المدارس العتيقة بالمغرب ودورها في البناء الحضاري للأمة (2) – عبد الرحيم مفكير
جامعة القرويين منارة شامخة ومعلمة ثقافية وحضارية:
جامع القرويين من أهمّ الجوامع التي تقع في المغرب العربي،ومن أعرق المساجد المغربية وأقدمها وبالتحديد في مدينة فاس، وتمّ بناء هذا الجامع في شهر رمضان المبارك من العام 859م، وبالتحديد في شهر نوفمبر، بأمر من العاهل الإدريسي يحيى الأول، وتطوّعت فاطمة الفهرية ببناء هذا الجامع، حيث بقيت صائمة صيام تطوّع لحين الانتهاء من بنائه وتجهيزه، ومنحت جميع ما تملك من ميراث ورثته لإنجاز هذا الجامع، وسمّي هذا الجامع بهذا الاسم نسبة إلى مدينة تونسية مشهورة وهي القيروان.
وقد شرع في حفر أساس مسجد القرويين والأخذ في أمر بنائه أول رمضان من سنة 245 ه(30 نونبر 859م) بمطالعة العاهل الإدريسي يحيى الأول، وأن أم البنين فاطمة الفهرية هي التي تطوعت ببنائه وظلت صائمة محتبسة إلى أن انتهت أعمال البناء وصلت في المسجد شكرا لله”، وهذه حقيقة تاريخه لا يسمح الباحث لنفسه بالاستسلام للشك فيها والتردد أمامها سيما وهي ترجع لوقت مبكر من تاريخ المغرب أعني وقت بني مرين أوائل القرن الثامن الهجري 18.
أول جامعة عالمية:
يؤكد الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني، رحمه الله، في كتابه “:”فاس: عاصمة الأدارسة” أن جامعة القرويين تعد أقدم جامعة في العالم، وقد سبقت الزيتونة بتونس والأزهر بمصر، كما أنها تعد أقدم من جامعات أوروبا بمائتي عام إلا تسع سنين: فقد “تأسست أول جامعة في أوروبا وهي جامعة ساليرن سنة 1050 ميلادية في إيطاليا، ثم أصبحت معروفة بمدرسة نابولي. ثم تأسست جامعة بولونيا للحقوق. ثم جامعة باريس، وقد اعترف بها لويس السابع سنة 1180. ثم تأسست جامعة بادوا سنة1222 م، ثم جامعة أكسفورد عام1249 م، ثم جامعة كمبدرج عام 1284 وجامعة سالامانكا في إسبانيا سنة1243م.أما جامعة القرويين، كما سبق، فهي أسست عام (245هـ=859م) فهي أقدم جامعة ظهرت قبل أوروبا بمائتي عام إلا تسع سنوات. وجامع الأزهر بناه جوهر المغربي سنة 360هـ، ولم يتخذ معناه الجامعي إلا سنة547هـ، فالقرويين أقدم من الأزهر بـ125 عام، وأقدم من الأزهر جامعة بـ302 عام.
وقد ذكر “دلفان” في كتابه “حول فاس وجامعتها والتعليم العالي بها” المطبوع سنة1889 أن: “فاس هي دار العلم وأن القرويين هي أول مدرسة في الدنيا”
وفي كونها أقدم من جامع الأزهر، يذهب الدكتور عبد الهادي التازي إلى تأكيد ما أشار إليه الشيخ الكتاني، راجيا ألا يكون ذلك من قبيل العنصرية أو الميل النفسي إلى القرويين، ويقول: “القرويين تاريخيا أقدم من الأزهر، فقد بنيت قبل الأزهر، ثم أريد أن أقول ولا أخجل أن أقولها أمام زملائي وإخواني الأزهريين، إن القرويين ميزتها أنها منذ أسست وهي تؤدي واجبها العلمي من غير انقطاع، أما الأزهر فقد مرت بظروف كانت فيها معطلة، والأزهر مرت بظروف كانت فيها العربية ميتة، الأزهر مرت بظروف كان الناس لا يهتفون إليها، بينما القرويين، حتى في الظروف التي تمر فيها كانت لا تنقطع عن الدراسة، وأنا لا أنقص من دور الأزهر”19 .
مميزات الجامع : يتميّز جامع القرويين بوجود صومعة ذات شكل مربع وواسعة، وهي لا تزال موجودة وقائمة لهذه الأيام، وتعدّ من التوسّعات التي قام بها الزناتيين الذين يتبعون لعبد الرحمن الناصر، وهي من أقدم وأجمل المنارات الموجودة في المغرب العربي ككلّ.
بناء وتوسيعات جامع القرويين:حظي هذا الجامع باهتمام كبير من سكان المدينة والحكام لتوسيعه وترميمه والاهتمام بكلّ ما يتعلق به، حيث عمل المرابطون على إضافة بعض التعديلات والتغييرات في جامع القرويين، فعملوا على تغيير شكل الجامع الذي عرف بالبساطة في بنائه وزخرفته وعمارته، مع المحافظة على الملامح والشكل العام له، بالإضافة إلى الفن الذي استخدم من قبل المهندسين المعماريين في صناعة وتجهيز القباب والأقواس، والنقش عليها بالعديد من الآيات القرآنية والأدعية، ومن أهم الآثار التي تركتها المرابطون هي المنبر الذي لا يزال موجوداً لهذه الأيام، ومن ثم عمل الموحدون على إضافة الثرية ذات الحجم الكبير، والتي تتميّز بجمالها الذي زيّن هذا الجامع، وهي قائمة فيه ليومنا هذا، ولقي هذا الجامع الاهتمام المتزايد فيما بتعلّق بتطوير المرافق الضرورية وتزيينها من خلال إضافة العديد من الثريات، والساعات الشمسية والرملية، بالإضافة إلى وضع مقصورة القاضي والمحراب ذي الحجم الكبير والواسع، وخزانة مخصّصة لترتيب الكتب والمصاحف، ويتميّز هذا الجامع بتصاميمه وطابع المقتبس من التصاميم والطابع الأندلسيّ العريق، وقام الأمراء الزناتيون بإضافة مساحة تقدر بحوالي 3000كم.
مرافق جامع القرويين: يحتوي مسجد القرويين على عدة أبواب بلغ عددها لحوالي 17 باباً، بالإضافة إلى جناحين يتمّ التقاؤهما في أطراف الصحن الموجود في وسط الجامع، وكلّ جناح من هذه الأجنحة يوجد فيه مكان مخصّص للوضوء من المرمر، حيث صمّم بطريقة مشابهة للتصميم الموجود في الصحن الأسود في قصر الحمراء بالأندلس.
أهمية جامع القرويين العلمية: بعد الانتهاء من بناء وتجهيز جامع القرويين، سارع العلماء لإنشاء العديد من الحلقات الخاصّة بطلبة العلم، مما أدى إلى اعتبار مدينة فاس من المدن الثقافية والعلمية المهمة على مستوى المغرب العربي، وقدرتها على منافسة العديد من المراكز العلمية والثقافية المشهورة في العديد من المدن كمدينة قرطبة ومدينة بغداد.
النظام التعليمي:
عرفت جامعة القرويين بنظام الكراسي العلمية المتخصصة التي جعلت منها جامعة متعددة الدراسات، وقد كان الطلبة -ولا يزالون- يتحلقون في حلقات حول هذه الدروس في مختلف التخصصات.
في البداية لم تكن الشروط مشددة للالتحاق بها، إذ كانت مفتوحة لمن تابع تعليما أوليا في المدارس القرآنية. كذلك المقررات ظلت حرة من اختيار المدرسين، إلى غاية 1789 حين فكر السلطان محمد الثالث في سَن نظام دراسي عام.
كان شيوخ القرويين يستفيدون من عطايا ورواتب تخصصها لهم السلطات ويتم إسكانهم في بيوت في ملكية الأوقاف.
بعد عصورها الذهبية، دخل التعليم في الجامعة عصور انحطاط بفعل جمود المقررات التعليمية وعدم مواكبة طرق التدريس للمستجدات في العالم، لكن الجامعة سرعان ما كانت تعود للاضطلاع بدورها رغم الظروف الصعبة التي تواجهها. فرغم الاحتلال الفرنسي، تمكنت من إنجاب شخصيات علمية وقادة سياسيين اضطلعوا بأدوار مهمة في تحقيق استقلال المغرب، والمساهمة في تنمية البلاد بعد الاستقلال.
عرفت الجامعة بعد استقلال المغرب عام 1956 اعتماد إصلاحات لتأهيل دورها العلمي، لكن النتائج ظلت محدودة.
شخصيات:
لم تكن جامعة القرويين وجهة لطلبة العلم من أمصار شمال أفريقيا فقط، بل استقطبت طلابا من العالم العربي والغربي أيضا، كانوا يقبلون للتزود على يد علمائها وشيوخها والاستفادة من مكتبتها الضخمة التي ما زالت بعض مخطوطاتها صامدة حتى اليوم.
لقد مارس التدريس في رحاب الجامعة أعلام بارزون من قبيل ابن خلدون، وابن الخطيب، وابن حرازم، وابن باجة الذي يوصف بأنه كان نابغة في علوم كثيرة بينها الطب واللغة العربية. وتقول مصادر إن الفيلسوف ابن ميمون والمؤرخ المعروف الحسن بن الوزان الملقب بليون الأفريقي، درسا فيها.
ومن أوروبا، يحتفظ سجل الجامعة باحتضانها للطالب غربرت أورياك الذي أصبح البابا سلفستر الثاني (من 999 إلى 1003 للميلاد).
درس في القرويين كذلك الفقيه المالكي أبو عمران الفاسي، وابن البناء المراكشي، وابن العربي، وابن رشيد السبتي، وزارها الشريف الإدريسي ومكث فيها مدة، كما زارها ابن زهر مرات عديدة، ودوّن في رحابها النحوي ابن آجروم كتابه المعروف في النحو. 20
الأدوار الاقتصادية للقرويين:
“المغرب هبة القرويين”، هذه هي العبارة أحكم نسجها الدكتور أحمد الريسوني، وهو يتحدث ضمن عن موضوع “العمل الأهلي من الجامع إلى الجامعة: نموذج القرويين”، يقول الريسوني: “حق لنا ولها(أي جامعة القرويين) أن نقول في حقها “المغرب هبة القرويين” وهو أصح وأحق من قولهم قديما: “مصر هبة النيل”.
وبعدما تحدث عن عمل فاطمة أم البنين، التي أنفقت من مالها الحلال الذي ورثته عن أبيها الفقيه “أبي عبد الله بن عبد الله الفهري:”لم يكن عملا استثنائيا ولا غريبا، فإن الناس عامة وخاصتهم، قد تعاقبوا على إهداء أموالهم وتحبيس ممتلكاتهم لفائدة القرويين كلما احتاج ودون أن يحتاج. وهكذا صمدت هذه المعلمة ونمت وتطورت وتوسعت حتى أصبحت كشجرة في فاس وثمارها تصل إلى كل الناس”. متسائلا: “كيف تحقق ذلك كله وعلى مدى قرون طويلة؟ من مول وأغدق على القرويين حتى أصبحت أغنى شخص “معنوي” في المغرب؟ من نظم وسير ورعى وحفظ؟ إنه المجتمع بعامته وأغنيائه وعلمائه وأحيانا بمساعدة أمرائه.
وينقل الريسوني كلاما نفيسا للمؤرخ الموسوعي عبد الهادي التازي من كتابه “جامع القرويين: المسجد والجامعة بمدينة فاس” عن حيازة جامع القرويين لأوقاف جعلتها مستقلة ماليا عن خزينة الدولة: “ولما كان الناس يتخوفون أن تلتجئ القرويين في يوم من الأيام إلى مصاريف رجال الدولة، وهم ليسوا جميعا ودائما في مستوى واحد من حيث الحيطة والحذر، فقد عرف المحسنون والموسرون تلك الحقيقة وعمدوا إلى هذا المسجد يغدقون عليه من “خير وأنظف وأسلم” ما يملكون حتى سحموا مبدأه ويحفظوا شرفه..وغدت ميزانيتها تنافس ميزانية الدولة، بل إن الدولة استقرضت من خزينتها في كثير من الأحيان.. عند الأزمات الداخلية وعند ظروف الحرب، التي فرضت على البلاد، وعند بناء المرافق والجسور الحيوية في البلاد.بل وتوافرت أوقاف القرويين، فأفاضت منها على سائر مساجد فاس وسرت أوقافها الزائدة حتى المسجد الأقصى بالقدس، وحتى الحرمين الشريفين مكة المكرمة والمدينة المنورة وإلى كل الجماعة الإسلامية في كل جهات المعمور..وفضلت أحباس القرويين فشملت مشاريع الإحسان والبر بكل ما تشمله من نواحي إنسانية واتسعت مواد السجلات حتى شملت الوقف على”قبر مجهول”.
ويشير المؤرخ عبد الهادي التازي إلى أن “قاضي فاس عندما شب الحريق في وثائق حجج الوقف سنة723 هـ، أمر بضم أملاك فاس كلها إلى القرويين ولم يستثن من ذلك إلا من أدلى برسم أو شهادة معادلة تثبت الملكية من قبل قباضة الحبس”. وهو ما قام به أيضا السلطان أبي سعيد المريني والمولى الرشيد في أواخر دولة السعديين والمولى سليمان العلوي..
وهذا ليس غريبا عن فاس وجامعتها أو استثناء، إذ ذكر الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني مجموعة من الأوقاف يكفي ذكر أسمائها ليعلم كل مسلم أن الاهتمام بالوقف، كان أصلا مغربيا فهناك: وقف للتزويج، ووقف للدواب المرضى، ووقف الحمامات، والمرستانات (للمجانين)، ووقف الموسيقى(الأندلسية)، وأوقاف العرائس (لتجهيز العرائس الفقيرات)، ووقف الأواني (للخدم الذين كسروا آنية من الفخار ليأخذوا بدلها سالمة)، ووقف الديون (القرض الحسن)، ووقف الطيور (طيور اللقلاق أو (“بلارج” بالمغربية21).
الأدوار السياسية:
لم يقتصر دور جامعة القرويين في تيسير العلوم بأنواعها، وإنما كانت مهد الثورة على الظلم ومنطلق الجهاد ضد المستعمر. وهو الواقع الذي دفع الجنرال الاستعماري الفرنسي ”ليوطي” إلى نعتها بالبيت ”المظلم”، وكان يتساءل حسب المصادر التاريخية: “متى سيغلق هذا البيت المظلم؟”، لأن جامع القرويين أفشل مخططاته في التفريق بين العلماء والسلاطين، وبين علوم الدين والدنيا بالمغرب، كما أن الاحتجاجات وتعبئة الفدائيين للجهاد تنطلق شراراته من منبر القرويين.
ولم يكن العلماء المتخرجون من جامعة القرويين منعزلين عن تسيير الشأن العام في مختلف مجالاته، ولكنهم كانوا يبتون في القضايا المحلية والمعاهدات الدولية ويبايعون السلطان، ولا تتم البيعة إلا إذا كانت ممهورة(موقعة) بتوقيعات العلماء، فيكتسب السلطان المبايع هيبة اجتماعية إضافية.
يقول الدكتور سعيد بن سعيد العلوي في مقال عن “مستقبل القرويين”22 :”ظلت بيعة العلماء القرويين خلال القرون العديدة حدثا حاسما في إقرار الملوك على عروشهم، بالنظر أن القرويين كانت المجمع الذي يضم الطبقة العالية من علماء الدين القادرين على التأثير المعنوي الحاسم على الفئات العريضة من أصحاب المهن والحرف المختلفة وكذا من سواد الشعب، مثلما كانت المركز الروحي للمغرب برمته..ولا يخفى أن “بيعة علماء فاس” كانت تتخذ صفة الإلزام المعنوي لكافة علماء المغرب، وكذا لباقي النخب الأخرى في فاس وفي غيرها(الأشراف، التجار، الحرفيون، الوجهاء من مختلف الأصناف..). بالإضافة إلى وظيفة الاستشارة في اتخاذ القرارات الحاسمة في المحطات المهمة لولاة الأمور.
ويذكر المؤرخ عبد الهادي التازي أن الانتساب إلى”القرويين” كان حجة كافية لاعتقاله من لدن المستعمر الفرنسي في فترة الحماية، أو يطردون طلبة المدارس الفرنسية ممن لهم صلة برجال القرويين23 وقد لعبت “القرويين” دورا حاسما بعد إصدار الظهير الفرنسي سنة 1930، الذي يفصل بين العرب والبربر بالمغرب، إذ دعا رجال القرويين إلى الخروج من المساجد وهم يقرأون اللطيف: “اللهم الطف بنا في ما جرت به المقادير ولا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر”.
فكانت الانطلاقة الحقيقية من القرويين، التي “قامت بتحرير عرائض كثيرة، كان على رأس الثائرين رجال ومشيخة القرويين… وتوتر الجو حين زار الملك محمد الخامس المدينة في أواسط الثلاثينات، وخشي الفرنسيون من أن يكون نزوله إلى المدينة وأداء صلاة الجمعة في مسجد القرويين مما يهيج الشعب ضدهم، فاقترحوا عليه الصلاة في أحد مساجد المدينة الجديدة”.
تحديات ومقاومة:
لقد عرف المغرب الاستعمار ابتداء من سنة 1912كانت هذه إحدى اللحظات العصيبة التي تعرض فيها “التعليم العتيق” لهزة عنيفة جسدتها معاناة الأمة العربية والإسلامية بعد تسلط الاستعمار الغربي عليها، بعد أن عمل على تغيير قيمها و مبادئها ،و كانت من أهم الأجندة التي سخرها المستعمر من أجل تحقيق أهدافه ضرب التعليم عموما و العتيق خصوصا من جذوره مدركا أنه سبيل تقدم الأمم و تحررها … حيث ركز بشكل خاص على التعليم العتيق وسعى إلى تغييبه تماما و تهمشيه، وهو ما حدث فعلا حيث انزوى المنشغلون في هذا الميدان في زواياهم، وأغلقت الوظائف العمومية في وجوههم، ومورس عليهم مختلف أنواع الإرهاب النفسي والمعنوي، و أنشئ إلى جانب هذا التعليم العتيق تعليم عصري مفرنس على أساس عنصري طبقي، حيث تم تقسيمه إلى تعليم فرنسي مخصص لأبناء الجاليات الأوروبية، وتعلم يهودي منبثق عن الاتحاد الإسرائيلي، وتعليم أهلي خاص بالمغاربة مقسم بدوره إلى عدة أقسام. وحتى سنة 1940 لم يكن بالمغرب سوى عشرات من المدارس الابتدائية و أربع ثانويات في كل من فاس والرباط ومراكش وأزور …وتم بسرعة فتح المدارس الأجنبية التي اهتمت بأبناء الفئات الراقية و تلقيحهم بكل ما هو بعيد عن هويتهم و ثقافتهم و تاريخهم …
كل ذلك طبعا نتج عنه تقلص في حجم التعليم الديني و إبعاد المنتسبين إليه عن مراكز التوجيه و الوظائف العامة… وظلت الأمور كذلك فترة من الزمن حتى ظن الجميع بما في ذلك أهل البلد أنه لن تكون هناك قائمة للتعليم الديني بالمغرب، ولن يعود حتى إلى أسوا حالاته التي كان عليها، فالقرويون التي كانت مهدا للعلم والمعرفية الدينية، أضحت أطلالا خاوية على عروشها، وانحسر الدور الريادي للعلماء و الفقهاء في الشأن العام و شنت حملة هوجاء على كل ما له علاقة بلفظة الدين.. وهو ما يفسر إقدام الراحل الحسن الثاني رحمه الله عام 1988 بإعادة الحياة إلى جامع القرويين وإعادة الدراسة به حسب النظام القديم، كتعليم عتيق تابع لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، إلى جانب جامعة القرويين للتعليم الأصيل. وفي عام 1995م، أنشأ رحمه الله المدرسة الملحقة بمسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء، وازداد الإحساس بالحاجة لتحصين هذا المجال بعد أن تزايد فتح مدارس للتعليم العتيق لا تحترم المذهب الرسمي للدولة …
الذي حدث وقتها كما نبه إلى ذلك الدكتور بنحمزة 24 أنه حدث خلال هاته الفترة العصيبة انقلاب مكاني للريادة العلمية الدينية، حيث انتقلت الريادة للمعرفة الدينية من القرويين إلى جنوب المغرب حيت سوس العالمة هناك، وأنشئت بفضل ذلك العديد من المدارس و الكتاتيب القرآنية العتيقة، و ظلت كذلك برهة من الزمن ليست باليسيرة إلى أن جاء العصر الحديث، حيث حدث ما يمكن أن يعبر عنه بــ” انفجار” للمدارس العتيقة في مختلف مدن المملكة جنوبا وشمالا غربا وشرقا، حيث يبلغ عدد المعاهد الدينية والمدارس العتيقة بالمغرب25 423 مدرسة يدرس بها 18468 طالبا منهم 6540 طالبا ممنوحا، ويؤطرها 932 أستاذا يستفيد 460 منهم من مكافأة شهرية من الوزارة… وخرجت المعاهد العتيقة تدريجيا نوعا ما من طابعها التقليدي في مناهجها ومقرراتها وحتى بناياتها وتجهيزاتها، ذلك أن المدارس العتيقة اليوم تضم أحسن التجهيزات والبنايات العصرية التي تفوق بكثير المدارس العمومية العصرية – مؤسسة الفرقان بالقصر الكبير ،ومعهد الإمام مالك في كل من تطوان وتروال وسيدي سليمان ومعهد البعث بوجدة… نموذج لذلك – وأضحى الإقبال متزايدا على المعاهد سنة بعد أخرى ولن نكون مبالغين إذا قلنا أنه سيأتي اليوم الذي يكون فيه الطلب أكثر من العرض على هاته المعاهد العتيقة ….
ويبلغ عدد المدارس العتيقة (الدينية) في المغرب 494 مدرسة، حسب إحصائيات وزارة الأوقاف26 يشرف على التعليم فيها من الفقهاء 1531أستاذا، وتضم 21651 طالبا، في حين يبلغ عدد الكتاتيب القرآنية -التي تندرج ضمن مؤسسات التعليم العتيق- حوالي 299083 كُتَّابا قرآنيا، ويدرس فيها 10183 تلميذا.
ويعاني التعليم العتيق من صعوبات جمة في تمويله؛ حيث لا تتعدى المدارس العتيقة التي تنفق عليها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وفق إحصائيات لهذه الأخيرة، خمس مدارس من أصل 499 مدرسة عتيقة، وهي جامع القرويين بفاس والمدرسة القرآنية لمسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء، ومدرسة سيد الزوين ومعهد ابن عطية بطنجة ومدرسة سيدي محمد بطنجة، غير أن هذه المدارس الثلاث الأخيرة تحتاج تأهيلا رغم تمويلها من طرف الوزارة بنسبة كاملة.
أما بالنسبة للتعليم العتيق الخاص فهو ينقسم إلى صنفين: تعليم خاص بمدارس محتضنة، وتبلغ حوالي 156 مدرسة عتيقة، تسلم الوزارة منحا لبعض تلاميذها وطلبتها، كما تخصص مكافآت لأساتذتها، وتوفر رابطة علماء المغرب والسنغال منحا لطلبتها خاصة الأفارقة من السنغال وساحل العاج والغابون وغينيا وغيرها، كما يوفر المحسنون بقية الحاجيات المادية لها لتغطية ميزانيتها ومنحا لطلبتها المغاربة وبهذه المدارس المحتضنة 6795 طالبا ممنوحا، و467 أستاذ مكافأً.
والصنف الثاني: تعليم عتيق خاص يتولاه المحسنون يوفرون ميزانيته كاملة، ويتعلق الأمر بحوالي 338 مدرسة عتيقة لا تتوصل بأية منح أو مكافآت، بها 14856 طالبا غير ممنوح، و 1064 أستاذا بدون مكافأة؛ وهذه الإحصائيات تعني أنه لولا تمويل بعض المحسنين لما كان للتعليم العتيق بالمغرب استمرارية.
حدث هذا الانتشار السريع والمنظم للمعاهد بعد أن فشل التعليم العصري في الوفاء بحاجات المجتمع المغربي وعدم استيعابه لطموحات أبنائه في التعليم و الترقي، وبقاء الحاجات الملحة إلى التعليم الديني وإلى خريجه ذوي التكوين الشرعي المتين، إضافة إلى مستجدات محلية وعالمية أعاد المدارس العتيقة إلى واجهة الاهتمام، أبرزها الأحداث الإرهابية التي هزت مناطق مختلفة من العالم بما في ذلك المغرب، حيث جعلت العديد من التيارات الغوغائية السيئة النوايا تشير بأصابع الاتهام إلى هاته المعاهد باعتبارها تغذي التطرف وتنمي الحقد الاجتماعي، ونعت طلبة المعاهد العتيقة والقائمين عليها بأقبح النعوت وأشنعها، – متناسين دور هاته المدارس في حفظ أمن المجتمع المغربي ودورها الريادي في تخريج العديد من العلماء والمفكرين والمثقفين و الكثير من الجهابذة الموسوعيين المتعمقين في كل فنون المعرفة، وكذا دورها في جلاء قوى الاستعمار، وليس رجالات الحركة الوطنية إلا أبناء لهاته المعاهد والمدارس العتيقة – ولأن الرياح جرت بما لم تشتهه سفن الحاقدين، كان لهذا الهجوم على هاته المدارس العتيقة انعكاس إيجابي لها لا عليها، إذ جعل القائمون على الشأن العام ينظرون في مناهج التعليم العتيق و يحاولون احتواءه، وأياً تكن نواياهم السيئة أو الحسنة اتجاه المعاهد العتيقة، فإنه فعلاً فـُسح المجال إلى إصلاحها وإعادة هيكلتها وزالت الرؤية الضبابية التي كانت تكتنف خريجها بعد أن كانت لائحة في سماء غائمة
أمر جلالة الملك محمد السادس بموجب الظهير الشريف رقم 1.02.09 بتنفيذ القانون رقم 13.01في شأن تطوير وتأهيل التعليم العتيق، وتواصل العمل في هذا الاتجاه بإصدار المرسوم 1273•05•2 في دجنبر 2005م، ثم صدور ست قرارات تطبيقية لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في ماي 2006 م لتنطلق عملية التأهيل والإدماج تدريجيا.
وبناء عليه قررت فيها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالتنسيق مع وزارة التربية الوطنية – كما ينص على ذلك الميثاق الوطني للتربية والتكوين في مادته88 من المجال الثاني المتعلق بالتنظيم البيداغوجي – الإشراف على المدارس العتيقة تدبيرا وتسييرا وتأطيرا ومراقبة وتمويلا حسب الإمكانيات والظروف مع خلق جسور منفتحة بين التعليم العتيق والتعليم الأصيل والتعليم العمومي.
وكذا إقرار نظام المعادلات في الشواهد، حيث أصبح لكل طور من أطوار التعليم شهادة تؤهل الطالب للانتقال للمرحلة الموالية، إلى أن يتوج مساره الدراسي بشهادة التخرج التي هي العالمية في التعليم العتيق أو الإجازة في التعليم العمومي..
وبدأ فيها تفعيل القانون المنظم لهذا الغرض، وعند نهاية كل سنة تعرف امتحانات البكالوريا للتعليم العتيق على سبيل المثال نسبة نجاح تفوق 90% في مختلف المعاهد العتيقة المترامية في أطراف المملكة جنوبا وشمالا شرقا وغربا وبميزات حسنة وفي أغلبها مستحسنة، وعلى سبيل المثال فإن : عدد الناجحين من مدرسة الإمام مالك بتطوان 25 من أصل 26 مرشحا، ومن مدرسة الإمام أبي القاسم الشاطبي 18 من أصل 19 مرشحا، ومن معهد البعث الإسلامي بوجدة نجح31 من أصل 33 مرشحا، ومن معهد الإمام مالك بسيدي سليمان نجح كل المرشحين باستثناء مرشح واحد له الدورة الاستدراكية، وتقريبا هذا هو حال جل معاهد المملكة.
وكل سنة أيضا تستقبل الجامعات المغربية أفواجا من طلبة التعليم العتيق يواصلون تحصيلهم الدراسي والعلمي بصمت وبسير حثيث في مختلف التخصصات، ويواصلون في الوقت نفسه تفوقهم بالإضافة إلى حرصهم وانضباطهم حيث يعطون النموذج الأمثل لعموم الطلبة هناك.. ولم يقتصر الأمر على هذا الحد فحسب بل لقد استطاع العديد من طلبة التعليم العتيق الولوج إلى الوظيفة العمومية مؤطرين دينيين وأساتذة وقضاة حتى.
هوامش:
18- عبد الهادي التازي مجلة دعوة الحق، العدد الأول، السنة السادسة، 1962
19 ــ مجلة الفرقان المغربية، عدد54 سنة2006
20 ــ موسوعة الجزيرة
21 ــ انظر كتابه:”فاس عاصمة الأدارسة”من الصفحة47 إلى 51.
22ــ انظر جريدة العلم خلال شهر دجنبر2004
23 ــ حوار أجرته معه جريدة التجديد المغربية بتاريخ 11/02/2002
24ــ العلامة بنحمزة عالم من علماء المغرب عضو المجلس العلمي الأعلى ورئيس المجلس العلمي بوجدة
25ــ إحصائيات 2010م
26 ــ إحصائيات 2016 م .