رمضان الجود – د. أحمد الريسوني

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرو أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ومن يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له

وأشهد ألا اله الا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين اللهم صل عليه وعلى آله وصبحه وسلم تسليما

معاشر الإخوة المؤمنين الصائمين في هذا الشهر الكريم جميعا،

السلام عليكم جميعا ونسأل الله أنه كما بلغنا هذا الشهر في بدايته أن يبلغنا إياه في نهايته ون يبلغنا نهايته نهاية سعيدة متقبلة غانمة سالمة بفضله وكرمه وجوده.

موضوع هذه الكلمة ذو صلة وثيقة بهذا الشهر الكريم، وبالذات بموضوع الجود في رمضان، طبعا رمضان مدرسة متعددة الفصول والمواد والمقاصد فنتناول اليوم في هذه الكلمة جانبا واحدا ومحدودا من الجوانب التي تحركها وتشغلها وتفعلها مدرسة رمضان وهو موضوع الجود.

وخصوصية الجود في رمضان نجدها واضحة في الحديث الصحيح الذي رواه ابن عباس الذي قال فيه : ( كان رسول الله صلى اله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة)، بهذا الحديث أن رسول الله كان أجود على الدوام، ولكنه كان يصبح أجود ما يكون في رمضان، المعنى في هذا أن رمضان يأتي بفضائل به لا تأتي في غيره لكنه جدير بأن تكون الفضائل كلها في رمضان على أعلى الدرجات، وجدير أن تكون الرذائل فيه في أقل الدرجات إن لم تنمح من حياتنا، فرمضان هو الشهر الذي نصومه وهذه خصوصيته وما سوى ذلك من قيام وجود وتواصل وتلاوة وذكر كلها أعمال مشروعة ومسنونة ومطلوبة في غير رمضان وفي رمضان، لكن رمضان هو شعر التعبئة التامة وشهر الارتقاء إلى أعلى الدرجات، إذن هذا ما يفيده هذا الحديث وهذا النموذج الذي هو نموذج رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو أجود الناس على الدوام، في رمضان ومن رمضان إلى رمضان، ومع جميع الناس، لكنه كان أجود ما يكون في رمضان، جوده يتضاعف ويشتد ويرتفع في رمضان، ثم يبلغ ذروته حين يأتيه جبريل عليه السلام، وكان يأتيه في رمضان يوميا كما هو واضح في الحديث، كان يأتيه كل ليلة لمدارسة القران وليس فقط التلاوة، وهو أمر لا بد من اغتنامه والانتباه إليه، فإذا جاءه جبريل وجالسه وحادثه وعارضه القران حينئذ يبلغ الذروة في التفاعل مع الخير ومع الجود حتى يقول ابن عباس رضي الله عنهما فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة، تشبيه عظيم وبليغ جدا حيث يصبح الخير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا حدود وبلا وجهة واحدة بل في جميع الوجهات وفي جميع الاتجاهات، كالريح فحين تهب لا تميز بل تهب على الجميع ويستفيد منها الجميع ويتلقح منها ما يمكن أن يتلقح، هذه الريح بعمومها وقوتها وانطلاقتها وعدم تمييزها بين الناس هكذا رسول الله بالخير في رمضان حين يلقاه جبريل ويدارسه القرآن يخرج وهو على هذه الحال ريح فيها خير كثير تهب على الجميع ويستفيد منها الجميع، هذا هو الجود النبوي في رمضان تحديدا وبصفة أخص حين يجالس جبريل في هذا المجلس الكريم وحين يتدارس معه القرآن فهو أثر من أثر القران مثلما هو أثر من أثر هذا الشهر الكريم شهر رمضان.

في رمضان ينبغي لمن يتأسون برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزدادوا جودا فالمفروض أن يكونوا من باب التأسي أهل جود في سائر حياتهم لا يسيطر عليهم الشح والأنانية والاستكبار بل الإيثار والعطاء والجود، ولكن يجب في رمضان من كل واحد أن ينظر ويحرك أحواله ويده وجيبه ليكون أجود في رمضان مما هو في سائر شهور السنة، ويجب أن ننتبه إلى أمر هو أن الكثير من الجود وخاصة الجود بالإطعام كثيرا ما يتجه فيه الناس إلى أمثالهم وزملائهم وأصدقائهم من الأغنياء فيكرمونهم ويتكارمون فيما بينهم ويتبادلون الموائد الغنية الشهية في الإفطار وفي غيره وينسون الفقراء، الجود لم يشرع للأغنياء، الجود شرع للأغنياء ليقوموا به لا ليستفيدوا منه ويتلقوه فهم في غنى عن العطاء وعن الصدقة والاكرام والوليمة، هذه الأمور في أصلها شرعت للفقراء إكرام الضيف والجار والمحتاج وإطعام الطعام والعناية باليتيم والأرملة والفقير فهي أمور موجهة للفئات المحرومة كما قال تعالى :”وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم”، فعلينا أن نفكر في المحروم الذي لديه حرمان كلي أو جزئي أو نقص أو خصاص عابر أو دائم، كل غنانا وجودنا يجب أن يكون همه متوجها إلى هؤلاء قبل كل شيء، وهذا لا يعني ألا يكرم الإنسان أقاربه أو جيرانه أو أصدقائه من الأغنياء لكن ما شرعه الدين من زكاة وصدقات وجود وإكرام وإطعام إنما هو موجه أساسا للفئات المحرومة والمحتاجة، والذي يحصل أن كثيرا من ولائمنا وموائدنا ومكارمنا يوجهها الأغنياء للأغنياء والأثرياء للأثرياء والمتخمون لمتخمين ويحرم منها الفقراء، فإذن في الإطعام أو في غيره من أشكال الإكرام والجود يجب أن نستحضر المحتاجين إلى ذلك أولا، وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة أنه كان يقول :”شر الطعام طعام الوليمة يدعى لها الاغنياء ويترك الفقراء”، فأشهى الموائد يجب أن تقدم للفقراء الذين لا يجدونها طيلة حياتهم، فالمعنى الحقيقي للوليمة الغنية الشهية هي أن يأكل منها الفقراء ويتعرف عليها الفقراء ويستفيد منها الفقراء، فالجود بصفة عامة وفي الاطعام بصفة خاصة يجب أن يتجه للفقراء والمحتاجين وليس للأغنياء دون أن ينفي الإكرام المتبادل بين الأغنياء لأنه من نوافل الأعمال ومن مكملاتها ومحسناتها، أما إكرام الفقراء فهو من الضروريات أو من الحاجيات الحاقة كما يقول الإمام الجويني رحمه الله : (من المصالح الحاقة إطعام الفقراء والمحتاجين وإعطائهم ما يستحقون)، لأن الحاقة معناها المستحقة والثابتة والمؤكدة.

في هذا السياق لا يفوتنا في هذا الشهر وفي غيره في سياق الحديث عن الضعفاء والفقراء والمحتاجين أن نستحضر بصفة خاصة ان بلادنا اصبحت تؤوي عددا من الفقراء والمحتاجين والمحرومين والبؤساء الوافدين عليها من خارجها سواء من اخواننا السوريين أو القادمين من الأقطار الافريقية هؤلاء كلهم بدون استثناء بأطفالهم ونسائهم ورجالهم محرومون كلهم في هذه الحالة الفقراء قد يكون لبعضهم في بلده أراض وممتلكات وأموال ولكنهم الآن كلهم من أبناء السبيل، وكلهم من المحرومين والمحتاجين وقد أووا إلينا ولم يترك أحدهم بلده وداره إلا مضطرا ومكرها وتحت ضغط شديد، لا أحد يحب أن يفارق أهله ووطنه وأرضه وأقاربه، فإذا هم مضطرون للمجي لبلدنا أو الذهاب لبلدان شتى وبالتالي لهم خصوصية ولهم هذه الحالة السيئة التي تجعلهم أسوأ من فقراء بلدنا، ولهم حق الضيافة كما قال صلى الله عليه وسلم “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه”، فهم ضيوف وقبل ذلك وبعده هم محتاجون وفقراء وفي حالة محنة فعلينا أن نلتفت إليهم، وبخصوص الأفرقة على وجه الخصوص لا داعي حين تريد أن تطعم أو تكرم أو تساعد أن تبحث عن دينه في هذا المقام، ربما في مقام الدعوة فإن كان مسلما علمته دينه ليتفقه فيه ويعمل به، وإن كان غير مسلم تعرفه بالإسلام فيدخل فيه، لكن المقام الذي نحن فيه هو مقام الجود والإكرام والإطعام هنا افعل ولا تبالي ولا تسأل عن دينه كان نصرانيا أو مسلما أو وثنيا، وهنا نستحضر حديث خديجة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم وكيف كان قبل بعثته وحين بعثته حين قالت له، وقد نزل عليه أول ما نزل فجاء خائفا مضطربا بهذا الذي يحصل له أول مرة، فقالت له هذه المرأة العظيمة المتميزة بثباتها ورباطة جأشها وحكمتها وعقلها : (كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق ) والمهم في هذا الحديث هو أن هذه الافعال كان يفعلها صلى الله عليه وسلم قبل بعثته مع المشركين أو على العموم مع من كانوا غير مسلمين، فمعناه أن هذه الخدمات والاعمال والخصال يجب أن يشمل ظلها وخيرها ويعم نفعها الخلائق كلها والناس أجمعين مسلمين وغير مسلمين، وهذه الخصال أيضا تقودنا لشيء آخر وهو أن الجود ليس دائما متوقفا على النقود وعلى المال الذي نعرفه وهو المال السائل او الناض فما كان يفعله لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن تتطلب منه أي مال لكنها تتطلب نفسا جوادة خيرة وساعية إلى البذل والنفع وخدمة العباد، فصلة الرحم قد يكون فيها مال وقد لا يكون وقد تتفقد خالة أو جدة أو قريبة فتساعده وترشده وهي كلها تدخل في صلة الرحم، وتدخل في كونه كان يحمل الكل والكل هو الإنسان العاجز الذي لا يقوم بنفسه، فالطفل كل والشيخ كل، والمريض كل والمعاق كل، ويمكن مساعدته دون مال، وتكسب المعدوم أيضا أي تعلمه وترشده كيف يصبح ذا كسب وهذا معروف في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حين يأتيه الشخص عاجزا يطلب عملا أو صدقة أو رزقا فيعلمه كيف يكتسب وكيف يصبح ذا مهنة وماذا يعمل وكيف يسلك وإلى أين يذهب…، فأن تكسب المعدوم معناه أن تساعده بأي شكل وترشده وتيسر له وتدله والدال على الخير كفاعله، فيصبح ذا كسب بسبب مساعدتك وإرشادك، وقرى الضيف ما يقدم لضيف عند مجيئه ومكانته معروفة كما في الحديث، وأخيرا تعين على نوائب الحق وهي كلمة جامعة فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يقف مع أصحاب الحقوق، فهو من نزلت به نوازل وأصابته مصائب وليس ظالما أو متعديا، فهو فيها مظلوم وصاحب حق فنزل به الظلم والمصيبة وقد تكون طبيعية كالهدم والحرق وما إلى ذلك مما يقع بدون قصد، أو أن يكون مظلوما من أحد من الناس من المعتدين والمتجبرين في جميع الحالات، فهذا يجب الوقوف معه، ومن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم الوقوف مع أصحاب نوائب الحق.

ومما يذكر في هذا السياق أن الجود لا يتوقف على النقود فيمكن أن نبادر بالزوائد التي عندنا في بيوتنا من الآلات والألبسة والكتب والموائد والأجهزة … الخ، فلا يكاد يخلو بيت من أهل اليسار وحتى من ذوي الأحوال المتوسطة من زوائد لم تعد مستعملة أو قليلة الاستعمال أو نادرة الاستعمال، معطلة تشغل بيوتنا وتشغل حيزا من غرفنا ومطابخنا وحدائقنا فليكن شهر رمضان هو شهر المراجعة التامة لما في البيت ولكل ما نملكه مما يظهر أنه لم تعد لنا حاجة به وأصبحنا في غنى عنه واشترينا غيره أو تجاوزناه إلى غيره، من ملابس وأقلام وكتب وغيرها مما قل نفعه أو انعدم نفعه، فليكن شهر رمضان مناسبة لإخراجه وإرساله لمن هم بحاجة إليه، من أيتام وفقراء والضيوف الوافدين علينا، فهو إذن من الجود الذي يجب أن يكون دائما وهذا أقل شيء، كلما رأينا أننا استغنينا عن أي شيء من الأواني أو الثياب والأثاث لا نتركه يضيع أو معطلا بل نبادر ونرسله في طريقه وخاصة في شهر رمضان.

وختاما الجود يكون أحيانا بلا أي شيء ما لا نستغني عنه ولا نخرجه وهو الحث كما سمعنا في سورة الحاقة أنه كان لا يؤمن باليوم العظيم ولا يحض على طعام المسكين، وذكر هذا من بين أسباب دخول النار وهو أن الإنسان لا يؤمن بالله العظيم وانظر كيف اقترن بها مباشرة ولا يحض على طعام المسكين، فالذي لا يحض على طعام المسكين مهدد أو عل الاقل نقول أنه آثم مقصر، فاذا تعلل الإنسان بأنه لم ينفق لأنه لا يجد ما ينفق، فلا أحد يعذر في أن يحض على طعام المسكين، كلنا نملك ألسنة ونملك أن نتكلم بالكلمة هنا وهناك ونحض على طعام المسكين، والله تعالى يقول :”أرايت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين”، فالآيات متكررة في الوعيد على من لا يحض على طعام المسكين، والوعيد كما نرى هنا أكثر من الوعيد على من لا يطعم، فمن لا يطعم قد يتعلل بأن ما لديه قليل أو ليس معه شيء أو عنده أولاد فلا ينفق على غيره، لكن في الحض على اليتيم وعلى حقوق المسكين فلا يعذره الله بل جاء الوعيد شديدا واقترن عدم الحض على طعام المساكين والايتام والفقراء والمحتاجين بالوعيد بالنار واقترن بالكفر بالله واقترن بأشد وأخبث الصفات لأنه لا عذر فيه بتاتا، إذا فليكن من جودنا أن من عنده يعطي ومن عنده يعطي ويقول ومن ليس عنده أو يزعم أن ليس عنده ما يعطي فعلى الأقل يتحدث ويؤمر بشكل خاص وشخصي فيمن يعرف في وسطه، أو بشكل عام كما هو شأن الخطباء والدعاة والكتاب لا بد من الحث على الإطعام ولا بد من الحث على حقوق الفقراء والمستضعفين، فمما نضيفه في رمضان بالإضافة إلى ما  قد نجود به ويفتح به الله علينا من جود وعطاء فليكن من أبواب الجود في رمضان الجود بالكلمة التي تؤمر بالمعروف وهي هنا في سياقنا إعطاء الفقراء حقوقهم واحتياجاتهم، والنهي عن المنكر والمنكر هنا هو التقصير في هذه الحقوق أو تعطيلها أو تجاهلها ممن وجبت عليهم، وبالله التوفيق وآخر دعوانا أن الحمد له رب العالمين.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى