أهمية اللسان العربي وأثره في حفظ الهوية والأوطان والدين والإيمان

بسم الله الرّحمن الرَّحيم وبه نستهْدي ونَستعِين

الحمد لله الذي بحمده يُفتتح ويُختتم، ويُستكمَل كلُّ أمرٍ ذي بال ويستتم، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد الذي أكمل الله به النبوة والرسالةَ وختم، وآتاه جوامع الكَلِم والحِكم، وعلى آله شُموس الهدى وأقمار الدُّجى وبدور الظُّلم، وأصحابه أعلام السنة وسلَّم، صلاة وسلاما يَقيَان الألَم وَيُولِيَّان النِّعم، ويصرفان سُوء البلايا والنِّقم.

أما بعد فالمناسبة شرط، والمناسبة اليوم 18 دجنبر هي الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية، وقد وقع الاختيار على هذا التاريخ بالتحديد للاحتفاء باللغة العربية لأنه اليوم الذي اتخذَت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1973م قرارها التاريخي بأن تكون اللغة العربية لغة رسمية سَادسة في المنظمة، بالإضافة إلى الإنجليزية والفرنسية والروسية والصينية والإسبانية.

ولذلك سنتحدث في هذه التبصرة عن:

أهميةِ اللسان العربي وأثرِه في حفظ الهوية والأوطان والدين والإيمان.
        إن لغةَ الأمة ولسانَهاعنوانُ هويتها ونُسغُ وجودها، ووعاءُ فكرها وثقافتها، ومستودعُ قيمها ومُثلها، ومُجتلى حضَارتها وعبقريتها، ومرآةُ نهضتِها ونبوغِها، وحاضنة تُراثها ووجدانها، وهي أداة تعبيرها ولسان حالها، ووجود الأمة مرتبط بوجود لغتها، والأمم التي انقرضت لغاتها زالت من الوجود، واندثرت من عالم الشهود، ولا بقاء لأمة يتخلى أهلها عن لغتها ولسانها، يقول الأديب صادق الرافعي رحمه الله في كتاب ” وحي القلم”: ما ذَلّت لغةُ شعبٍ إلا ذلّ، ولا انحطَّت إلا كان أمرُهُ فى ذهابٍ وإدبارٍ، ومن هذا يفرِضُ الأجنبيُّ المستعمرُ لغتَه فرضاً على الأمةِ المستعمَرَة، ويركَبُهم بها ويُشعرهم عَظَمَته فيها، ويَستَلحِقُهُم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكاماً ثلاثةً فى عملٍ واحدٍ: أما الأولُ: فحبْسُ لغتهم فى لغتِهِ سِجناً مؤبداً. وأما الثاني: فالحكمُ على ماضيهم بالقتل محواً ونسياناً. وأما الثالثُ: فتقييدُ مستقبلهم فى الأغلالِ التى يصنعُها، فأمرهم من بعدِها لأمرِهِ تَبَعٌ” .

لذلك أجمع العلماء على أن  العربية من صميم الهوية والدين، وأساس بناء الوطن المتين، دلّ على ذلك ما كتبه غير واحد من الأئمة الأعلام مثل الإمام أبي عبد الله بن الأزرق الغرناطي ت 896هـ في كتابه: “روضة  الإعلام  بمنزلة  العربية من علوم  الإسلام” والذي جمع فيه من الشواهد والأدلة واللطائف وأقوال العلماء ما يُغني عن سواه، حيث يقول: “إن العِلمَ بها وسيلةٌ إلى فهم أشرف المقَاصد، وهي علوم  الكتاب والسنة، وحينئذ يكون لها من الفَضائل على الجملة ما لتلك المقَاصد الشريفة، لأن الوسائل من حيث هي لها أحكامُ مقاصدها، فالوسيلة إلى أفضَل المقاصد هي أفضل الوسائل، والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل” ص92.

وهنا لا بد من التميز بين اللغة واللسان فالقرآن المجيد نزل بلسان عربي مبين،

فقد وُصف القرآن بأنه عربي في أحدَ عشر موضعا، منها ثلاثة مواضع بأنه لسان عربي:

قال تعالى: “قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْـحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ. (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا يُعَلِّـمُهُ بَشَرٌ. لِّسَانُ الَّذِي يُلْـحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ (103)” سورة النحل.

قال تعالى: “وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إمَامًا وَرَحْمَةً .وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)” سورة الأحقاف،

قال تعالى: “وَإنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ .(192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْـمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195) سورة الشعراء.

ولذلك اعتبر الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله تعالى فقه اللسان العربي الأصل الثالث ضمن الأصول الأربعة لمفهوم العالِم ضمن برنامج العَالِمِية،  والأصول الأخرى  هي: نصوص الوحي/العلوم الشرعية/فقه اللسان العربي/ فقه الواقع، (فريد  الأنصاري  كتاب  العالِمية  ص75)حيث اعتبره مفتاحَ الأصولِ كلِّها، وبابَ العلومِ جميعِها، وبغير اتقانه لا يكون بدء ولا يكون وصول،  وعند تدبره للآيات السابقة: قال” ذلك أن اللغة إنما هي كل ما يلغو به الإنسان من الألفاظ للتواصل مع غيره، أما اللسان : فهو الملكة البيانية التي يعبر بها المتكلم عما يجده من معان وأحاسيس، بما يجعل المتلقي  يشعر بما يشعر به المُلقي، وذلك هو البيان بمعناه القرآني، الذي امتن الله به على الإنسان فقال سبحانه “الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان”، فاللسان أصدق وأدق من اللغة في الإفصاح والبيان عن المكنون الذاتي للمتكلم. إن اللغة هي ذلك الرمز اللفظي المشترك، بينما اللسان هو ذلك المنتوج الشخصي في اللغة، فاللغة قوالب ميِّتة لا تحيَى إلى عند تحولها إلى لِسان، فاللسان أكثر ارتباطا بالهوية والإيمان والوجدان.

وهذا المعنى مبثوث في التراث الحضاري للأمة عنوانين ومضامين، فنجد مثلا كتاب “لسانِ العرب” لابن منظور، وليس لغةَ العرب، وفي ألفية ابن مالك في النحو والصرف:

كلامنا لفظ مفيد كاستقم …واسموفعلثمحرفالكلِم
واحده كلمة والقول عم ..…وكِلمةبهاكلامقديؤم.

ومنه فإن العربية ليست لغة قوم يفخرون بها على غيرهم، ولكنها لسان دين الإسلام،وعنوان حضارة الإسلام،ففي الحديثعن أبي سلَمة بن عبد الرحمن قال : جاء قَيسُ بن مُطَاطيّة إلى حلَقةٍ فيها سلمانُ الفارسي وصهيبٌ الرومي وبلالٌ الحبشي فقال : هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذه الرجل فما بال هؤلاء؟ فقام إليه معاذ بن جبل فأخذَبتَلْبِيبِه ، ثم أتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بِمقالته ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يجر رداءه حتى دَخل المسجد، ثم نُودي: الصَّلاة جامعَة ، وقال : أيها الناس ، إن الربّ واحد، والأبَ أبٌ واحد، و إن الدين واحد، وليست العربية بأحدكم من أبٍ ولا أُم، وإنما هي اللِّسان ، فمن تكلم العربية فهو عَربي ، فقام معاذ بن جبل وهو آخذ بتَلْبِيبه قال : فما تأمرنا بهذا المنافق يا رسول الله ؟ قال : دعه ، إلى النار ، فكان قيسٌ ممن ارتد في الرِّدة فقُتل .قال ابن تيمية هذا الحديث ضعيف..لكن معناه ليس ببعيد بل هو صحيح من بعض الوجوه. والشاهد في الحديث:” وليست العربية بأحدكم من أبٍ ولا أُم، وإنما هي اللِّسان ، فمن تكلم العربية فهو عَربي”

وعند النظر في تراث الأمة العلمي والحضاري نجد تصديق معاني هذا الحديث، حيث نجد أن أعظم علماء العربية هو سيبويه الفارسي، ونجدأعظم شيوخ الحديث النبوي البخاري ومسلم والترمذي من أصول غير عربية، كما نجد علماء أمازيغ بصموا باللسان العربي في تراث الأمة كابن خلدون والمختار السوسي وابن البناء المراكشي.

قال الإمام الشافعي رضي الله عنه في الرسالة ص47:” فعلى كل مسلم أن يتعلم اللغة العربية حتى يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله ويتلو بها كتاب الله، وينطق بالذكر فيما افتُرض عليه من التكبير وأُمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك، ومهما ازداد من العِلم باللسان الذي جعله الله لسانَ من ختَم به نبوته وأنزل به آخر كتبه، كان خيرا له . “ 

قال الشاطبي رحمه الله في الموافقات (2/ 102).: “وإنّما البحثُ المقصود هنا أنّ القرآن نزل بلسان العرب على الجملة، فطلبُ فَهْمِهِ إنّما يكون مِن هذا الطريق خاصة، لأنّ الله تعالى يقول: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [يوسف: 2]، وقال:بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195]، … إلى غير ذلك مما يدلُّ على أنّه عربيٌّ وبلسان العرب، لا أنّه أعجمي ولا بلسان العجم، فمَن أراد تفهّمَه فمِن جهة لسان العرب يُفهم، ولا سبيل إلى تطلُّب فهمِه مِن غير هذه الجهة.

ولا جرم أن الاهتمام بالعربية مؤشر من مؤشرات الاهتمام بالذات الحضارية، وملمح من ملامح المحافظة على الهوية الإسلامية، فالعربية هي لغة العبادة ولسان الوحي، والعالم يتجه إلى شمول الإسلام ومركزية اللغة العربية، كما تؤكد التجربة التاريخية،و بعض الدراسات المستقبلية والبشارات النبوية، فعن تَميم الداري رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
«ليَبْلَغنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهارُ، ولا يترك اللهُ بيت مَدَر ولا وَبَر إلا أدخله الله هذا الدين، بعِزِّ عزيز أو بذُلِّ ذليل، عزا يُعِزُّ الله به الإسلام، وذُلا يُذل الله به الكفر». أخرجه الإمام أحمد والطبراني وغيرهما.

والموقع الهامشي الذي تحتله اللغة العربية اليوم في بعض البلدان ليس سببه عجز هذه اللغة أو راجع إلى طبيعتها، وإنما راجع بالأساس إلى بعض الملابسات والظروف التاريخية والاجتماعية والسياسية والتشريعية،(مصطفى  محسن  في  المسألة  التربوية ص:65)،  يقول  الشاعر  حافظ  إبراهيم

رَجَعتُ لِنَفسي فَاتَّهَمتُ حَصاتيوَنادَيتُ قَومي فَاِحتَسَبتُ حَياتي

رَمَوني بِعُقمٍ في الشَبابِ وَلَيتَنيعَقِمتُ فَلَم أَجزَع لِقَولِ عُداتي

وَلَدتُ وَلَمّا لَم أَجِد لِعَرائِسيرِجالاً وَأَكفاءً وَأَدتُ بَناتي

وَسِعتُ كِتابَ اللَهِ لَفظاً وَغايَةًوَما ضِقتُ عَن آيٍ بِهِ وَعِظاتِ

فَكَيفَ أَضيقُ اليَومَ عَن وَصفِ آلَةوَتَنسيقِ أَسماءٍ لِمُختَرَعاتِ

أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌفَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي

فَيا وَيحَكُم أَبلى وَتَبلى مَحاسِنيوَمِنكُم وَإِن عَزَّ الدَواءُ أَساتي

الأمرالذي يدعو الأمة إلى الترافع من أجل التمكين لها، وإعادة الاعتبار لها للأسباب الآتية:

أولًا- اللغة وسيلة لإنقاذ الهوية والمحافظة عليها:
من المفيد هنا أن نشير إلى تجربتين في التاريخ الحديث والمعاصر تم الاعتماد فيهما على اللغة لإنقاذ الهوية وحمايتها من التداعي والاندثار. التجربة الأولى تتعلق باليابان والثانية بكوريا.

فاليابانيون مثلًا بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية خضعوا لشروط الأمريكيين في تغيير الدستور وحلّ الجيش ونزع السلاح وغير ذلك، ولكنهم رفضوا التخلي عن لغتهم القومية التي تمسكوا بها، واستعملوها في معاهدهم وجامعاتهم ودخلوا بها معتركات الحياة العلمية والصناعية المتطورة.

 وكذلك كان الكوريون الذين وقعوا تحت احتلال اليابانيين الذين فرضوا عليهم لغتهم، ومنعوا الكوريين من التعليم بلغة بلادهم، ولكنهم بعد تخلصهم من الاحتلال-بعد هزيمة اليابانيين في الحرب العالمية الثانية- وجدناهم اعتمدوا اللغة الكورية الفصيحة أساسًا للتنمية البشرية، وجعلوا في بلادهم لغة التعليم في مختلف مراحله، وتخصصاته المتنوعة، وكتبوا جميع اللافتات وأسماء المحلات بها فقط، وفي حال الاضطرار إلى كتابة أسماء أجنبية كما في لافتات السفارات والفنادق الكبرى جعلوها بالحروف الأجنبية الصغيرة تحت الحروف الكورية الكبيرة، بخلاف ما نجده في مغربنا الحبيب.
ثانيا-اللغة العربية وتعزيز الانتماء إلى الوطن والدين:

وفي هذا السياق نستحضرمواقف العلماء المغاربة وعلى رأسهم الشَّيخ العلامة أبو شعيب الدكالي الذي كان عاشقا للغة العربية، فمما جاء في خطاب له بمدينة فاس صُحبة المولى يوسف:” تعَلموا اللُّغة العربية لغَة القرآن لغة الإسلام لغة الإيمان لغة النَّبي إمام أهل العرفان لغة سلفنا المرْحومين،

حـــــفظ اللــغات علينا          فرضكحفظالصــــلاة

فليس يُحفظ دِيــــــــن           إلابحفظاللُّـــــــــــغات

كان سلفَكم يمدحون ويقدحون، ويرفعون ويضعون، ويشجعون الجبان ويطلقون يد البخيل الجعد البنان، فكونوا بهم من المقتدين، فما قرأتُ في الاسفار وما رأيت في الأسفار، لما خضْت البحار وجبت الأقطار، أقبح من المذَبذَبينَ وأعني بهم من ترك دينه ولغته…” .

ولذلك كان الشَّيخ من أشد المعارضين للظَّهير البربري الذِّي أصدرته سلطات الاحْتلال الفرنسي، وأول الموقعين ضده، لأن الظَّهير يمس وحدةَ الوطن ولُغتَه وشريعتَه وكيانَه.

وختاما
إن حماية اللغةِ العربيةِ واللسانِ العربي من أوجب الواجبات الحضارية وآكد المهمات الثقافية، لأن العربية قضية استراتيجية تمس الأمن اللغوي والثقافي والحضاري للأمة، في ظل التحديات المعاصرة والتحولات المتسارعة.

والحمد لله رب العالمين

عبد العزيز الإدريسي

السبت13جمادى الأولى1443هـ/ 18دجنبر 2021

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى