هكذا أرى الإسراء والمعراج في ضوء المنطق الرياضي – حسن المرابطي
لقد ألفنا منذ سنوات، بعد انتشار مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الالكترونية، إثارة النقاش حول معجزة الإسراء والمعراج؛ وأصبح من غير الطبيعي مرور ذكرى هذه المعجزة دون طرح نفس الأسئلة والشبهات؛ لاسيما بعدما صار الكل يدعي العقلانية والدعوة إلى فهم الإسلام على أساسها؛ مع نبذهم لمنهج النقل الصرف.
وعليه، بات الكثير من المهتمين تفسير الإسلام بمنهج عقلاني، حسب اعتقادهم؛ مما جعلهم يشككون في كثير من القضايا والأحكام؛ بل هناك من تجرأ وأنكر أمورا من صنف المعلوم من الدين بالضرورة؛ حتى ظهر منا من يخجل من ذكر بعض هذه القضايا والأحكام تفاديا للاستهزاء به وتجنبا لوصفه بالجمود والإيمان بالخرافات والأساطير؛ لكن عند النظر في حال هؤلاء، للأسف، نجدهم لم يستوعبوا الإسلام كما هو، ولا أدركوا مفهوم العقلانية التي أتى بها القرآن الكريم، رغم كل ما يدعونه من العقلانية ومحاولة فهمهم للإسلام من خلال المناهج العلمية وتوظيفهم العلوم الرياضية والفيزيائية وغيرها.
لذلك، عند محاولة تفسير معجزة الإسراء والمعراج، كما وردت في النصوص الشرعية، القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، نجد من سقط في كثير من الأخطاء وخالف تلك العقلانية التي يتبناها، لاسيما من يحاول استعمال الرياضيات والفيزياء في التشكيك ونفي كل ما يتعلق بها من تفاصيل وأحداث، بحجة عدم عقلانيتها واستحالة تفسيرها علميا.
قبل البدء في مناقشة أدلة هؤلاء، لابد من التنبيه على أن المعجزة لم توصف بهذا الوصف إلا لكون الإنسان في هذا العالم الدنيوي غير قادر على فعل ذلك؛ ولكن هذا لا ينفي عدم إدراكه واستيعابه لها؛ بل يمكن له حتى توظيف المنطق الرياضي في تقريب معانيها وتفسيرها، وليس في إنكارها كما يتوهمون.
وبالتالي، فإن منطق الرياضيات، حسب ما تعلمناه عند دراستها خلال المرحلة الجامعية وحتى ما قبلها، هو عدم التسرع في نفي حل المعادلات والمسائل المعقدة؛ بل أدركنا أن ما عجزنا عليه في مرحلة ما، نجد أننا أصحاب قدرة عليه في المرحلة الموالية؛ وهكذا حتى مع بعض المسائل الفيزيائية؛ وهذا الأمر هو الذي يفسر ما توصل إليه العلم من اختراعات واكتشافات جديدة، لأن الإنسان لم يتوقف على التفكير خارج الصندوق واحتمال وجود تفسير أو منهج جديد، بل حتى قواعد جديدة قد تكون مخالفة لما هو عليه العلم الآن؛ وحتى يتضح ما نود التنبيه إليه، لا بأس من ذكر مثال على ذلك.
لقد تعلمنا في الرياضيات عند محاولة البحث على حل بعض المسائل والمعادلات تحديد المجال الذي نشتغل فيه، ومن المعروف أن هذا المجال قد يكون ممكنا من الناحية الواقعية وقد لا يكون، فضلا عن جمع أكبر عدد من المعطيات والمعلومات ذات الصلة بها، ولما لا افتراض بعضها إن كانت قد تسهل عملية التفكيك وإيجاد الحل.
لذلك، فإن الحل الذي تقتضيه معادلة ما في مجموعة الأعداد الطبيعية يختلف تماما عما تقتضيه في مجموعة الأعداد العقدية، وربما خلال محاولة حلها في المجموعة الأولى يؤدي بنا إلى القول بالاستحالة، فيما نقول بوجود حل في المجموعات التي تليها، كمجموعة الأعداد الكسرية والنسبية والحقيقية مثلا؛ وربما يتسع مجال حلها كلما انتقلنا من مجموعة إلى أخرى، دون أن نشعر بأي حرج عند عدم إيجاد الحل في المجموعة الأدنى ووجوده في المجموعة الأعلى منها؛ بل قد لا نستطيع حل هذه المعادلة أصلا إلا بإضافة معطى الأبعاد وهكذا.
لا بأس من التذكير أنه خلال مسارنا الدراسي، قد قيل لنا أكثر من مرة أن بعض العمليات الرياضية مستحيلة، واكتشفنا فيما بعد أن المقصود هو استحالتها في مجال دون الآخر (ضرب العدد في نفسه بالضرورة يكون موجبا عندما نشتغل في مجموعة الأعداد الحقيقية، لكن يمكن أن يكون سالبا في مجموعة الأعداد العقدية).
وأما إن تحدثنا في تفسير بعض الظواهر الكونية واكتفينا بالأبعاد الثلاثة في الفضاء كما هي معروفة لدى الجميع، لتوقف الإبداع والإنتاج؛ لكن نجد من العلماء من تحدث عن بعد رابع وخامس وهكذا؛ مما جعل علوم الرياضيات والفلك والفيزياء تتطور أكثر، ويجد الباحث حلولا لظواهر مختلفة، بل ذلك قد ساهم في توسيع دائرة الإبداع والاختراعات؛ وما على المرء الذي لا يدرك هذه الأشياء إلا القيام ببحث خفيف على الانترنت حتى يجد نفسه منبهرا بما كان يعتقده، وربما سيغير كثيرا في طريقة تفكيره ويتوسع لديه الإدراك أكثر ويجعله يتقبل من الأمور ما يظنه مستحيلا ذات يوم.
ومن المرجح جدا إن بدأنا في إعطاء الأمثلة على تفاوت الحلول والتفاسير، كلما تطور علم الرياضيات والفيزياء وغيرها، لأدركنا أن عقل الإنسان يتسع خياله لأكثر مما يعرفه اليوم؛ وقد لا يجد حرجا في تقبل أمور وإدراك أخرى وهكذا؛ بل يحق لنا أن نقول: إن الإنسان، خلال كل المراحل التي مر منها، كان إنسانا عاقلا، حيث تفاوتت مداركه دون أن نسمح لأنفسنا بوصفه إنسانا فيما مضى غير عقلاني، لأنه رفض بعض الأمور التي أصبحت اليوم من البديهيات.
وبالتالي، فإن كانت مدارك الإنسان تطورت مع الزمن في تفسير ما وجده على هذه البسيطة، فإن مداركه خلال تعامله مع الخالق سبحانه وتعالى والمعجزات التي أتى بها الأنبياء والرسل عليهم السلام لن يرفضها، بل سيؤمن بكل ما أتوا به ولو بدا الأمر غير ممكن، ولتذكر أن ما يحكم هذه المعجزات أكبر وأوسع مما قد يتصوره أو يتخيله، وأنه يدخل في مجال غير المجالات التي سمح الله له بالتصرف فيها.
وعلى سبيل الختم نقول: إن ذلك العقل الذي يتبجح به البعض قد ينكر أمورا ويقبلها فيما بعد، وقد يقع العكس تماما؛ مما يعني أن تلك العقلانية التي أصبحت في نظر البعض إلاها يُعبد من دون الله لم تكتمل بعد ودائما في تطور وتقدم؛ بل تبقى حبيسة ما توفر لها من أمور مادية ملموسة، مهما قاتلت من أجل تحقيق التجرد المزعوم؛ وهذا الأمر يأخذنا إلى الاستعانة بما ذهب إليه الفيلسوف طه عبد الرحمن، في كتابه العمل الديني وتجديد العقل، عندما قسم العقل إلى ثلاث مستويات: أدناها العقل المجرد الذي لا ينفك عن الماديات وهو الذي أشرنا إليه أعلاه، وبعدها العقل المسدد والعقل المؤيد.
وبالتالي، فإن ما يحاول البعض رفضه باسم العقلانية، لا يعدو أن يكون من المستوى الأول والذي يمنح، رغم ذلك، إمكانية تصور ما يخالفه إن دققنا النظر؛ بل إن ما يعتبرونه غير عقلاني من المعجزات، والغيبيات عموما، هو أكثر عقلانية مما يتصورونه لأنه ممكنا في المستوى الأعلى للعقل الذي يمثله العقل المؤيد حسب وصف الفيلسوف طه.
وبخلاصة: إن معجزة الإسراء والمعراج حدث عقلاني ويقبله المنطق، وكذلك جميع الأمور الغيبية والمعجزات؛ بل حتى تلك الأحكام التي لم يتم بعد استيعابها بالعقل المجرد المادي وتفسيرها، فإنها في قمة العقلانية، وأن قليلا من النظر يجعلها ممكنة مهما بدت مستحيلة.
اللهم ارزقنا المنطق والعمل به.