الدكتورة سمية بنخلدون العمراني.. مسيرة حافلة بالعطاء، تستحق التقدير والوفاء
دأبت حركة التوحيد والإصلاح على تنظيم حفل تأبين وعزاء، لمن فقدتهم من أبنائها وبناتها، ممن أبلو البلاء الحسن في بناء مشروعها، وفي تنزيل أفكاره وتفعيل أهدافه. وفي الدفع بهذا المشروع نحو آفاق الرسالية، ومجالات الخدمة المجتمعية.
فتواجد الحركة في الساحة الوطنية، وما يعرفه من فعالية وتنافسية، هو نتاج -بعد توفيق الله تعالى- لجهود مباركة من أعضائها، ولتضحيات غالية من أبنائها..
وقياما بواجب البر، الذي يعتبر من القيم الكلية في ديننا، تقيم الحركة مجالس التأبين والعزاء، ليس لتجديد الأحزان أو إثارة الأشجان، بل لإحياء معاني الوفاء وقيم العرفان بين أعضائها وعموم المواطنين.. حيث يجتمع أهل الحركة والقريبون من فكرتها، للثناء على الفقيد/الفقيدة بصدق، والتعريف بأعماله الجليلة بحق، دون زيادة أو نقصان، تنفيذا لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلّم “اذكروا محاسن موتاكم”، وأيضا أداء لشهادة حق تنفع الفقيد في لقائه مع ربه، لأن المسلمين كما قرر ذلك الرسول صلى الله عليه وسلّم “شهداء الله في الأرض”.
كما يكون هذا الجمع، فرصة للفرح والسرور بمسيرة الفقيد وعطاءاته وإنجازاته، ومجالا لتلمس آفاق الإستفادة من تجربته، لتكون زادا ووقودا يدعم الأفراد والتنظيم في الميادين التي برز فيها.
وفقيدتنا الغالية سمية بنخلدون، من أهل الصلاح والإصلاح -ولا نزكي على الله أحدا- ومن أهل العلم والمعرفة، ومن أهل الخير والعطاء.. وما آثارها وأعمالها والمسؤوليات التي تقلدت، إلا عنوانا دالا على هذا الإختيار.
وسنحاول في هذا المقال، إبراز بعض جوانب تميزها، من خلال مسارها في محطاته المختلفة، مستفيدين في ذلك من كلمات وشهادات حفل التأبين والعزاء، الذي أقامته الحركة بمدينة مكناس، بتنسيق مع نجلة الفقيدة الدكتورة بشرى الإدريسي..
1- إسم ومعنى:
لكل اسم معنى، وكل إسم يؤثر في شخصية حامله سلبا أوإيجابا، كما يؤثر في طموحاته وإقباله على الحياة. لذلك حث رسول الله صلى الله عليه وسلّم على اختيار أحسن الألقاب، وبين أفضلها وأحبها إلى الله تعالى. كما نهى القرآن الكريم على التنابز بالألقاب، لآثاره المدمرة على شخصية الإنسان.
وإسم سمية من الأعلام العربية القديمة والمشهورة، ويعني “العلامة المميزة والفارقة”. فسمية مشتق من الفعل “وَسَمَ”، أي ترك أثرا وعلامة.
وفقيدتنا سمية بنخلدون، كانت ذات بصمة خاصة وأثر جميل. بسيرتها العطرة وما تحمله من ذكريات طيبة، وبروحها الطاهرة النقية، وبأخلاقها الراقية الرفيعة، وبإنجازاتها وأعمالها الخالدة.. بما جعلها شخصية اجتماعية مؤثرة، تُشعر من حولها بالثقة والسمو والإطمئنان، وتدفعهم نحو المبادرة والإبداع والإنجاز.
كل الأماكن والمؤسسات والمجالات التي مرّت منها فقيدتنا، تركت أثرا إيجابيا رائعا، وقدمت نموذجا معتبرا للمرأة المسلمة الرسالية، المعتزة بأصالتها المغربية، وبانتمائها الحضاري الخالد، والقابضة على فكرتها الإصلاحية دون كلل أو ملل.
2- خيرية في الأهل:
في منهجنا الإسلامي مقياس دقيق، للخيرية الحقيقية الصادقة، وهو المعاملة الحسنة للأهل، سواء في البيت أو في محيطه القريب. قال (ص): “خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي”. ذلك أن الإنسان في بيته يظهر على حقيقته في أخلاقه وعواطفه، وفي أفكاره وسريرته..
ونجاح الإنسان في بيته، يغذيه بمعاني الرقي والإنجاز، ويدفعه للإستمرار في النجاحات خارج أسوار البيت، دون أن يفقد توازنه، خصوصا أمام المواقف الصعبة.
وفقيدتنا سمية، كانت في حياتها الأسرية ناجحة بدرجات عالية. سواء في حسن تبعلها، حيث شهد لها زوجها “د.الحبيب الشوباني” أنه “راض عنها ويدعو الله تعالى أن يرضى عنها كذلك”. أو في تربية أبنائها، إذ خرّجت للأمة أبناء بررة: الدكتورة بشرى الصيدلانية وياسر الطيار ومكون الطيارين وذ.علي المهندس اللامع وذة. مروة المهندسة المعمارية. أو في علاقتها بأقاربها، الذين أكدوا في شهاداتهم أنهم يفتخرون بها، ويشهدون أنها أدت الأمانة على حقها..
فحسن الأخلاق ونبل المعاملة، كان رأسمالها الحقيقي الذي حافظت عليه طول حياتها، وجعلت منه رصيدا تستعين به في أداء مسؤولياتها، وسلاحا معنويا تواجه به تحديات الحياة، وإكراهات محيطها الإجتماعي والثقافي والسياسي..
3- التزام مع التنظيم الرسالي:
تعتبر فقيدتنا من الرعيل المؤسس للعمل الإسلامي النسائي بالمغرب، حيث انخرطت في مسيرة الدعوة منذ كانت شابة، وظلت عاملة في مؤسساتها المختلفة. وساهمت في أهم محطات تطور التنظيم الرسالي للحركة، خاصة في مرحلة الوحدة الاندماجية، وأثناء إرساء التخصصات وتحديد التوجهات الاستراتيجية للعمل، وتدقيق الإختيارات الكبرى للمشروع الإصلاحي.. كما كان لها دور قيادي في عدة واجهات، خاصة مجال المرأة والأسرة، حيث عرفت في ذلك بأدائها المهني الرفيع، وبكفاءتها العلمية العالية.
وفقيدتنا رغم المسؤوليات السياسية الكبرى التي تقلدت، ورغم الفضاءات العلمية والأكاديمية التي اشتغلت فيها، وهي المهمومة بقضايا الوطن والأمة. ورغم المكانة الإجتماعية الراقية التي حظيت بها، وعاشت أغلب حياتها في ظلالها الوارفة.. لم تتخلف عن مدرستها الحركية، وبقيت وفية لها بلا تعثر أو مماطلة، ولم تقطع حبل الود والإخاء مع تنظيمها، بل ظلت مرابطة صامدة بلا تردد أو التواء، ولم تُسجل في لوائح المنقطعين أو المتعثرين أو المنسحبين في صمت، بل كانت في لائحة الأعضاء العاملين المخلصين.
فقد توفيت فقيدتنا وهي عضو فاعل في الحركة، لم يمنعها مرضها من أداء واجباتها اتجاه حركتها، والمواظبة على حضور المجلس التربوي، ومختلف الأنشطة الإشعاعية للحركة -حسب ظروفها الصحية-.
فكانت بحق قدوة رائعة لأجيال شباب الحركة، في الإلتزام مع التنظيم الرسالي، والوفاء لمقتضيات انتمائها لعمل جماعي منظم..
4- ابتسامة البهجة والرضا:
رغم أنها لغة عالمية صعبة على عامة الناس، ولا يتقنها إلا العظماء منهم، فقد أجمع كل من عرف فقيدتنا سمية بنخلدون، على قدرتها العجيبة في الإحتفاظ بوجه بشوش، وابتسامة مشرقة بهية لا تفارق محيَّاها.. وحتى في فترة مرضها وخضوعها للعلاج، كانت لحظات استعادة وعيها تعرف بابتسامتها الجميلة.
هذه الإبتسامة كانت مفتاحها السحري، لكسب قلوب الناس والتأثير فيهم، بما حباها الله تعالى من قدرات على إنعاش الأفال وفتح الآفاق وبسط السعادة في النفوس، بأحسن الأخلاق وأطيب الكلمات وأرقى السلوكات.. فكانت سلوى للقلوب المفجوعة، ودواء للجروح النفسية والإجتماعية العميقة. لأن ابتسامتها كانت مبدءا في حياتها لا استثناء، وأصلا ثابتا في شخصيتها، انطبعت به لطهر سريرتها وصفاء فؤادها من كل الأدران، التي تصيب قلوب العباد مع مرور الأزمان.
وهذه الإبتسامة أيضا، هي دليل عميق على الأمان النفسي الذي تسمو به روحها، وحالة الرضى بما قسم الله تعالى في الأعمار والأرزاق والحظوظ، واطمئنان إلى عطائه تعالى.. وهو ما أكسبها صبرا عجيبا في ظروفها الصعبة التي مرت بها، وأمام كل الضغوطات الكبيرة التي عاشتها في مسيرتها، دون أن تستسلم للحزن والألم والمكائد.
5- الهُدى القرآني يختم المسيرة:
أمنية كل مسلم وغايته الأسمى أن يختم الله له بالحسنى، لأن حسن الخاتمة علامة على رضى الرب سبحانه، ورضاه يعني الفوز برحمته وفضله وكرمه، ومغفرته وعفوه دنيا وآخرة..
وعرفت فقيدتنا طيلة حياتها، باجتهادها في الطاعات وكل أعمال البر والقربات، على قدر وُسعها واستطاعتها.. لكن في سنواتها الأخيرة، كان الإجتهاد في أعلى مستوياته، والتقرب إلى الله تعالى زادت وتيرته وعمقه. من الفرائض والنوافل ومن الأذكار والأوراد، في تناغم وانسجام مع برنامجها اليومي، ومسؤولياتها الأساسية والتطوعية.
وقد أكرمها الله عز وجل – سيرا على خطى عظماء هذه الأمة من العلماء والأمراء والصلحاء- بأن تختم حياتها، بتعلق فريد مع كتابه العزيز، قراءة وتدبرا، ومدارسة وتفسيرا وتدوينا.. أثمر هذا التعلق الوجداني والإنشغال الفكري، إصدارها لكتاب “مدارج آيات القرآن للفوز برضى الرحمان”. أودعته اهتمامها الأصيل بوحي الله تعالى، وشوقها العميق لجوائزه المبهجة. فعبدت طريق هذا المقصد، بتقريب الصفات الحميدة في القرآن الكريم، عبر استقراء ألفاظها وبيان معانيها، وتنظيم معالمها وتحديد منازلها، ثم الترغيب في تحصيلها حبا وشوقا يهدي سالكها..
وكعادتها -رحمة الله عليها- في الإقبال على أعمال البر والخير، جعلت هذا الكتاب وقفا لله تعالى، وصدقة جارية لوجهه الكريم.
رحم الله الفقيدة الغالية سمية بنخلدون، وألهمنا جميعا وأهلها الصبر والسلوان..
عبد الهادي باباخويا