موعظة وبيان في معنى الإماتة والإنامة

عباد الله موعدنا اليوم مع تأملات تفكرية في قوله تعالى: في سورة الزمر: (اللَّهُ يَتَوَفّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِها والَّتِي لَمْ تَمُتْ في مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْها المَوْتَ ويُرْسِلُ الأُخْرى إلى أجَلٍ مُسَمًّى إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾، فالآيَةُ أفادَتِ إبْرازَ حَقِيقَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِن نَوامِيسِ الحَياتَيْنِ : الحياة النَّفْسِيَّةِ والحياة الجَسَدِيَّةِ، اللَّهُ سبحانه يَتَوَفّى الأنفس لا غَيْرُهُ فَهو قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ يظهر فَسادِ عقيدة من أشْرَكُوا بِالله آلِهَةً لا تَمْلِكُ تَصَرُّفًا في أحْوالِ النّاسِ. والتَّوَفِّي معناه  الإماتَةُ، وُسُمِّيَتْ الإماتةُ تَوَفِّيًا لِأنَّ اللَّهَ إذا أماتَ أحَدًا فَقَدْ تَوَفّاهُ أجَلَهُ فَ (اللَّهُ) المُتَوَفِّي ومَلَكُ المَوْتِ مُتَوَفٍّ أيْضًا لِأنَّهُ مُباشِرُ التَّوَفِّي. والمَيِّتُ: مُتَوَفّى بِصِيغَةِ المَفْعُولِ والأنْفُسُ:جَمْعُ نَفْسٍ، وهي الشَّخْصُ والذّاتُ قالَ تَعالى﴿وفِي أنْفُسِكم أفَلا تبصرون) [الذاريات: ٢١].

وتُطْلَقُ النفس عَلى الرُّوحِ الَّذِي بِهِ الحَياةُ والإدْراكُ. والمَعْنى: الله يَتَوَفّى النّاسَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ، فَإنَّ الَّذِي يُوصَفُ بِالمَوْتِ هو الذّاتُ لا الرُّوحُ لأّن الروح طاقة لا تموت بل تُسلب عن الجسد.( فكل جسم حي حين يموت تذهب منه الطاقة وهي الروح، وتبقى المادة، وتتحلل المادة إلى عناصرها الأولية من معادن وأملاح، وتكون هذه العناصر هي التي تجعل التربة خصبة وتُثمر ما يأكله الإنسان والحيوان والطير والحشرات لتعيش ثم تموت، وتدور دورة الحياة والموت كل منهما يكون سببا للآخر وتستمر الحياة، وصدق الله إذ يقول:(خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكمُ أحسن عملا) فالفرد يموت ولكن النوع يستمر في الحياة والشخص يموت ولكن “الإنسان باق”، وبذلك فإن الحياة مستمرة والموت هو تجديد وذهاب إلى حيث الحساب على ما فعله في حياته، قال تعالى:(والَّتِي لَمْ تَمُتْ في مَنامِها) أي ويَتَوَفّى أنْفُسًا لَمْ تَمُتْ في مَنامِها كُلَّ يَوْمٍ وهذه حَقِيقَةٍ عِلْمِيَّةٍ، فَإنَّ حالَةَ النَّوْمِ حالَة انْقِطاعِ أهَمِّ فَوائِدِ الحَياةِ عَنِ الجَسَدِ وهي الإدْراكُ سِوى أنَّ أعْضاءَهُ الرَّئِيسِيَّةَ لَمْ تَفْقِدْ صَلاحِيَتَها لِلْعَوْدَةِ إلى أعْمالِها حِينَ الهُبُوبِ مِنَ النَّوْمِ، النوم الذي هو أيضا من آيات الله و نعمه على خلقه  قال سبحانه : (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)الروم ) ولِذَلِكَ قالَ تَعالى ﴿وهُوَ الَّذِي يَتَوَفّاكم بِاللَّيْلِ ويَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكم فِيهِ ليُقضَى أجل مسمى﴾] الأنعام: ٦٠[  والفاءُ في (فَيُمْسِكُ) فاءُ الفَصِيحَةِ. والإمْساكُ: الشَّدُّ بِاليَدِ وعَدَمُ تَسْلِيمِ المَشْدُودِ. والمَعْنى: أيْ يَمْنَعُ النفس التي قضى( أي حكم) عليها الموتَ أنْ تَرْجِعَ إلى الحَياةِ، ومِن لَطائِفِ هذا الإطلاق أنَّ أهْلَ المَيِّتِ يَتَمَنَّوْنَ عَوْدَ مَيِّتِهِمْ لَوْ وجَدُوا إلى عَوْدِهِ سَبِيلًا، ولَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يَسْمَحْ لِنَفْسٍ ماتَتْ أنْ تَعُودَ إلى الحَياةِ.

ومن الملاحظات التي توقف عندها العلماء: أن أكبر ما يصيب الإنسان ويؤدي به إلى الموت يأتيه من داخله، وكذلك ما يتسبب في انهيار المجتمعات يأتي من داخلها أيضا، وخلايا الجسم تعمل بنظام فيه توازنٌ دقيق يحقق صحة وسلامة الجسم، فإذا فقدت خلية من خلايا الجسم اتزانها فإنها تنقسم، ويتوالى انقسامها وتتضخم وتتشعب في أنحاء الجسم، وتبدو في حالة من الشراهة و التشوه مع أنها بدأت مجرد خلية لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة، ولكن هذه الخلية الشرهة الشوهاء هي الخلية السرطانية، وهذا ما يحدث أيضا في المجتمعات وعلى مدى عصور التاريخ قامت حضارات ودول وانهارت حضارات ودول بسبب الاختلال الذي حدث في داخلها. وكما أن أعداء خلايا الجسم هي “الميكروبات والفيروسات” وهي صغيرة ودقيقة تحوم في الهواء وفي الماء وفي الطعام، فقد خلق الله خط الدفاع الأول في الجسم هو الجلد والخلايا المبطنة للأنف والزور والأمعاء، فإذا استطاع الميكروب أن يخترق خط الدفاع الأول يبدأ عمل خط الدفاع الثاني وهو خلايا مُقاتلة تدور في الدم باستمرار، هي كرات الدم البيضاء، وتدور معركة ضارية سينتصر فيها أحد الطرفين، ويتوقف النصر على قوة كل طرف، وإذا فشل خط الدفاع الثاني يبدأ عمل خط الدفاع الثالث متمثلا في الأجسام المضادة وهي بروتينات متخصصة لمهاجمة الميكروبات، والجسم يستطيع غالبا أن ينتصر على الأعداء الخارجيين وهي الميكروبات والفيروسات، ولكنه كثيرا ما ينهزم من أعداء الداخل وهي الخلايا السرطانية.

(ويرسل الأخرى) أي الأنفس التي لم تمت ولَكِنَّ اللَّهَ جَعَلَها بِمَنزِلَةِ المَيِّتَةِ. والمَعْنى: يَرُدُّ إلَيْها الحَياةَ كامِلَةً. والمَقْصُودُ مِن هَذا إبْرازُ الفَرْقِ بَيْنَ الوَفاتَيْنِ. وفاة فيها سلبُ الحياة كاملة لا رجعة فيها وهي الموت، ووفاة فيها رجعة حالة النوم فَلا يَسْلُبُها الحَياةَ كُلَّها إلّا في أجَلِها المُسَمّى أي المُعَيَّنِ لَها في تَقْدِيرِ اللَّهِ تَعالى. ثم جُمْلَةُ ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ أيْ أنَّ في حالَةِ الإماتَةِ وحالة الإنامَةِ دَلائِلَ عَلى انْفِرادِ اللَّهِ تَعالى بِالتَّصَرُّفِ وأنَّهُ المُسْتَحِقُّ لِلْعِبادَةِ دُونَ غَيْرِهِ، وأنْ لَيْسَ المَقْصُودُ مِن هَذا الخَبَرِ الإخْبارَ بِاخْتِلافِ حالَتَيِ المَوْتِ والنَّوْمِ فكلنا يعرف هذا الفرق بَلِ المَقْصُودُ التَّفَكُّرُ والنَّظَرُ في مَضْرِبِ المَثَلِ، وفي دَقائِقِ صُنْعِ اللَّهِ والتَّذْكِيرُ بِما تَنْطَوِي عَلَيْهِ مِن دَقائِقِ الحِكْمَةِ الَّتِي تَمُرُّ عَلى كُلِّ إنْسانٍ كُلَّ يَوْمٍ في نَفْسِهِ، وتَمُرُّ عَلى كَثِيرٍ مِنَ النّاسِ في أهلِهِمْ وفي عَشائِرِهِمْ وهم مُعْرِضُونَ عَمّا في ذَلِكَ مِنَ الحِكَمِ وبَدِيعِ الصُّنْعِ، فمن منّا من لم يشهد موتا أو لم يذق حُرقة فقدان صديق أو عزيز؟ الموت لم يستثن أحدا، يُحْدِث فينا صدمة آنية لكن نتجاهلها بالانخراط مجدّدا في صخب الحياة فتبتلعنا ونغفل مع الغافلين.

كثيرة هي وعديدة الجنائز الّتي مشينا فيها أو وقفنا إجلالا لمرورها، بيد أنّ إحساسنا بأنّنا معنيّون بالموت إحساس لا يناسب خطورة موضوعه، فغالبا لا نستشعر حقيقة وقع الموت إلاّ حين نُصدم في حبيب أو قريب كان يحتلّ مساحة هامّة في حياتنا شغرت برحيله واستحال علينا تعويضُه، كما أنّنا قد لا نشعر بأنّه قريب منّا إلّا حين التعرّض لأزمات صحّية حادّة أو لحادث خطير مع أنّنا نتعايش مع الموت في كلّ لحظة نعيش فيها.

نعم، الموتُ حقيقة واقعة لا محالة تصدمنا في نهاية طريقٍ قد يطول أو يقصر بسبب أو دون سبب وفي بعض الأحيان بما لم يكن في الحسبان، وهي نهاية حتميّة لأيّ كان مهما طال به العُمُرُ أو اتّخذ له من التّحصينات أو اعتقد واهماً أنّ الدّنيا منحته صكّ أمان. لقد مات خير من كان ومن هو لقصّة الوجود عنوان صلى الله عليه و سلم فكيف لا لبقيّة الأنام؟ “إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ” (الزمر، الآية 30).

نعم أيها المؤمنون الموت ليس بزائر غريب فهو يعرفنا بقدر جهلنا به أو تجاهلنا له، فنحن نعيش ظاهرة الموت في كلّ لحظة وحين، فكلّ خلايانا تحمل كتاب موتها المبرمج فتموت الملايين منها لتبرز ملايين أخرى في توازن بديع بين نظامي الموت والحياة وعمليّات الهدم والبناء وقد يختلّ التّوازن وينهار أحد النّظامين لينتصر الآخر قال تعالى “يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ” (الروم، الآية 19). لذلك جَعَلَ سبحانه الإماتة والإنامة حالتان تَدُلان عَلَى آياتٍ كَثِيرَةً لِأنَّهما حالَتانِ عَجِيبَتانِ في كُلِّ حالَةٍ تَصَرُّفٌ يُغايِرُ التَّصَرُّفَ الَّذِي في الأُخْرى، وهو المراد من قوله : ( إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون).

ذ. سعيد منقار بنيس

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى