين الصبر والشكر، وهما متلازمان كما قال الإمام ابن القيم، فالشكر مستلزم للصبر لا يتم إلا به، والصبر مستلزم بالشكر لا يتم إلا به، فمتى ذهب الشكر ذهب الصبر ومتى ذهب الصبر ذهب الشكر، فذهاب أحدهما هو ذهاب للدين كله، وتحقق أحدهما هو تحقق للدين كله، والدليل على ذلك هو الربط المحكم الثابت ما بين حسن الأخلاق وما بين الإيمان الوارد في الكثير من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية منها على سبيل المثال قوله صلى الله عليه وسلم :”أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا” أو قوله عليه الصلاة والسلام :”أي الإيمان أفضل قال حسن الخلق”، وقد ذكر الصبر في كتاب الله عز وجل في نحو 90 موضعا بأساليب وبصيغ متعددة من قبيل الأمر والتبشير وذكر الأثر والفضل الناتج عن الصبر وغيرها من السياقات التي وردت فيها الآيات القرآنية التي تحث على هذه القيمة، والصبر ثلاثة أقسام : صبر على المعصية فلا يرتكبها، وصبر على الطاعة حتى يؤديها، وصبر على البلية فلا يشكو منها.
فالصبر على المعصية يتحقق من خلال الأسباب التالية :
أولا أن يعلم قبحها وأن الله عز وجل حرمها على العبد صيانة له وحماية له من الرذائل وهذا سبب كاف لذوي العقول في تجنب المعصية والوقوع فيها،
ثانيا الحياء من الله عز وجل، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والذي يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم”.
ثالثا مراعاة النعم بحيث أن الوقوع في المعصية والوقوع في الذنب يزيل النعم، وقد صدق بعض السلف حينما قال: أذنبت يوما فحرمت قيام الليل وقال بعضهم أذنبت ذنبا فحرمت فهم القران، وصدق الإمام الشافعي في قوله :شكوت وكيعا سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وقال لي إن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي.
ثم خوف الله عز وجل وخشيته فالمعصية لا ترتكب إلا في قلب لن يتمكن منه سلطان المحبة وسلطان الخشية وسلطان الخوف من الله عز وجل، ومنها أن الذنب يستدعي ذنبا آخر، بحيث أن الذنب الأول يقوى بذنب ثان فيجتمعان فيستدعيان ثالثا فتجتمع الذنوب الثلاثة فتستدعي رابعا حتى تحيط بالإنسان، وقد صدق بعض السلف حينما قال “إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها”،
ثم العلم بسوء عاقبة المعصية وقبح أثرها والضرر الناشئ عنها مثل سواد القلب والقلق والخوف والخشية وانعدام السكينة والفقر ونقصان الرزق وغيرها من الآثار والعواقب الوخيمة للمعصية، ومنها الوقوع في بئر الحسرات وصدق ابن القيم في كلمة جميلة يقول فيها :”فلا يزال في حسرة دائمة كلما نال لذة نازعته نفسه إلى نظيرها ان لم يقض منها وطرا أو إلى غيرها إن قضى وطره منها وما يعجز عن ذلك أضعاف ما يقدر عليه كلما اشتد نزوعه وعرف عجزه اشتدت حسرته وحزنه فيا لنار قد عجل بها القلب في هذه الدار قبل نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة”.
ثم الصبر على الطاعة وينشئ هذا من خلال معرفة الصبر على المعصية ومعرفة الآثار والفضل والمقاصد الناتجة عن طاعة الله عز وجل، وكذلك من خلال ترسيخ أسباب الإيمان ومحبة الله عز وجل في القلب.
وأخيرا الصبر على البلاء ويتحقق ذلك عند الوقوف على معرفة أثار الصبر على البلاء خاصة في تكفيرها من ذنوب الإنسان ومعاصيه مع العلم أنها تكون بسبب وقوعه هو في مجموعة من الأخطاء بسبب ذنبه وبسبب معصيته، وصدق الله عز وجل حينما قال :”ما أصابتكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم”، فما نزل بلاء إلا بمعصية ولا رفع إلا باستغفار، وأن يعلم أنها بقضاء الله وحكمه وأن العبودية تقتضي الرضا بما قدره الله عز وجل:”وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وانتم لا تعلمون”، وقوله تعالى :”وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا”.
محمد ابراهمي / سلسلة تبصرة