الإدريسي يكتب: في قِيمَة العِلم -20 –

مَا من شَك أن رسالة القُرآن المجيد كانت مفاجئة للمجتمع القُرشي وقتئذ، لأنها دعتهم إلى توحيد المعبود عبر مدخل العلم والقراءة، وهذا الأمر كان  بالنسبة  لهم  غير معهود ولا مُتوقع، فكان أول ما نزل من القُرآن العزيز الآيات الخمس الأولى من سورة العلق، ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾، والتي تدعو إلى القراءة باسم الرب ومع الرب، باعتبارها المدخل الأسلم لتمثل قيم المعرفة ومعرفة القيم، ثم بعد ذلك نزلت سورة القلم، التي أشارت إلى الوسيلة الثانية للعلم والمعرفة، فجمع القرآن الكَريم في بواكير تنَزُّلاته بين وسليتي العلم والمعرفة وهي القراءة والكتابة.

ولذلك جعل القرآن المجيد العلم هو المؤطر لفِكر المؤمن وسلوكه، على اعتبار أن العلم صفة راسخة تدرك بها الكليات والجزئيات، أو هو مجموع المعارف المكتسبة بالبحث والمدارسة، في جميع المجالات والتخصصات، والتي تنعكس بالضرورة على الحياة الإنسانية، والاجتماع البشري.

ولنَا أن نتصور الأثر الكبير للأخذ بناصية العلم على الأمة الإسلامية في بداياتها، ثم تطورها، وكيف أسهم العلم في تحقيق نقلات نوعية وطفرات حضارية للمجتمعات والأمم التي أعطت الأولوية للاستثمار في الإنسان عبد تنمية وتعزيز قيمة العلم والمعرفة، وفي ذلك نستحضر قول الباري الذي بيَّن الفرق الشاسع والبون الكبير بين العالم والجاهل: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ سورة الزمر الآية9

والمتأمل في آي الذكر الحيكم سيجد أنَّ لفظة العلم ومشتقاتها من أكثر الألفاظ ورودا في القرآن الكريم؛ فقد وردت هذه الألفاظ حوالي ثمانمائة وستًّا وخمسين مرَّة، بحيث لا تكاد تَخلو سورة من سوَر القرآن الكريم من الحديث عن العلم، سواء بطريقة مباشرة أو غير مُباشرة، وفي ذلك دعوة مباشرة إعمال العقل والفكر، والتأمل والنَّظر، والاهتمام بالقراءة والمعرفة، والاستيعاب لحقائق الكون باستثمار كل إمكانات العقل البشري، فبالعلم يسمو الإنسانُ ويرتفع من مَرتبة البهيميَّة إلى مرتبة الآدمية، فقد ميز الله  الإنسان بالعقل وميزه به، لأن العقل هو أداة الفهم ووسيلة التفكُّر و آلية التدبُّر:﴿إَنَّا  أَنْزَلْنَاهُ  قُرْآنًا  عَرَبِيًّا  لَعَلَّكُم  تَعْقِلوُن﴾، وقوله  تعالى: ﴿إِنَّ  فِي ذَلِكَ  لَآيَاتٍ  لِأُولِي  النُّهَى﴾ .

إن القُرآن الكريم قد بين بأن طلَب العلم لا حدود له، وأن تحصيله دونه العمر كله، فكانت الآيات محفزة على ذلك، باعثة على اغتنام الأوقات والأنفاس، منها قوله تعالى: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ سورة يوسف الآية: 76، وقوله تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ سورة الإسراء، الآية:85، وأكد فضل العِلم والمتعلم والعالم، وبأن صاحبه صاحب منزلة عظيمة ومكانة رفيعة في الدنيا والآخرة، ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ سورة المجادلة، الآية: 11، ولذلك يكون المؤمن حريصًا على الاستزادة من هذه القيمة دون كلل أو ملل، قال تعالى: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ سورة طه.

هذا الحرص على الاستزادة هو الذي جعل كل الأنبياء ينهجون نهج التعلم وطلب العلم، مهما بلغت  مرتبهم ومكانتهم، فهذا  سيدنا  موسى عليه  السلام وهو كليم  الله وأحد أولى  العزم من الرسل، يطلب الصُّحبة  العلمية والرفقة التّعلمية  من طرف الرجل الصالح من أجل أن  يتعلم  ويستزيد  في العلم، ويحرص كل  الحرص على  ذلك، ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا  قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ﴾ سورة الكهف.

وبهَذه  القيمة المركزية الناظمة لكثير من القيم القرآنية يحصل  التفاضل ويكون الاستحقاق لأنها مقوم مقومات الكفاءة وأساس من أسس الاستحقاق، فقد أخبَرَنا الله تعالى عن الأسباب التي جعلَت طالوت ملكًا، فقال تعالى: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ سُورة البقرة، الآية: 247، وبهذه القيمة الأصيلة تحصل  الخشية  ويتحقق  الورع ، فيقول سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ سورة فاطر، الآية: 28.  وهؤلاء العلماء الذين يخشون الله تعالى، قد منَّ الله عليهم وأكرمهم بأنْ جعلهم من أهل الشُّهود الذين شهِدوا على وحدانيّته سبحانه وتعالى، قال تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ سورة آل عمران: الآية 18، وبهذه القيمة يتحقق الإبصار للحقائق والاهتداء بسيد الخلائق عليه الصلاة والسلام.

ولو أردنا نُطيل في هذا المقال لما كفتنا كُتب ومجلَّدات وقَراطيس ومصنفات، ويكفي من القلادة  ما أحاط  بالجيد، وختاما نقول إن قيمة العلم  هي  السِّمة التي تدل  على  رقي  الأمم  وتحضرها، وهي الوسيلة  الأنجع للوصول إلى أعلى المراتِب الحضارية، فالعلم هو الوقود  الأساسي لتحريك الأنسان نحو أفق العطاء والتميُّز، واستثمار الخبرة التاريخية واستشراف المستقبل، من منطلق  قول الله تعالى في سورة يوسف:﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ الآية: 111 ، وبهذا يهتدي المؤمن بأنوار العلم في كل مجالات الحياة، و يبذل الوُسْع ويستفرغ الجهد في طلب العلم و التحقق بآدابه  قال تعالى: ﴿قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِين﴾ سورة يوسف، الآية:108، ويقول الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام:(إنما العلم بالتعلم و إنما الحِلم بالتَّحلم ومن يتحر الخير يعطه ومن يتق الشر يُوقه) رواه الدارقطني وحسنه الألباني.

وفي القُرآن المجيد لا علم بلا عمَل، فكان العَمل هو الوجه الآخر لقيمة العلم، والعلمُ إمام العَمل.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى