وقفة مع وصية لرسول الله في حسن الاستعداد لرمضان
الحمد ولله والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أُذكر نفسي وأحبتي في هذه الكلمة بوصية من وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم. هذه الوصية هي خير معين على أمور الدين والدنيا، وخير ما نستعد به لاستقبال رمضان، موسم الطاعات والبركات والانتصارات، وخير ما نتوسل به للثبات على طريق الدعوة والإصلاح الدعم والنصرة لأهلنا في غزة.
وفي هذه الوصية من الفوائد الجانبية الشيء الكثير فنقف على بعضها بإذن الله. وصية وجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخير شباب الأنصار، إنه معاد بن جبل رضي الله عنه، فقد روى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وغيرهم بسند صحيح عن معاذ – رضي الله عنه – قال : أخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بيدي فقال : “يا معاذ والله إني لأحبك، فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك” .
فهذا الحديث الشريف فيه بيان جملة من الفوائد والدروس، فالنبي – صلى الله عليه وسلم – يوجه وصية ثمينة وبأسلوب راق لمعاذ رضي الله عنه، بدأها ص بإمساك يده وأتبعها بألطف العبارات أجملها إلى القلوب “والله إني لأحبك ” عبارة اشتملت على ثلاث صيغ من التوكيد كما يذكر أهل العلم : القسم وإن ولام التوكيد، “والله إني لأحبك ” شهادة ثمينة حازها معاذ ض من رسول الله، وفي ليلة أحد بات كل الصحابة ينتظرون أن يكون مثل هذا الفضل من نصيبهم لما أعلن فيهم : ” لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله “.
فما الذي أوصل معاذ رضي الله عنه لهذا المقام ؟ ، فقد كان حديث السن ومن كبار الأنصار اشتغل بالتعلم عن رسول الله حتى أصبح أعلم الصحابة بالحلال والحرام، وأمر رسول الله المسلمين أن يأخذوا القرآن قراءة من أربعة كان رابعهم معاذ بن جبل ، وقد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم – إلى أهل اليمن داعيا وقائما بأمر الله فيهم بالبيان والقضاء والحكم، وقد حضر رضي الله عنه كل غزوات رسول الله ولم يتخلف قط . فأخذ رسول الله بيد معاذ وتقديم الوصية بإعلان المحبة له، فيها من الدلالات والاشارات اللطيفة الشيء الكثير في منهج رسول الله في التربية والتوجيه، وذلك بالحرص على توفير أجواء المحبة واللطف والرحمة وحب الخير عملا بقوله تعالى :” فبما رحمةۢ من ٱلله لنت لهم ۖ ولو كنت فظا غليظ ٱلقلب لٱنفضوا من حولك “.
وهذا مما يجب الحرص على توفيره في أسرنا ومجالسنا التربوية وهيئاتنا التنظيمية وعموم مؤسسات التنشئة الاجتماعية، أما مضمون هذه الوصية الثمينة والغالية قوله “ص” : أوصيك يا معاذ: “فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك “، فقد أوصى رسول الله معاذ ومن خلاله عموم الأمة بالإكثار من طلب العون من الله تعالى في الثبات على ثلاثة أعمال عظيمة: الذكر والشكر وحسن العبادة، وذلك دبر كل صلاة على الأقل. من أجل التوفيق في ملازمة الذكر وملازمة الشكر وملازمة الاحسان في العبادة، وقد ذكر ابن تيمية – رحمه الله – أن هذا الدعاء هو أجمع الدعاء وأنفعه، وبين ذلك ابن القيم – رحمه الله – في الفوائد، والوابل الصيب.
وأول الفوائد هي أن هذه الأعمال عظيمة عند الله لما خصها الله من الفضل والخير العميم ولما لها من النفع والاثر على دين المسلم ودنياها. فهي دعوة إلى الحرص على الذكر وملازمته، والحرص على الإكثار من الشكر وملازمته، والحرص على حسن العبادة والمجاهدة من أجلها، ودعوة للإكثار من طلب العون من الله من أجل تحقيقها. فأين يتجلى خير وفضل هذه الأعمال وهاته المنازل من منازل الايمان؟
فالذكر جعله الله حياة للقلوب، قال تعالى : ” الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب ” الرعد 28 . وأثنى الله على الذاكرين والذاكرات ووعدهم رحمة منه وفضلا “والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما ” الأحزاب 35، أمر الله عباده بالإكثار من الذكر فقال : “يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا” الأحزاب 41، وقال في سورة الجمعة : “وذكروا لله كثيرا لعلكم تفلحون”.
وذكر الله عز وجل من أعظم أسباب الوقاية من الشياطين، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما : الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا سها وغفل وسوس، وإذا ذكر الله خنس. وذكر بعض أهل العلم أن من علة طلب الكثرة فيه هو كثرة وساوس الشيطان واستمرارها، ولن ينفع معها إلا ملازمة ذكر الله، ففي حديث عبدالله بن بسر : أن رجلا قال : يا رسول الله ، إن شرائع الإسلام قد كثرت علي ، فأخبرني بشيء أتشبث به ؟ قال: لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله. أخرجه الترمذي في سننه وصححه الالباني. فالذكر عمارة القلوب وحياتها وزراعة الجنة وثمارها، والذكر ضد النسيان وما يحضر في القلب وما يجري على اللسان وتنقاد له الجوار .
أما المنزلة الثانية التي أوصى بها رسول الله، هي منزلة الشكر، وقد عرفه بن القيم بقوله : “الشكر : ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده : ثناء واعترافا، وعلى قلبه شهودا ومحبة، وعلى جوارحه انقيادا وطاعة ” (مدارج السالكين)، وجعله بن عباس ض نصف الإيمان، وقد أثنى الله تعالى على خليله إبراهيم بشكره نعمه فقال : “شاكرا لأنعمه ” النحل. وقال عن نوح عليه السلام :” إنه كان عبدا شكورا “. وتوعد الشيطان بني آدم بصرفهم عن شكر الله، قال تعالى : “ولا تجد أكثرهم شاكرين “.
ووعد الله الشاكرين بالجزاء الحسن، قال تعالى : “وسنجزي الشاكرين ” ووعدهم بالمزيد، ووعد الجاحدين بالوعيد ، قال تعالى: “وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد”، وقد جمع الله تعالى الأمر بالذكر والشكر في آية واحدة فقال : “فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون ” البقرة . فأكرم به من فضل تكرم الله به على الذاكرين من عباده، فيذكرهم سبحانه في عليائه، ولا ينساهم كما ينسى المنافقين الغافلين ” نسوا الله فنسيهم ” التوبة 67 فمن لزم الذكر وداوم على الشكر رزق حسن العبادة، عاش القرب من الله والأنس بذكره واستشعر فضله ونعمه عليه، فيرزق حسن العبادة.
وهي المنزلة الثالثة في الوصية طلب حسن العبادة، والعبادة “اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة ” وحسنها : أن تقع على الوجه المرضي شرعا وغاية. والإحسان في الأصل هو الإتقان، كما قال تعالى : “الذي أحسن كل شيء خلقه ” السجدة 7 ، أي أتقنه وأحكمه، وقد يطلق الإحسان ويراد به مراقبة الله واستشعار عظمته وفضله، كما عرفه رسول الله في حديث جبريل ” الاحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك “. وبهذا يكون تطلع المؤمن أن تكون كل عباداته بإتقان وإخلاص وخشوع. وقد جعل الله تعالى علة الوجود في قوله : ” ليبلوكم أيكم أحسن عملا “.
فكل الأعمال التي يحبها الله ويرضاها تحتاج منا لجهد في الإحسان والإتقان وكثرة الاستعانة بالله للتوفيق في ذلك. فالصلاة عمود الدين روحها الخشوع وعلى قدر الخشوع يكون أجر الصلاة وفائدتها قال تعالى: “قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون .” وأكبر ما يحسن بنا الاشتغال به ونحن نستعد لموسم الخيرات التدرب على تحسين وزيادة الخشوع في صلواتنا، فنستشعر فيها الوقوف بين يدي رب العالمين، ومناجاته سبحانه، وبث همومنا وحاجاتنا وقضايانا الخاصة والعامة بين يدي العزيز الكريم.
وعبادة الصيام أجرها مرتبط بمدى الإحسان في أدائه، كما في الحديث: ” فرب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر ” صحيح الجامع. ونحن في عملنا الدعوي والإصلاحي في إطار حركة التوحيد والإصلاح المباركة، نتعبد الله بكل مهامنا وأدوارنا التنظيمية والتربوية ومناشطنا الدعوية والإصلاحية في المجتمع وخدمتنا للشباب والأسرة وانحيازنا لوطننا ولقضاياه وقضايا أمتنا، كل هذا نبتغي به وجه الله والدار الآخرة، ونتطلع فيه أن نكون من المحسنين ليحصل النفع والأجر. قال تعالى: “كذٰلك يضرب الله الحق والباطل ۚ فأما الزبد فيذهب جفاء ۖ وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ۚ كذٰلك يضرب الله الأمثال ” الرعد 17.
وعبادة الوقت أو واجب الوقت في نصرة طوفان الأقصى نتطلع أن يكون أكثر إحسانا وأقوى أثرا بكل الوسع الصادق فينا عسى أن يوفقنا الله ليجعلنا من المناصرين ولا يجعلنا من المنتظرين. وهذا رمضان على الأبواب، موسم الطاعات والخيرات والبركات، جعل الله فيه من العطايا والخيرات مالم يجعل في غيره، وميزته الكبرى هذه السنة معركة طوفان الأقصى والعدوان الهمجي على أهلنا في غزة، فمفتاح التعرض لهذه الخيرات وربح ما أعده الله لعباده فيه من الفضل والنصر، هو هذه الوصية الثمينة: الاستعداد للاشتغال بذكر الله وبشكره وبالإحسان في عبادته، ثم الإلحاح على الله تعالى والتضرع إليه طيلة هذه الأيام المتبقية طلبا لعونه سبحانه وتعالى على ذلك، فمن حظي بعون الله في هذه الأعمال الجليلة فقد جمع كل الخير، وربح كل الأجر والفضل، وأفرح الله قلوب العالمين بالفرج والنصر .
فاللهم فارج الهم وكاشف الغم ومجيب دعوة المضطرين أغث أهلنا في غزة، وعجل بوقف العدوان عنهم، اللهم كن لهم عونا ونصيرا ووليا وظهيرا، يا أرحم الراحمين يا رب العالمين. وبلغنا اللهم رمضان وأعنا فيه على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك .
والحمد لله رب العالمين .
ذ. عيسى لبعير مسؤول الجهة الكبرى للقرويين