السننية والتدرج في الخطاب الديني ـ صالح النشاط
المتأمل في كيفية نزول القرآن وفي تسلسل أحداث السيرة النبوية يتضح له أن الإسلام كان يعيش زمانه وعصره بحداثة لا نظير لها، وبذلك لم تكن هناك أزمة لا في الخطاب ولا في أساليبه ووسائله، بحيث كان التركيز على الإقناع والمجادلة بالتي هي أحسن مع تقدير ظروف الناس وجدة تعلقهم بمعتقداتهم وعاداتهم، الأخلاق الحسنة التي كانت موجودة كالكرم والوفاء والصدق والشجاعة…زكاها الخطاب الديني ونماها، والمثال واضح في هذا المجال من قوله صلى الله عليه وسلم في التأكيد على أن خيار الجاهلية هم خيار في الإسلام إذا فقهوا، وفي المقابل نجده يتغاضى عن بعض العادات والأخلاق السيئة إذا تبين له أن ذلك سيفرق أكثر مما سيجمع، وسيبعد أكثر مما سيقرب، وسيكون حائلا دون وصول الكلمة الأصل والرسالة الكبيرة ألا وهي ترسيخ الاعتقاد الصحيح باعتباره المحدد في اختيارات الشخص وتصرفاته، لذلك كانت المرحلة المكية خالصة بامتياز لهذا الصنف من الخطـاب الديني دون الخوض في مسائل، واعطاء مواقف، واحتلال مواقع ربما تكون سابقة لأوانها.
ما أحوجنا نحن اليوم إلى إعادة ترتيب أولويات الخطاب وأهدافه مع مراعاة المرحلية والتدرج ليس على أساس استنساخ التجربة النبوية بشكلها التحقيبيي ولكن استنارة بمقاصدها وأحكامها فلكل زمان ومكان خطابه ودعوته. وأذكر ذات يوم أن شخصا جاءني ليأخذ رأيي في أمر وقع له، مفاده انه التقى بشخص لكي يدعوه إلى عبادة الله تعالى، فبادره الشخص المدعو بالحديث عن ضريح فلان بإعجاب منقطع النظير مع ذكر كرامات ذلك الولي وكيف يعرف إقبالا متزايدا وان جميع الحوائج تقضى بسببه، لكن صاحبنا الداعية قاطعه قائلا: كف عن هذه الحماقات، لو كان الأمر بيدي لقمت إلى هدم ذلك الضريح. وإني أبرأ إلى الله منك ومن كل من يحج إلى ذلك الضريح، ألم تعلم أن الله تعالى يغفر الذنوب كلها إلا الشرك به سبحانه وتعالى. وأن المشركين سيحشرون مع قارون وفرعون وأبي لهب وأبي جهل. هنا تسمر الشخص المدعو في مكانه، واخرس عن الكلام، ولم ينطق بأية كلمة، كأنه أصيب بشلل دماغي، وفي نهاية المطاف اعتذر عن المقابلة؛ وفضل الانسحاب، وبذلك توقفت “الدعوة“، وتعطلت آلية الخطاب الديني، وانتهت معه حرارة اللقاء الذي كان في وسع صاحبنا أن يوظف ذلك في خدمة دعوته وخطابه، من خلال تعزيز الثقة بينهما مع ترسيخ معنى العبادة الحقيقية بالطرق التي يفهمها المدعو دون اقتحام غرفة النشوة التي يعيش فيها جراء إعجابه بذلك الضريح وليترك للزمن حصته في معالجة ما يمكن علاجه.
إن التدرج في الخطاب الديني هو السير في مناكب الحقيقة مرحلة مرحلة، لملامسة كنهها بالعقل والإقناع. وكلما ذكر التدرج في الخطاب الديني، إلا وتم استحضار تجربته صلى الله عليه وسلم التي تكشف عن تعامله اللبق مع الناس، فخطابه المكي الذي استغرق ثلاثة عشر سنة كلها من اجل كلمة واحدة، كلمة لا اله الا الله محمد رسول الله ، هذه الكلمة إن رسخت في القلوب ونقشت فيها، كان العجب العجاب في الإيمان والمعاملة، هكذا قررت قواعد القرآن الكريم المتدرجة في أحكامها وحكمها. أما المرحلة المدنية وهي المرحلة الثانية من مسلسل السننية والتدرج، فكانت واقعية أكثر من الواقع ذاته، أي أنها عاشت مع الإنسان من حيث هو إنسان، وكيفت ظروفه وخصوصياته، وذلك كله من اجل إيجاد أرضية صلبة ومتينة لتوطيد دعائم الدعوة في القلوب والواقع، لأن القفز على المراحل، تورث ضعف الحركة وزوالها ولو بعد حين. وعلى سبيل المثال، نذكر أنه ذات يوم، [قال عمر بن عبد العزيز لابنه: لا تعجل يا بني إن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة، و إني أخاف أن احمل الناس على الحق جملة فيدعوه جملة].
إن السننية والتدرج مع ترتيب الأهداف وتسطير الأولويات يجعل من الخطاب الديني عنصرا ايجابيا في تناول الموضوع المراد تبليغه مرحلة بعد مرحلة، فكرة بعد فكرة، لبنة بعد لبنة، الثانية تكون تتمة للأولى، وهكذا يكتمل البناء في بسط الحقائق أمام العقل الذي لن يدخر جهدا في الاقتناع بها، والتسليم لسلطتها. وحوار النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه، كان مثالا في اعتماد التدرج، الذي كانت بركته تغمر الزمان والمكان، من حيث القابلية والاستجابة التي كانت تحصل من الطرف الآخر ، فرب فكرة ألقيت من سلم التدرج ، توتي أكلها ولو بعد حين، بعد أن تعطى لها الفرصة في الاختمار والنضج، حتى مع الذين طبع الله على قلوبهم، كان تأثير التدرج واضحا، حيث كان الخطاب الديني مطبوعا بنفس إيجابي، يحمل بارقة الأمل، باسطا كفيه بالليل والنهار، يقول الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم : [قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ](سورة الكافرون).
فالحكمة إذن من السننية والتدرج هي إعطاء فرصة أكبر للآخر المستقبل للخطاب الديني للتروي والتفكر في كل مرحلة على حدة، من أجل تيسير وصوله إلى الحقيقة، حقيقة الدين القائمة على الوسطية والاعتدال والتسامح والانفتاح.. سأل رجل أحد الدعاة المسلمين قائلا: هل يمكنني أن أكون مسلما وشيوعيا في نفس الوقت؟ قال له نعم، قال: كيف؟ قال: إذا قلت ” لا إله”، قطعت نصف الطريق، بقي النصف الثاني لتقرر هل تكون معنا أم لا.